مؤلف "الحساب القومي"، الكاتب والمفكر الاسرائيلي بوعز عفرون، في حوار خاص:
التجربة التاريخية اليهودية تقودنا الى الاستنتاج ان مؤسسة "الربانيم" (الحاخامات) غير مستعدة للاعتراف بسلطة يهودية علمانية..
أجراه: بلال ظاهر
بوعز عفرون هو احد المثقفين الاسرائيليين القلائل الذى سار طوال حياته ضد التيار، بسبب رفضه للفكر الصهيوني الذي اعتنقه معظم ابناء جيله من المثقفين والكتاب والادباء والصحفيين. برزت جرأته وشجاعته الفكرية، بوجه خاص، من خلال مؤلفه "الحساب القومي"، الذي اسس فيه لهيستوريوغرافيا مختلفة تماماً عن مناهج غالبية المؤرخين اليهود، ممن آثروا تغليب الفكر الصهيوني في اعمالهم على البحث العلمي الموضوعي. ورغم ذلك اقر هؤلاء المؤرخون لعفرون اهمية مؤلفه على الرغم من انه ليس مؤرخًا مجازًا، غير انه يتمتع بثقافة واسعة.
وفي مقابلة خاصة تحدث عفرون عن نفسه وقال: "ولدت في القدس في العام 1927. عائلتي من جهة امي جاءت الى البلاد في سنة 1812 ومن جهة ابي في سنة 1854، وانا لا اعرف اي اقارب لي في اوروبا. والداي ولدا في القدس. وفي سنة 1929 انتقلت عائلتي للسكن في تل ابيب التي كانت في ذلك الوقت مدينة حديثة العهد ولكنها اصبحت بسرعة مركزا للاعمال، وقد رأى والدي الذي كان محاميا ان الاعمال في تل ابيب افضل".
درس عيفرون في الجامعة العبرية في القدس وفي جامعة تل ابيب. وعمل سنوات طويلة في الصحافة والكتابة النقدية والمسرحية. وفي السنوات 1956 - 1964 كان عضوا في هيئة تحرير صحيفة "هآرتس" وبعدها في هيئة تحرير صحيفة "يديعوت احرونوت" حتى سنة 1992. وهو مؤسس ومدير مشروع ترجمة الاعمال الادبية من لغات اجنبية الى العبرية.
العديد من الابحاث تشير الى ان الحركة الصهيونية ارتبطت دائما بالقوى الامبريالية والكولونيالية. ما رايك في ذلك؟
عفرون: الجميع ارتبط بهذه القوى. في فترة الحكم العثماني، مثلا، كانت الامور تسير بشكل افضل مع من يحمل جنسية اجنبية. حامل الجنسية الاجنبية كان محميا بواسطة الامتيازات وما شابه ذلك. الصهيونية لم تكن حالة فريدة. واذا عدت بالتاريخ الى الوراء ترى انه في البلدان التي كانت تحتلها الامبراطورية البيزنطية كانت هناك مجموعات معينة كانت مرتبطة بهذه الامبراطورية.
كيف تفسر نجاح الحركة الصهيونية في تحقيق اهدافها، من خلال العلاقة مع القوى الامبريالية، فيما لم ينجح الاخرون بذلك.. العرب، مثلا؟
عفرون: السبب الاساسي هو انه دائما كانت تعيش جالية يهودية في كل واحدة من الدول العظمى المقررة في العالم، وعمليا كان اليهود جزءًا من السكان. ولذلك كان تأثير اليهود في هذه الدول اكبر من تاثير العرب فيها، خصوصا وأن العرب بدأوا يقطنون اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم ان اليهود كانوا يعانون من اللاسامية في اوروبا، الا انهم في الوقت ذاته كانوا يتبوأون مناصب رفيعة ومواقع ذات قوة كبيرة، في الناحيتين الثقافية والاقتصادية. وهؤلاء بغالبيتهم لم يكونوا صهيونيون. فمثلا اليهود الروس الذين كانوا يتعرضون للملاحقات في العهد القيصري، عندما هاجرت مجموعة منهم الى البلاد تلقت الدعم الامبريالي الروسي. كذلك الامر بالنسبة لالمانيا والنمسا – المجر، اللتين وفرتا الحمايا لرعاياها من اليهود الذين هاجروا الى البلاد. وعلى سبيل المثال، جدي من جهة ابى كان مدير البريد النمساوي في القدس وقد حافظ على الجنسية النمساوية - المجرية طوال عقود عديدة، لان هذا الامر وفر له الحماية من السلطات العثمانية. وهكذا فعل جميع اليهود الذين هاجروا الى البلاد او الى اماكن اخرى كانت تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية. وكان اليهود في المانيا يعتزون بكونهم المانيين اكثر من الالمان انفسهم.
