المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1258

تعريف:

 خبراء عسكريون ومدنيون إسرائيليون عارضوا، منذ تموز عام 2000، نهج القيادتين السياسيّة والعسكريّة، فهُمِّشوا ثمّ أرغموا على تركِ وظائفهم. غير أنهم تكتّموا طوال سنوات عن حقيقة ما جرى. اليوم، يبدو أن عقدة الألسن قد حُلَّت، وبدأت الوثائق بالظهور مشفوعةً بالكتبِ التي تتناول الأخطاء التي ارتكبتها هذه القيادة، وأدَّت إلى ما نشهده من أوضاعٍ متأزّمة، لم تجعل إسرائيل فقط في مواجهة استحقاق الانسحاب "الشاق" من قطاع غزّة وتمرّد المستوطنين عليه، بل تسبّبت أيضاً في مزيد من الوهن للسلطة الفلسطينية.

 

 

شارل أندرلن، مراسل القناة التلفزيونية الفرنسيّة الثانية، والباحث المرموق في شؤون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ـ آخر ما صدر له: "أسرار المفاوضات الإسرائيلية العربيّة (1917 ـ 1995)"، منشورات فايار، باريس 2004 ـ تابع ما نُشِر في إسرائيل مؤخراً وكتب لصحيفة "ليبراسيون" ( 13 تموز 2005 ) المقالة التالية:

 

بمضيّ نحو خمس سنوات على قمّة كامب ديفيد التي عقدت في تموز عام 2000 وعلى بداية الانتفاضة (الثانية)، بدأت عقدة الألسن تنحلّ في إسرائيل. إذ بدأ خبراء عملوا لصالح الجيش أو لقطاعات الخدمة المدنيّة، وكذلك بعض الصحافيين المرموقين، بشنّ حملة على الرواية الجامعة التي جُعِلَت أساساً لإستراتيجية إسرائيل في الصراع الراهن. وهؤلاء يتحدّثون عن موقف لا سابق له في تاريخ البلد حيث لا يكترث أصحاب القرار بالتحاليل الرسميّة المبنيّة على معلوماتٍ مستقاةٍ ميدانياً وأحياناً من الأوساط القريبة من الإدارة الفلسطينية. كما يشكّك هؤلاء بجدوى سياسة "التصفيات الموجّهة" التي تطاول ناشطين فلسطينيين.

ماتي شتاينبرغ الذي كان المستشار الأول لرئيس جهاز "شين بيت"، جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، للشؤون الفلسطينية، يتحدّث عن اغتيال مسؤولَين من حركة حماس في 31 تموز 2001 في نابلس، هما جمال سليم وجمال منصور. فقد أطلقت طائرة هليكوبتر حربيّة صاروخاً على منزلٍ كانا يقيمان فيه. وقتل في العملية أربعة آخرون من بينهم طفلان. المفارقة، يقول شتاينبرغ، إن جمال منصور كان يمثّل وجهة داعية للاعتدال داخل حركة حماس، وكان صرّح علناً، قبيل مقتله، بمواقف تعارض العمليات الانتحارية. ويضيف شتاينبرغ قائلاً إنه من غير الممكن اعتبار هذا المرشد الروحي "إرهابياً يعدّ العدّة لشنّ هجوم " بحسب المعيار الإسرائيلي الذي يُستَخدم كمبرّر لعمليات الإعدام من دون محاكمة التي ينفّذها الجيش.

غياب جمال منصور أزال الفروق التي كانت قائمة في حماس بين الجناح السياسي للحركة وبين جناحها العسكريّ. وكان شتاينبرغ قد حذّر من العواقب: إذ من الأرجح أن يكون الردّ قاسياً. 150 ألف شخص شيّعوا منصور وسليم في نابلس، هاتفين للثأر. ولم تمضِ ثمانية أيام حتّى فجّر انتحاري نفسه في مطعم سبارو للبيتزا، وسط مدينة القدس، متسبّباً بقتل 15 إسرائيلياً وجرح أكثر من مئة مدني. في ذلك الوقت عمدت الحكومة، في إجراء انتقاميّ، إلى مصادرة "بيت الشرق" في القدس الشرقيّة، المقرّ غير الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي لم تكن له أية صلة بالعملية الفظيعة.

