يبدو يوسي بيلين، الزعيم الجديد لليسار الإسرائيلي، في المقابلة الخاصة مع هذا العدد من (المشهد الاسرائيلي)، متفائلا من زوايا عدة نقاط محددة، الأبرز بينها (مبادرة جنيف) وأن الأزمة ليست كامنة في صفوف اليسار الاسرائيلي، الذي يتأهب لقيادته نحو "إنتصارات جديدة" إشتاقت نفسه إليها بعد سنوات عجاف من الهزائم المتكررة .
وعلى خلفية تفاؤل بيلين هذا نشير إلى أنه لا تزال تتردد أصداء المقابلة المطوّلة (جدًا) التي أجراها الصحافي آري شفيط مع الكاتب الاسرائيلي أ. ب. يهوشع بالتوازي مع صدور روايته الجديدة "مهمة المسؤول عن الموارد البشرية"، التي تتخذ من العمليات الاستشهادية الفلسطينية موتيفًا مركزيًا (هآرتس، 19/3/2004). في هذه المقابلة بدا يهوشع، وهو المعدود على "رموز" اليسار الاسرائيلي الذي نفى عنه بيلين خاصية الأزمة، غير متفائل البتة وتحديدًا من (مبادرة جنيف). أما الأرضية العامة لعدم تفاؤله، حتى لا نقول تشاؤمه، فإنه يحيلها، بكيفية ما، إلى الجوانب غير العقلانية في مسلكية الفلسطينيين، التي لم يعد التغاضي عنها ممكنًا.
ومن هنا، من نقطة أنه يمنّ على قرائه، بصورة باطنية، تغاضيه عن مسلكيات أخرى للفلسطينيين، اختزل يهوشع الطرق كافتها لكي يصل إلى موقع يصعب إستشفافه لكنه قد يتراءى، للوهلة الأولى، شديد الخصوصية بالنسبة ليساري مثله، جعله يمنح إعتماده أو إئتمانه، كحرفية قوله، إلى شخص أريئيل شارون، رئيس الوزراء الاسرائيلي، معربًا عن إعتقاده اليقيني بأنه سيفعل " أمرًا ما يرتقي إلى المستوى الديغولي"، وذلك ردًا على سؤال للسائل (يتعين القول إن فيه إستغرابًا منضفرًا مع قدر من الإستفظاع) فيما إذا كان يهوشع يؤمن حقًا بأن شارون سيكون (ديغول الاسرائيلي)؟
أما لماذا شارون بالذات، فلأنه في التحصيل الأخير، وفقما يقول يهوشع، يحمل في جوفه حامضًا نوويًا (دي. إن. إيه) هو الحامض النووي نفسه لحركة "العمل"، ناهيك عن خطة "فك الارتباط" من طرف واحد، التي كان يهوشع من أوائل الذين هجسوا بها، بتأثير من الدوافع نفسها التي تحرّك شارون وفي طليعتها تكريس صيرورة إسرائيل كدولة ل"الشعب اليهودي"!
ويضيف: إن ما يميزه (شارون) هو تلك العلاقة الحارًة مع الأرض. إنه أشبه بشخصية الجنرال المزارع. وعلى مدار كل السنوات فإن ما كان يمثله هو صمود الثور في مواجهة الخصم والحاجة إلى إبداء القوة، ولكن على وجه الخصوص العلاقة مع الأرض. في شارون شيء ما يرتبط ببدايات الصهيونية وضرورة إمتلاك الأرض والسيطرة على الأرض وفهم أهمية الأرض.
ولم ينبس يهوشع، بشأن سؤال لماذا شارون بالذات، بأكثر من هذا.
بيد أنه لدى مطالعة مقابلة ثالثة أدلى بها المؤرخ الاسرائيلي إيلان بابه، أيضًا للعدد الحالي من (المشهد الاسرائيلي)، نعثر على إشارات صافية وصريحة إلى ما سكت عنه يهوشع عندما أجاب عن: لماذا شارون حصرًا؟.
"يجب فهم النهج الذي اتبعه شارون حتى الان وفهم النهج الذي سيسلكه في المستقبل القريب" – يقول بابه. ويضيف: وأنا ارى إلى ذلك بنظرة شاملة، وليس فقط ما يتعلق بشارون شخصيا. أعتقد ان شارون، والكثيرون لا يلتفتون الى ذلك، ينتمي الى حركة "العمل" الصهيونية. أي أنه ينتمي للتيار الصهيوني المركزي أكثر مما ينتمي الى التيار اليميني المتطرف. وخلافا لما يعتقده الكثيرون فان هذا التشخيص يعني ان مخططه آخذ بالتبلور بشكل واضح للغاية. وهذا المخطط مقبول جدا على أشخاص مركزيين في حزب "العمل" ولذلك فهو جزء من الاجماع الاسرائيلي. وبحسب رأيهم، فانه يتوجب القيام بمحاولات معينة في هذه الفترة بالذات بسبب الموقف الأمريكي، واستغلال ذلك من أجل فرض واقع من جانب واحد: فرض حدود اسرائيل الشرقية، الحدود مع قطاع غزة. وهذا يعني توسيع مساحة اسرائيل. فمساحة اسرائيل كانت في العام 1967 تعادل 78% من مساحة فلسطين، والآن يحاولون توسيع هذه المساحة لتصبح 85% او 90%. والحقيقة ان شارون لن يهتم اذا اطلقوا على ما تبقى من الارض إسم دولة فلسطين. فهو يقول لنفسه ان هذه الدولة ستكون بدون جيش ومنزوعة السلاح ومقطعة الاوصال، ونحن سنسيطر على حدودها وسمائها واقتصادها ونبني سورا هائلا وسنطرد اليها كل من يزعجنا في جانبنا، هذا يعني ان مخطط شارون يستند الى مبدئين أساسيين للحركة الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر هما: الاستيطان والترانسفير.. والهدف هو الحصول على اكبر قدر ممكن من الارض الفلسطينية واقل عدد من الفلسطينيين عليها. وشارون يعلم انه سيبقى هناك فلسطينيون في دولة اسرائيل لكنه، مثل شمعون بيرس، الذي لا يقول ذلك بشكل واضح، يريدان تقليص الوجود الفلسطيني في اسرائيل الى الحد الادنى الممكن. وهم يدعون، في هذا السياق، انه لا يمكن اقامة دولة دمقراطية هنا اذ لم تكن الاكثرية فيها من اليهود. هذا هو هوسهم.
وهنا بيت القصيد، الذي كان اليسار الاسرائيلي ولا يزال يظهر عنده عاريًا من كل أقنعته، متدثرًا بأزمته الكبيرة، حتى وإن نفاها زعيمه الجديد بطريقة مقايسة تبسيطية مؤداها أنها أخفّ وطأة من أزمة اليمين.
إن مناسبة المقابلة مع بابه هي إنعقاد مؤتمر هو الأول من نوعه في حيفا، الأسبوع الفائت، حول "حق العودة والسلام العادل". وقد وقفت خلف هذا المؤتمر رسالة هامة هنا والآن: التذكير بأن التركيز على راهن الصراع ، إلى ناحية إثارة الحنق على الإتجاهات الدموية المستغولة، والذي لم تنتف حاجته وضرورته في آن، لا يوسّد، بل ينبغي به ألا يوسّد غاية تغييب الماضي، الذي من فرط إصراره على ألا ينقضي يظل حاضرًا على الدوام عند التفكير بالمستقبل.
وليس من قبيل المفارقة أن رسالة كهذه تكتسب مشروعيتها أيضًا من المواقف التي عبر عنها يهوشع في مقابلته المذكورة، فإن غاية التغييب احتلت حيزًا كبيرًا في تلك المقابلة، لكنها أخذت منحى "إستعادة" ما جرى تغييبه من الماضي، في نوع من الاعتداد، لصالح تشييد "الكينونة الاسرائيلية" مثل التخلي عن المركبات العربية في الهوية (الحالية) والتباكي على سياسة "بوتقة الصهر" التي أخلت مكانها لسياسة التعددية الثقافية ( في مستواها الشديد البهتان).
ومن يقرأ وقائع الكلام نفسه تتملكه الدهشة من براعة يهوشع في تسويغ مبررات إنسلاخه عن ماضيه كله، الشخصي والأسري والثقافي، كما لو أنه في العمق يروّج لفكرة الإنسلاخ عن الماضي بإطلاقيتها لا في بعدها النظري فحسب بل وأيضًا في ممارستها الاسرائيلية، لأن فيها لأمثاله خلاصًا مشتهى من ماضي التاريخ والجغرافيا والدمغرافيا، يحيل بدوره إلى الخلاص الموهوم الذي يستقتل للإستنقاع في الحاضر.
وهكذا في لا وعيه، إن لم يكن في وعيه التام، حدّد لنا يهوشع الجانب الأشد إثارة في أزمة اليسار الاسرائيلي المستفحلة. وقد جاءت جريمة إغتيال مؤسس حركة "حماس"، الشيخ أحمد ياسين، بمثابة ضغث على ابالة هذه الأزمة، كما يشير من طرف خفيّ مقال المعلق السياسي في صحيفة "هآرتس"، الذي تطالعون ترجمته في مكان آخر، وازدادت سببًا مجموعة الأسباب التي تؤكد أنها من الاستعصاء بحيث لا يقدر عليها مجرد تفاؤل يمكنه أن ينحي اليأس جانبًا ( ويجب أن ينحّى) لبعض الوقت لكن ليس في مقدوره أن يجانب الواقع طوال الوقت.