في كتابك تحدثت عن حدوث انخفاض مستمر في عدد اليهود في المانيا، ما هي اسباب ذلك؟
عفرون: هذا صحيح، حتى انه لدى صعود هتلر الى الحكم (في العام 1933) كان عدد اليهود في المانيا نصف مليون يهودي فقط. الاسباب متنوعة، منها انخفاض شديد في نسبة الولادة، والانصهار في المجتمع الالماني والزواج من غير اليهود، واعتناق الدين المسيحي، وهناك نسبة من اليهوديات، وهي نسبة ليست بقليلة، اللواتي بقين عزباوات. ولكن ما زاد من عدد اليهود في المانيا كان هروب اليهود من اوروبا الشرقية، خصوصا من بولندا وروسيا بسبب القمع الذي تعرضوا له هناك، الى المانيا. اضافة الى ذلك فإن المانيا هي مركز اوروبا. عليك ان تتذكر هنا انه بعد حرب العام 1870 اصبحت المانيا القوة العسكرية العظمى الاكبر في الغرب، وقد خاضت حربين عالميتين لوحدها ضد العالم اجمع.
فيما يتعلق بالهولوكوست كتبت انه "يجب عدم فصل "الحل النهائي للمسألة اليهودية" عن السياسة العالمية للنازيين". ما هو المقصود؟
عفرون: رغم ان النازيين اختاروا اليهود اول المرشحين للابادة التامة، الا انه سوية معهم ابيد الغجر ايضا، و تم البدء في تنفيذ مخططات واسعة وبشكل تظاهري اكثر بكثير لاستعباد الشعوب السلافية وابادة قسم منها. الاصطلاح القانوني "جرائم حرب"، الذي بموجبه تمت محاكمة وادانة الزعماء النازيين في نيرنبرغ، حجب عن اعيننا حقيقة أن معسكرات الموت لم تكن ظاهرة حربية حصرًا، بل كان الهدف منها ان تكون مؤسسات دائمة في الامبراطورية النازية، في اوقات السلم ايضا، بعد الانتصار في الحرب. وكانت الغاية منها ان تستخدم كاداة لتنفيذ "السياسة البيولوجية" للنظام الهتلري الجديد، الذي كان هدفه النهائي القضاء على الاعراق غير المرغوب بها واستعباد الاعراق "المنحطة" وابادة النخبة بينها.
ايضا في كتابك، قلت ان اكبر تجمع لليهود كان في بولندا. لماذا في بولندا؟
عيفرون: اكبر تجمع في اوروبا الشرقية. ولكن من غير الواضح كيف حصل ذلك. لا يوجد تفسير. ثمة كتاب مثير من تاليف ارثور كستلر يتحدث عن السبط الثالث عشر، والدعاء في هذا الكتاب ان هذا السبط نتج عن تهود الخزر في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وحتى انكسار مملكة الخزر على ايدي المغول من جهة والروس من الجهة الاخرى. ربما هذا يوفر تفسيرا ما. الا ان ابحاثا في مجال الجينات ظهرت في الاونة الاخيرة تدعي بان العامل الوراثي المركزي لدى يهود اوروبا بدا مشابها الى حد بعيد للعامل الوراثي المركزي الموجود لدى الفلسطينيين. اعرف ان الفلسطينيين يدونون الان تاريخهم من جديد ويدعون ان الفلسطينيين هم احفاد الكنعانيين القدامى. وانا ارى بذلك نسخة عن التأريخ الصهيوني.
ولكن في الحقيقة، لدي رؤية مختلفة لتاريخ البلاد، وتثبت هذه الرؤية الابحاث والحفريات الاثرية التي جرت في العقود الاخيرة. فمثلا (البروفيسور يسرائيل) فينكلشطاين يتوصل الى نتيجة مختلفة عن تلك التي تدعي أن التوراة هي نص الهي. وقد جاء ذلك في كتابه الذي ترجم مؤخرًا الى العبرية (بعنوان "بداية اسرائيل: علم الاثار، التوراة والذاكرة التاريخية")، وكلامه مقبول جدًا الان. والصورة التي نقرأها في ابحاثه تشير الى ان قيام مملكتي اسرائيل ويهودا في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد لم تكن سوى ثورات كنعانية داخلية. وان اللغة العبرية موجودة في مخطوطات قديمة عثر عليها في منطقة صور وصيدا ولكن بلهجة تختلف عن اللهجة التي كتبت فيها التوراة.
لكن اللغة العبرية هي في الواقع اللغة الكنعانية؟
عفرون: هي جزء من مجموعة اللغات السامية الغربية. وقد قال البروفيسور كاسوتو، وهو يهودي صهيوني، ان الابحاث تشير الى ان التوراة هي استمرار للتراث الكنعاني القديم.
وليس اليهودي؟
عفرون: من الصعب جدا تعريف ماذا نعني بـ "اليهودية" في تلك الفترة. لقد قاد الملك يهوآش ثورة دينية، وبحسب فينكلشطاين، ألحق بمملكة يهودا الجنوبية الانجازات الحضارية والعسكرية التي حققتها المملكة الشمالية، اسرائيل. ومملكة يهودا القديمة كانت في فترة داوود وشلومو، اللذين كانا على ما يبدو شيخين محليين. فاذا هما لم يحكما امبراطورية كبيرة كما تصف ذلك التوراة. وقد شككت بما جاء في التوراة، في هذه الناحية، طوال الوقت، اذ لا توجد كتابات، ولا يمكن ادارة مملكة من دون وثائق ادارية وارشيف. ولا تجد في يهودا اية مخطوطة. كذلك بالنسبة الى الالهة، فقد كان "يهوه" اله الحرب، اله الجيوش.
تقصد ان يهوه ليس الها يهوديا؟
عفرون: صحيح. لقد كتبت في التاريخ القديم، لكني لم اخض غمار هذا التاريخ بتوسع. فكمية المواد حول هذا التاريخ كبيرة للغاية وهناك نقاش ساخن للغاية حوله. ولكن شيئا فشيئا اصبح متفقا اليوم بين الباحثين ان لا وجود للخروج من مصر كما لا وجود لاحتلال البلاد، وان هذه على ما يبدو مجرد اساطير تم اختلاقها لاسباب ايديولوجية من قبل مملكة يهودا المتأخرة.
نقطة الانعطاف في تبلور الديانة اليهودية حصلت في بابل. كيف تم ذلك؟
عفرون: الديانة اليهودية التي نعرفها اليوم تأسست في بابل. اصلاحات يهوآش كانت منوطة بثورة دينية عندما تم تبني الفكر التوحيدي. هذا الامر متفق عليه بين الباحثين منذ حوالي المئة سنة. وفي التوراة هناك اشارات تشير الى ذلك. فقد تم نفي الكهنة والنبلاء واصحاب المهن ولم يبقَ في البلاد سوى عامة الشعب، الذين يساوون 90%. لقد تم نفي سكان المدن. وهذا الكلام معقول، فحتى اليوم نسبة سكان المدن في الدول المتخلفة 80% وسكان المدن 20%.
في كتابك تقول ان اليهودية ديانة تبشيرية، وان غالبية اليهود اعتنقوا هذه الديانة خارج المنطقة؟
عفرون: صحيح ان اليهودية هي ديانة تبشيرية. في البداية كان اليهود داخل المنطقة. وانا اعتقد ان اليهودية هي الديانة التبشيرية الاولى، وانها نمت كجالية دينية وليس كأمة، على اساس تبشيري، بمعنى اعتناق اليهودية. وعندما ثار المكابيون ضد حكم السلوقيين اعتنقوا اليهودية، وكذلك فعل جميع سكان البلاد بعد ان تم تخييرهم بين اعتناق اليهودية او النفي من البلاد. وبمفهوم معين فقد اعتنق سكان البلاد ديانة كان اجدادهم متعلقين بها لأن الديانة اليهودية احتوت على معتقدات وتبنت الهة قديمة كما ذكرت. الذين لم يتهودوا هم سكان المدن الهلينية، اذ رأوا في اليهودية ديانة متخلفة بالمقارنة مع المستوى العالي للحضارة الهلينية اليونانية. ولذلك نزح الكثيرون.
هل اصبح جميع سكان البلاد يهودًا؟
عفرون: نعم. وكان ذلك في سنة 200 قبل الميلاد تقريباً. وبعدها عندما اعتنقت الامبراطورية الرومانية، في القرن الرابع الميلادي، الديانة المسيحية، اعتنق قسم من سكان البلاد ايضا المسيحية. وهنا يتوجب الاشارة الى خطأ تاريخي وهو ان الرواية المحلية تقول بان الرومان طردوا اليهود من البلاد وهذا غير صحيح. فحتى بعد الثورات الكبرى ضد الرومان، الثورة الكبرى في سنة 70 ميلادية وثورة باركوخفا سنة 130 ميلادية، بقي معظم السكان في البلاد على الرغم من بيع الكثيرين كعبيد في روما حيث تكونت هناك جالية يهودية كبيرة. ورغم ان المسيحية نشأت في الجليل الا ان الجليل بقي يهوديا مئات السنين بعد ذلك. و"المشناة" تطورت في الجليل في الفترة التي اعقبت ثورة باركوخفا. ولكن بعد اخماد الثورتين تم التوصل الى اتفاق بين روما والقيادة اليهودية يقضي بان يمارس اليهود حياتهم الدينية من تدخل تدخل الامبراطورية الرومانية وعدم تشتيت السكان اليهود فيما تهتم روما بالامور الاخرى غير الدينية. لقد اثبتت روما بانها حاكمة العالم.
اين كان مركز اليهود في تلك الفترة؟
عفرون: الهيكل في القدس. وما تبقى منه الان هو الحائط المبكى الذي هو الحائط الخارجي للمبنى الكبير الذي كان قائمًا في حينه.
تم مؤخرا عرض مخطوطة جديدة من مخطوطات قمران في "متحف اسرائيل" وذلك بعد ان انتهى عدد من الباحثين من دراستها، وهي مخطوطة طويلة جدا. المهم في السياق الذي نتحدث فيه ان المجموعة اليهودية التي اعتكفت في قمران تتحدث عن الهيكل كشيء لا وجود له في الواقع وانما كرمز غيبي.
عفرون: مجموعة قمران كانت ضد جميع التيارات اليهودية في ذلك الوقت. الهيكل في القدس، وعمليا طبقة الكهنة، كان جهازاً يستغل الشعب. الهياكل في العالم القديم كانت بمثابة بنوك، في اليونان وفي روما ايضا. وهناك مقولة في التلمود: "ويلي من بيت صدوق"، الذين كانوا هم وخدامهم الكهنة يستغلون الشعب. دائما كان الدين ولا يزال تجارة رابحة حتى يومنا هذا. وفي الانجيل هناك اشارة الى مدى استغلال الكهنة للشعب حين دخل المسيح الى الهيكل وقام بقلب الطاولات.
دائما كان هناك تناقض بين الجمهور اليهودي هنا في البلاد، الذي كان متمردا وقريباً جدا من القومية بالمفهوم العصري، وبين اليهود في الشتات الذين انتشروا في انحاء العالم تحت حماية السلطات الرومانية. الرومان لم يطردوا اليهود من البلاد، وما حصل هو انه على ما يبدو عندما تحولت المبراطورية الرومانية الى المسيحية اعتنق سكان البلاد الديانة المسيحية، فالسكان يعتنقون دين حكامهم. كذلك لدى قدوم الاحتلال الاسلامي اصبحوا مسلمين. واعتقد ان هذا التطور التاريخي يفسر التواصل الجيني، رغم انني غير واثق تماما بهذه الامور ومن ان هناك تقاربا كبيرا من الناحية الجينية بين قسم كبير من يهود اوروبا والفلسطينيين اذ ان مظهر يهود اوروبا الخارجي مختلف تماما، لكن هذه تبقى اختلافات خارجية.
السؤال الكبير هو: هل اليهودية ديانة ام قومية؟
عفرون: انني ادعي انه في نهاية المطاف الامر، ورغم الكراهية لليهود المتدينين، فان الأمر الاساس يكمن في التهويد، اي اعتناق الديانة اليهودية. ولكن المسألة هي ان اليهودية لم تبدأ كديانة بالمفهوم العصري. ففي فترة حكم الامبراطورية الرومانية - ويتوجب علينا ان نتذكر ذلك دائما، لان كل شيء بدأ من هذه الفترة - اقامت كل فئة اتحادا (corporation) على اساس ديني. اليهود اقامو اتحادا وكذلك المسيحيون والوثنيون. وكانت هذه الاتحادات هي الوسيط بين الفرد والامبراطورية. هذا الاتحاد هو الذي تولى مسؤولية جباية الضرائب من الافراد وحولها الى الحكم المركزي. لم يكن للانسان تعريف خارج الاطار الديني. كل شيء تم في اطار، وهذا الاتحاد كان ينظم علاقة الانسان مع العالم الخارجي. ولذلك، بالنسبة لليهود، هذا الاتحاد لم يكن دينا بل اشمل من ذلك بكثير.
الامبراطورية الرومانية وانماط الادارة فيها لم يعد لها وجود، وحلَّ بدلا عنها انظمة حكم الفردُ فيها يتمتعُ بالاستقلال وليس بحاجة الى وسيط للتعامل مع المؤسسة الحاكمة او مع اي جهة اخرى، وفي المقابل هناك مجموعات بشرية، مثل الخزر، اعتنقت الديانة اليهودية في مرحلة تاريخية متأخرة، وغالبية يهود اوروبا الشرقية هم احفاد الخزر الذين تهودوا في القرن الحادي عشر. كذلك هناك المملكة اليهودية في اليمن، وهؤلاء يمنيون اعتنقوا اليهودية. وكلتا المجموعتين غير كنعانية. والسؤال هو: كيف يمكن لمجموعات بشرية مختلفة ان تشكل شعبا واحدا؟
عفرون: هذا منوط بالظروف. الشعب الفرنسي تشكل بشكل مختلف عن الشعب الالماني. والشعب الانجليزي تكون بشكل مختلف عن الفرنسيين والالمان. ولكن هذه الشعوب تشكلت نتيجة اتحاد مجموعات لا تمت الواحدة منها بصلة الى الاخرى. فالشعب الانجليزي تكوَّن من خليط من الاعراق بعضها جاء الى الجزر البريطانية من فرنسا. الشعب الفرنسي صنعته المدرسة الفرنسية، اللغة الفرنسية. وعمليا ما هي اليهودية ان ام تكن "الييشيفاه" (المعهد الديني)؟
كيف تعرف "الشعب" اذا؟
عفرون: تعريف "شعب" ينطوي على اشكالية كبيرة جدًا. الشعب هو حضارة. هناك اكثر من تعريف. احد التعريفات هو "الميثاق الاجتماعي" بمعنى الاتفاق بين مجموعة بشرية على العيش سوية والتعاون على اقامة مجتمع، ويتم التنازل عن قسط من حريتهم لصالح الحكم المركزي لينظم العلاقة فيما بينهم ويحميهم. تعريف اخر هو مبدأ الامة مثلما هو حاصل في فرنسا وانجلترا او المملكة المتحدة. وهناك الامة المبنية على وحدة العرق والحضارة، وهذه الفكرة موجودة في المانيا وروسيا واوروبا الشرقية عمومًا. وانا اعرف اليهودية كأمة اذ لدى جميع اليهود مشاعر مشتركة. وانا لا اتحدث هنا عن دولة .
كتبت في "الحساب القومي" ان اليهود لم ينجحوا في اقامة دولة لأمد طويل لأن ثمة عاملاً في الديانة اليهودية يرفض السياسة. كيف تفسر ذلك؟
عفرون: التجربة التاريخية اليهودية تقودنا الى الاستنتاج ان مؤسسة "الربانيم" (الحاخامات) غير مستعدة للاعتراف بسلطة يهودية علمانية، ولا تكون خاضعة للشريعة اليهودية. ولكن طوال التاريخ لم تكن هناك دولة سارت حسب الشريعة اليهودية.
وفق نظريتك هذه فان دولة اسرائيل سوف تزول.
عفرون: كل دولة معرضة للزوال.
ولكن وفق نظريتك فان عوامل زوال دولة اسرائيل داخلية، وهذه العوامل غير موجودة في دول اخرى.
عفرون: القضية الاساسية تكمن في وجود خليط كبير من الانتماءات البشرية في اسرائيل. حتى ان نصف المهاجرين الروس ليسوا يهودًا، ولن تكون لديهم الحقوق الممنوحة لليهود، رغم انهم يخدمون في الجيش، وهذا الامر سيولد الصدام. ولكني اعتقد ان احد اسباب عدم وضع حد للصراع بين اسرائيل والعرب هدفه الحفاظ على وجود ضغط خارجي على الداخل، فالعلاقة بين الطوائف اليهودية يتم الحفظ عليها بصعوبة بالغة.
لنتقدم مئات السنين وصولا الى النصف الاول من القرن العشرين، حيث كنت عضواً في "الحركة الكنعانية". ما هي هذه الحركة؟
عفرون: "الكنعانية" ظاهرة مثيرة للغاية. بدأت في صفوف اليمين المتطرف في الحركة التصحيحية. كان مؤسس المجموعة اوريئيل شيلح "راتوش" شاعرا وسياسيا يمينيا متطرفا. ونشير هنا الى ان نشوء المجموعة الكنعانية تزامن مع نشوء الحركة الفرعونية في مصر والحركة الفينيقية في لبنان ومن الجائز انه كانت هناك تاثيرات متبادلة فيما بينها. الحركة الكنعانية ظهرت في فترة الحرب العالمية الثانية. وقد كانت الفكرة الكامنة من قيامها ان حضارة منطقة الهلال الخصيب حضارة عبرية في الماضي، بمعنى ان منطقة الهلال الخصيب كانت تتحدث لهجات عبرية متعددة، وهذا ما تشير اليه الحفريات الاثرية. ونحن كوننا "الييشوف" العبري نشكل بداية للشعب العبري الذي سيعود الى ذاته وسوف يقوم باعادة كافة سكان المنطقة الى الحضارة العبرية القديمة والوقوف في وجه الاحتلال الاسلامي، لان الاحتلال الاسلامي فرض لغة اجنبية، اللغة العربية، وفرض حضارة اجنبية، ولذلك يتوجب تحرير المنطقة من الاحتلال الاسلامي. و"الييشوف" العبري في البلاد هو النواة بمعنى ان لا علاقة له مع الشعب اليهودي، وذلك بالرغم من ان "الييشوف" بدأ من خلال الهجرة اليهودية الى البلاد. ولذلك كان الاسم الرسمي للحركة "اللجنة من اجل تكتل الشباب العبري".
هل حقا آمنتم في ان يبدأ العرب بالتحدث باللغة العبرية؟
عفرون: في ذلك الوقت قضيت بضع سنين في الولايات المتحدة كمندوب عن حركة "ليحي". وعندما عدت الى البلاد التقيت براتوش، وقلت له ان لا شأن لنا بالصهيونية وانني اعتقد ان امة جديدة، عبرية، آخذة بالنشوء هنا في البلاد. ولكني تساءلت ايضا لماذا يتنازل العرب عن لغتهم وعن دينهم. ورد راتوش قائلا ان اللغة مرتبطة بالدين، وانه بالامكان فرض اللغة العبرية على العرب في منطقة الهلال الخصيب.
وهل اعتقدوا حقا انه بالامكان الفرض؟
عفرون: بالامكان، كانت هناك عدة حالات كهذه في التاريخ. فالرومان فضلوا اللغة اللاتينية على فرنسا واللغة الفرنسية مشتقة من اللاتينية.
لكن الرومان كانوا امبراطورية عظيمة وحركتكم كانت هامشية جدا؟
عفرون: هذا صحيح، وقد قال راتوش ان الييشوف العبري سيكون قويا بشكل كاف من اجل السيطرة على المنطقة وفرض ثقافته.
الحركة الكنعانية انتهت ولم تدم طويلا، لماذا؟
عفرون: كانت هناك ضغوط داخلية، فقد تحسبت المؤسسة الحاكمة منها لانها كانت تتوجه الى الشبيبة وتدعوهم الى التحرر من كل التراث اليهودي الصهيوني. وكان هناك تحسب حقيقي من سيطرة الافكار "الكنعانية" على ابناء الشبيبة، ولذلك كان جهاز التعليم في سنوات الخمسين يعطي دروسا لطلاب المدارس في الوعي اليهودي، لاتقاء الخطر الكنعاني، رغم ان عددنا لم يتجاوز الستين شخصا، وهذا يدل على ان الحركة جذبت المثقفين.