أمّا رفيف دروكر وعوفر شيلح، وهما كاتبان إسرائيليان، فيذكران في كتابهما "بوميرانج" (سهم مرتدّ) الصادر مؤخراً في تل أبيب مصحوباً بضجّةٍ كبيرة، أنّ ضباطاً كباراً من "أمان" (جهاز الاستخبارات العسكرية) كانوا قد عارضوا، هم أيضاً، عملية نابلس. فلِماذا إذاً أعطى القادة السياسيون والعسكريون الضوء الأخضر لتنفيذ عملية التصفية تلك التي كانت مثار جدال؟

يقول أحد المحلّلين إنّ جهاز "شين بيت" لم يكن قد جمع في ذلك الوقت ما يكفي من المعلومات عن الشبكات الإرهابية في نابلس؛ لذلك اتخذ القرار بضرب هدف يسهل بلوغه، أي المسؤولين في حركة حماس، لتوجيه "رسالة حازمة إلى المنظّمات وإلى السكان الفلسطينيين".

يروي دروكر وشيلح تفاصيل إخفاق عدد من المحاولات للتوصّل إلى وقف إطلاق النار. ومن بين هذه التفاصيل ما جرى مطلع كانون الأول عام 2001. في ذلك الوقت كان ياسر عرفات يعاني من ضغط الأحداث. فقد أعلن شارون للتوّ أنّه بات "خارج اللعبة". وغادر الوسيط الأميركي، الجنرال أنطوني زيني، المنطقة محبطاً. فيعمل كلّ من تيري رود لارسن، موفد الأمم المتحدة إلى الشرق الأدنى، وميغيل موراتينوس، نظيره الأوروبي، ومعهما أيضاً محمد دحلان وجبريل رجوب، مسؤولا الأمن الفلسطيني، على إقناع الرئيس الفلسطيني بإعلان وقف لإطلاق النار؛ فيلبّي الطلب علانية عبر خطاب بالعربية بثّته وسائل الإعلام.

جاء الردّ الإسرائيلي الرسمي سلبياً. إنّه "ذرّ للرماد في العيون"، يُصرّح الناطق باسم رئاسة الحكومة في القدس. ويعمد الناطق نفسه بعيد ذلك إلى القول إنّ الانخفاض الملموس في عدد الهجمات خلال الأيام التي تلت إعلان عرفات، هي الدليل على كونه المسؤول عن الإرهاب. مثل هذا الزعم هو زعم خاطئ، يؤكّد اليوم عدد من المحلّلين الذين كانوا يتلقون معلومات ميدانية. "لم نتوفّر يوماً على دليل يؤكّد تورط عرفات مباشرة في العمليات"، يقولون. غير أنهم يردفون قائلين، "إنّ رئيس منظمة التحرير الفلسطينية يتحمّل مسؤولية كبيرة لأنه لم يسع إلى وقف أعمال العنف عندما كان قادراً على ذلك".

على كلّ حال، يقول دروكر وشيلح، في ذلك الوقت تلقّى جهاز "شين بيت" معلومات مؤكّدة بأن أوامر وقف إطلاق النار قد صدرت إلى المقاتلين من قبل مروان البرغوثي، قائد حركة فتح في الضفة الغربية (الذي حوكم في إسرائيل وصدر في حقه حكم بالسجن المؤبّد). وقد انصاع لهذه الأوامر رائد الكرمي الذي كان يقود كتائب الأقصى في طولكرم وحظر على رجاله شنّ أي هجوم على الإسرائيليين. وفي 14 كانون الثاني عام 2002 قتل الكرمي جراء انفجار عبوة ناسفة وضعتها وحدة من القوات الخاصّة الإسرائيلية.

كان اسم الكرمي وارداً على اللائحة السوداء لاتهامه بمقتل رجلين إسرائيليين قبل عام، انتقاماً، كما كان يقول، لمقتل عمّه، وهو أحد قادة فتح، على يد قنّاص من الجيش. لقد جرت تصفية الكرمي بموافقة شارون ورئيس جهاز الشين بيت ورئيس هيئة الأركان، على الرغم من معارضة عدد من الخبراء وبعض جنرالات الجيش. وكان بعض هؤلاء قد تنبّأ بانهيار الهدنة.

وفي 27 كانون الثاني نفّذت امرأة تدعى وفاء ادريس العملية الانتحارية الأولى لفتح في مدينة القدس.

