"قنبلة هادئة" لم تحظ بأي صدى جماهيري عندنا رغم انها ذات قدرة كامنة، ألقيت مؤخرا في فضائنا الثقافي: يعقوب روتبليط، مؤلف "أنشودة السلام"، نشر عشية استفتاء الليكود(على خطة "فك الارتباط") أنشودة "راب" جديدة أطلق عليها "أنشودة ارض اسرائيل" وعبر فيها عن تضامنه العميق مع المستوطنين، مثل القول: "كل عضو كيبوتس مُفلس على أنقاض قرية عربية مهجورة أصبح شخصا ليبراليا/ أما أنا عدو الشعب فأقوم ببناء امبراطورية كولونيالية على اراض محتلة".
يمكن تفسير كيفية تحول مؤلف نشيد اليسار الى عاشق للمستوطنين بأن روتبليط هو أيضًا من المخذولين من اوسلو. لكن كلمات الأغنية ذات أبعاد وجذور أعمق من ذلك بكثير، حيث أنها تشي بأن الصورة انقلبت اليوم وأصبحت المؤسسة المزدوجة الكلمات تبدو في صورة صانع السلام في الوقت الذي أصبح فيه المستوطنون، وخصوصا الجيل الشاب، هم الطليعة التي تسير على الدرب المستقيم.
والإثبات على ذلك أن الأغنية ليست تعبيرا عن التضامن الايديولوجي مع المستوطنين وانما هي احتجاج على رياء ونفاق اليسار. هناك الكثيرون الذين لا يتفقون مثل روتبليط مع رؤية المستوطنين السياسية الا انهم لا يستطيعون الوقوف كمتفرجين أمام موجة الكراهية التي يبديها اليسار حيالهم. الكثيرون منهم عبروا عن ذلك عشية استفتاء الليكود وبعده وربما كان ذلك أحد اسباب انتصار معارضي الانسحاب. أنا ايضا أعرف هذا الشعور، فعندما أخذت بالابتعاد عن طريق المستوطنين في وعيي وادراكي وجدت نفسي غير قادر على التعبير عن ذلك علنيا حتى لا أضيف صوتا لجوقة الصارخين والمهاجمين لهم.
اليسار من ناحيته يكرر في الآونة الأخيرة هذا الخطأ التاريخي ويتسبب في موجة جديدة من الكراهية حتى من خلال استخدام العناوين التي ظهرت في عهد مقتل رابين: "لن نغفر ولن ننسى"، ولكن في هذه المرة كان التفسير من وراء هذا الشعار فرض الأقلية لارادتها على الاغلبية. في مواجهة هذه الموجة يتوجب ان نقول عدة امور: أولا، ليست لهذه الموجة أية مبررات موضوعية لان قرار حسم المسألة من خلال استفتاء الليكود لم يكن قرارا من المستوطنين، وبالمناسبة اقول ان هناك شيئا بغيضا وخطيرا في المقارنة ـ ولو من خلال التلميحات اللفظية المبطنة ـ بين مقتل رابين وبين عملية ديمقراطية في داخل الليكود. أضف الى ذلك ان مستوطني غوش قطيف لا يمكن ان يكونوا حتى متهمين في فرض ارادتهم وطريقهم على حكومات اسرائيل، لان حكومات "العمل" هي التي بادرت الى اقامة هذا التكتل الاستيطاني.
ثانيا، يحظر ان ننسى ان لدى المستوطنين وأنصارهم اسبابا جيدة للغضب على اليسار بدءا من مصطلحات الكراهية الصعبة التي قيلت بصددهم خلال سنوات، وانتهاء بنتائج اتفاق اوسلو المعروفة لنا جميعا (اليسار يدعي ان الاتفاق إنتهى لان نتنياهو واليمين تسببا في ذلك، هذا الادعاء تم من خلاله تمويه الحقائق بشأن أن الحرب الارهابية الحالية لم تبدأ في عهد نتنياهو وانما بعد اقتراح باراك الجارف ورفضه). وهكذا لم يتأخر الرد على موجة الكراهية من خلال شعار ضخم رفعته العائلات الثكلى من اليمين مهاجما جرائم اوسلو مع عنوان آخر طبعا "لن نغفر ولن ننسى" . أي ان الكراهية اليسارية لن تجلب المتعاطفين، وانما ستتسبب فقط في موجة كراهية مضادة. في هذه الحالة ستكون كفة المجتمع الاسرائيلي كله هي السفلى وسيكون هو الخاسر خلافا لما يبتغيه اليسار من نصر لطريقه.
يمكن بالطبع الثورة، وعن حق، ضد المذهب الضيق للمستوطنين ـ والذي لا يأخذ بالحسبان المسائل الديمغرافية والمكانة الدولية لاسرائيل. ولكن اذا ما نشأت في المجتمع الاسرائيلي كراهية بحق كل من يفضل الايديولوجيا الضيقة على المذاهب الاوسع، فاننا بالفعل سنصل الى حرب الجميع ضد الجميع. السبيل للاقناع يمر في وضع المسائل الديمغرافية والسياسية في مركز البحث وليس في كراهية المتجاهلين لها.
وفضلا عن ذلك، فان الكثيرين في اوساط الجماهير الغفيرة، وبالتأكيد في اوساط منتسبي الليكود، يشعرون انه حتى لو كان المستوطنون مخطئين في طريقهم، فالغالبية الساحقة منهم هم اناس ممتازون ومثاليون. ومن يحاول نبذهم جماهيريا، يكون ليس فقط مخطئا موضوعيا بل من شأنه ان يظل يمنى بالهزيمة السياسية عقب ذلك. الادعاء السليم يجب ان يكون ان اخلاء قطاع غزة مبرر بسبب المصلحة الاسرائيلية ـ وليس لان المستوطنين هناك انذال، بل لانهم اناس ممتازون.
(هآرتس 6/7/2004)