في ذلك الوقت قال الجنرال غيورا أيلاند، خلال نقاش جرى في جلسة مغلقة، ما يلي: "لقد فوّتنا فرصة للاتفاق على وقف إطلاق النار، وأعتقد أنها فرصة لن تتكرّر. حتّى اليوم كنّا نخوض حرباً ضدّ منظّمات إرهابية لا تمثّل غالبية الفلسطينيين. ولكنّنا، من الآن فصاعداً، قد أعلنا الحرب على الشعب الفلسطيني". فيما بعد سوف يصرّح بنيامين بن إليعازر، وزير الدفاع (العمالي) آنذاك، بأن "تصفية الكرمي كانت أكبر خطأ ارتكبته إسرائيل خلال الانتفاضة".

ويؤكّد الكولونيل إفرايم لافي الذي كان يرأس "الفرع الفلسطيني" في الاستخبارات العسكرية، أن المواجهة المسلّحة مع الفلسطينيين لم تكن أمراً لا يمكن تجنّبه. "لقد أصدر جهازنا بين صيف 1998 وآذار 2002 تقارير تحليلية خطيّة حول موقف ياسر عرفات. فقد كان يرى أن مسألة التراب الوطني هي المسألة الأهمّ، باعتبار أن قضية اللاجئين ورقةً للتفاوض. وكان من شأنه إبداء بعض الليونة حول هذه القضيّة إذا تمكّن من تحقيق هدفه أي قيام دولة فلسطينية على أساس حدود ما قبل حرب 1967".

رئيسه، الجنرال عاموس مالكا، كشَفَ عن وجود التحليل الرسمي الذي رُفِع من قبل جهازه إلى رئيس الوزراء، إيهود باراك، قبيل انعقاد قمّة كامب ديفيد في تموز عام 2000. "كنّا قد حدّدنا هامش المناورة المتاح لياسر عرفات. دولة تضم غزّة والضفّة الغربية بأكملها، مع إمكان اللجوء إلى مقايضة في الأراضي بحيث يتاح لنا الحفاظ على التجمعات الاستيطانية. مثلاً إذا احتفظنا بـ 3 أو 4 في المئة من الضفّة الغربية، توجّب علينا أن نمنحه ما يعادلها من الأراضي في مكان آخر. أمّا في القدس الشرقية، عاصمة الدولة الفلسطينية، فلن يقدّم عرفات أي تنازل إلاّ في ما يتعلّق بالحيّ اليهودي في المدينة القديمة والأحياء اليهودية المستحدثة. أمّا بشأن اللاجئين الفلسطينيين، فمن شأنه اتخاذ موقف حازم حيال الإعلان عن المسؤولية الإسرائيلية، غير أنه سيبدي ليونة حيال الأعداد، ويوافق على عودة عدد محدّد من اللاجئين إلى إسرائيل".

إنّ الزعم القائل إنّ ياسر عرفات رفض "مقترحات إيهود باراك السخيّة وسعى إلى تدمير دولة إسرائيل" قد أسفر عن عواقب وخيمة واضعاً الفلسطينيين أمام خيار وحيد: الاستسلام أو مقاومة ما تفرضه إسرائيل عليهم، يقول ماتي شتاينبرغ مؤكداً. وهو يعتبر أن هذا المفهوم الذي لا يعترف بوجود "الشريك الفلسطيني في عملية السلام" يضاهي أخطاء الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قبل حرب أكتوبر عام 1973، عندما فتّش المحللون في الواقع عمّا يؤكّد نظرياتهم الخاطئة.

ويكشف دروكر وشيلح من جهتهما عن أن الخبراء العسكريين والمدنيين الذين لم يقبلوا، لسنوات طويلة، بالخط المتبع من قبل هيئة الأركان ورئاسة الحكومة، قد هُمّشوا أولاً، ثمّ أرغموا على ترك وظائفهم ومناصبهم. لم تُسمع أصواتهم من قبل السياسيين الذي لم يتقبّلوا، في آخر الأمر، إلاّ التحليل الموافق لرؤيتهم للعالم ولأيديولوجيتهم. إنّ مسألة جوهرية كمسألة التعددية في النشاط الاستخباراتي تطرح اليوم بقوّة في إسرائيل.

 

المصطلحات المستخدمة:

باراك, لافي

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات