كتب محمد دراغمة:
يعمل الصحافي هشام عبد الله (44) عاماً كاتباً ومحرراً في مكتب وكالة الأنباء الفرنسية في القدس منذ 18 عاماً، دأب خلالها على القيام بتغطية ومتابعات متنوعة من مختلف أنحاء الضفة وقطاع غزة والجولان وإسرائيل والخارج.
لكن عبد الله، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، إلى جانب جنسيته الفلسطينية، لم يعد قادراً منذ عام على الوصول إلى مكتبه، أو قبل ذلك مغادرة منطقة سكناه، بسبب رفض السلطات الإسرائيلية تجديد بطاقته الصحفية الصادرة عن مكتب الصحافة الحكومي (في القدس الغربية)، وهو ما انعكس على ادائه الصحافي الذي يتطلب حركة وتنقلات دائمة.
يقول هشام إن هذه الإجراءات قلصت عمله بنسبة تصل إلى حوالي 70%، مشيراً إلى أنه بات يقوم بعمله الصحافي بأدنى مستوى من مصادر المعلومات، وأدنى مستوى من الحركة، حيث لا تتجاوز حركته اليومية الطريق من قريته سردا إلى مدينة رام الله المجاورة.
ويتعرض الصحافيون ومختلف وسائل الإعلام الأجنبية والعربية والمحلية العاملة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية إلى قيود ومضايقات قد تصل إلى حملات ملاحقة وعقوبات من جانب السلطات الإسرائيلية على خلفية تغطية ومتابعة للأحداث الجارية منذ أيلول عام 2000.
وظلت إسرائيل تتبع إجراءات متشددة ضد الصحافة والصحافيين الفلسطينيين، وتفرض قيوداً على وسائل الإعلام الأجنبية العاملة في الأراضي الفلسطينية منذ احتلالها عام 67، تمثلت في وضع قيود صارمة على إصدار تراخيص للصحف والمجلات، وفرض رقابة يومية مباشرة على كل ما ينشر في وسائل الإعلام، بما فيها الأجنبية، وملاحقة الصحافيين والكتاب بالاعتقال والإقامة الجبرية والإبعاد تحت ذرائع "ممارسة التحريض"، أو العمل لصالح ما تطلق عليه "المنظمات الإرهابية".
لكن غالبية هذه القيود غابت أو احتجبت بعد توقيع اتفاق أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث أصبح أمر صدور الصحف، وإقامة وسائل الإعلام، مسألة فلسطينية داخلية، وصار الصحافيون والإعلاميون الفلسطينيون يتمتعون بمدى واسع من حرية الحركة والنشر.
وبعد اندلاع الانتفاضة عادت السلطات الإسرائيلية إلى إحياء سياستها القديمة، في ملاحقة وسائل الإعلام والصحافيين، بصور جديدة أشد وأقصى، تحت ذات الذريعة القديمة، وهي ممارسة التحريض أو الانحياز لوجهة النظر الفلسطينية.
وكانت أولى الإجراءات التي اتخذتها السلطات تجاه الصحافيين الفلسطينيين هو سحب بطاقة "مكتب الصحافة الحكومي" التي تتيح لهم التنقل عبر الحواجز العسكرية التي وضعت على مدخل كل تجمع سكني في الضفة والقطاع، ناهيك عنها على طول "الخط الأخضر".
والحق هذا الإجراء أضراراً بالغة بالصحافيين الفلسطينيين، خصوصاً الذين يعملون منهم لدى وكالات الأنباء وشبكات التلفزة والصحف الأجنبية، التي غالباً ما يكون مقرها مدينة القدس.
فقد حرمت الغالبية العظمى من هؤلاء الصحافيين من ممارسة عملهم، وبات على مشغليهم إما الاستغناء عنهم لصالح صحافيين يحملون الهوية الإسرائيلية، أو القبول بالأمر الواقع والاكتفاء بقيامهم بممارسة عملهم بصورة جزئية من أماكن سكنهم.
واضطرت بعض وسائل الإعلام إلى نقل صحافييها الفلسطينيين إلى دول أخرى يتاح لهم فيها حرية الحركة.
ويواجه هؤلاء الصحافيون مشكلات كبيرة تتمثل في ابتعادهم عن أسرهم وعن وطنهم الذي يمر بظروف وتحولات تاريخية تتطلب منهم مواكبتها بأدوات عملهم وفكرهم.
وقد "زجت" بعض الوكالات بعدد من هؤلاء الصحافيين في العراق، التي تمثل البقعة الساخنة الثانية وأحياناً الأولى في الوطن العربي.
ونظراً للقيود المفروضة على الصحافيين الفلسطينيين الذين باتوا في حكم السجناء داخل تجمعاتهم السكنية، فقد أخذ العديد من وسائل الإعلام الأجنبية تفضل تشغيل صحافيين إسرائيليين.
وفي أفضل الأحوال تشغل وسائل الإعلام هذه صحافيين أو مرشدين عربا يحملون الهوية الإسرائيلية.
وانتقلت "عدوى" تشغيل صحافيين من حملة الهوية الإسرائيلية من المؤسسات الأجنبية إلى العربية، فأخذت المحطات الفضائية العربية تشترط على المتقدمين للعمل فيها أن يكونوا من حملة الهوية الإسرائيلية.
وانعكس ذلك على مستوى أداء بعض هذه المحطات التي اضطرت لتوظيف صحافيين بكفاءة أقل لحيازتهم الهوية الإسرائيلية.
وترمي السلطات الإسرائيلية من وراء إبعاد الصحافي عن موقع الأحداث أولاً، وعن موقع عمله ثانياً، إلى تحجيم وإضعاف الرواية الفلسطينية، والحيلولة دون نقلها وإيصالها إلى العالم. ويقول هشام عبد الله بأنه لم يعد قادراً على التنقل والوصول إلى مواقع الأحداث، فأخذ يمارس، في الغالب، جانباً من العمل الصحافي، وهو متابعة ما وراء الأحداث، أي التحليل الإخباري، الذي يصفه بأنه يمثل جانباً محدوداً من التغطية الصحافية.
وأضاف: "وجدت نفسي أعمل ككاتب عمود في صحيفة، يسبب عدم تمكني من الوصول إلى مواقع الأحداث والكتابة منها".
ولا يخفي المسؤولون الإسرائيليون وجود دافع سياسي وراء حملتهم هذه ضد الصحافيين الفلسطينيين.
ويقول هشام بأن مدير مكتب الصحافة الحكومي في إسرائيل دان سيمون قال له ذلك صراحة عندما توجه إليه مستفسراً عن مصير بطاقته الصحافية، حيث رد عليه هذا بالقول: "مشكلتكم مع قيادتكم السياسية وليس معنا"!
وامتدت القيود المفروضة على الصحافيين الفلسطينيين إلى منعهم من السفر للمشاركة في أنشطة ومعارض صور في الخارج.
وقد أعادت السلطات عن الجسر قبل أيام المصورين في وكالة رويترز أسامة السلوادي وعبد الرحيم قوصيني، اللذين كانا في طريقهما إلى العاصمة الأردنية عمان للمشاركة في دورة مهنية تعقدها الوكالة هناك.
وقال قوصيني والسلوادي إنهما فوجئا بضباط أمن إسرائيليين على الجسر يبلغونهما أن سفرهما محظور لأسباب أمنية؟
ومبعث المفاجأة غير السارة بالنسبة لهذين المصورين ولوكالتهما، التي أوكلت محامياً لمتابعة قضيتهما أمام القضاء، هو أنهما كانا سافرا في السنوات الأخيرة عشرات المرات عبر مطار بن غوريون، أو عبر الجسر مع الأردن، للقيام بمهام عمل، أو لإقامة معارض، أو للمشاركة في دورات تدريبية، وأن أيا منهما لم ينخرط في نشاط سياسي قد يثير شبهة الجهات الأمنية الإسرائيلية.
وقال قوصيني: "لم يطرأ أي جديد علينا، والجديد فقط هو لدى الإسرائيليين الذين ينتهجون سياسة خاصة في لتعامل مع الصحافيين ومع وسائل الإعلام".
وواكبت حملة السلطات الإسرائيلية على الصحافيين الفلسطينيين حملة موازية قامت بها جهات حكومية ومنظمات وجماعات ضغط يهودية ضد وسائل الإعلام الأجنبية العاملة في البلاد. ويقول صحافيون عاملون في وسائل الإعلام الأجنبية إنها باتت تفرض على نفسها رقابة ذاتية صارمة خشية اتهامها من طرف هذه الجهات النافذة في العديد من بلدان العالم بالتحيز إلى جانب الفلسطينيين وأحياناً بمعاداة السامية.
ويقول العاملون في وكالة الأنباء الفرنسية إن وكالتهم تتعرض لضغط شديد من جانب منظمة يهودية فرنسية شهيرة وهي منظمة "ACRI".
وجاءت هذه الحملة بموازاة حملة مماثلة قادتها السلطات الإسرائيلية هنا ضد هذه الوكالة، التي أطلق عليها مسؤولون إسرائيليون لقب "وكالة الأنباء الفلسطينية"، بدلاً من الفرنسية.
ويعترف عاملون في وسائل إعلام أجنبية بأن هذه القيود باتت تجعل المحررين لديهم يتجاهلون بعض الأحداث، وحتى الصور الصارخة للممارسات الإسرائيلية، خشية تعرضهم لغضب إسرائيل والمؤسسات والجماعات المناصرة لها.
وذكر مصور صحفي أن محرراً في وكالته تجنب مؤخراً نشر صورة لممارسة شاذة لجنود إسرائيليين بحق مواطن فلسطيني، خوفاً من تعرضه لحملة إسرائيلية .
وقال المصور الذي فضّل عدم ذكر اسمه إن وكالته بثت الصورة في اليوم التالي فقط بعد قيامه بنشر الصورة في صحيفة فلسطينية.
"إن ما دفع محرر الدسك المسؤول في ذلك اليوم إلى تجاهل صورة بهذه القوة والأهمية هو بدون شك الخوف والقلق من إسرائيل والجهات المؤيدة لها"، قال المصور.
وطالت الحملات الإسرائيلية ضد وسائل الإعلام الأجنبية في بعض مراحلها شبكة "CNN" الأمريكية التي طالما اعتبرت منحازة في تغطيتها للجانب الإسرائيلي.
فقد شنت إسرائيل حملة على هذه الشبكة قبل اشهر، متهمة إياها بإبراز وجهة النظر الفلسطينية، الأمر الذي نفته الشبكة بشدة.
ووصل الضغط على "CNN" حد التهديد بإلغاء إدراجها في شبكات الكوابل في إسرائيل، وهي الشبكات التي تزود الإسرائيليين بمحطات التلفزة المختلفة المحلية والأجنبية.
وفي سياق هذه الحملة، نشرت منظمات يهودية أسماء مجموعة من المصورين الفلسطينيين العاملين لدى وكالات الأنباء الأجنبية على شبكة المعلومات الإلكترونية تحت عنوان: "صحافيون منحازون للفلسطينيين ومعادون لإسرائيل"، مطالبة بالضغط على وكالتهم لفصلهم من العمل.
وتمارس السلطات الإسرائيلية ضغوطاً أخرى غير مباشرة، لكنها نافذة، على وسائل الإعلام الأجنبية العاملة في البلاد وذلك عبر إجازة العمل في إسرائيل.
ومعروف أن الصحافيين الأجانب العاملين في إسرائيل والأراضي الفلسطينية يحصلون على إجازة عمل مسبقة صادرة عن وزارة الداخلية الإسرائيلية.
وتستخدم السلطات الإسرائيلية هذه الإجازة سيفاً مسلطاً على رقاب الصحافيين الأجانب، مهددة بحجبها عن كل من تتهمه بالانحياز للجانب الفلسطيني.
ويرى الصحافيون الفلسطينيون أن مواجهة الحملات والقيود الإسرائيلية تتطلب حملات ضغط على السلطات الإسرائيلية من جانب وسائل الإعلام والمؤسسات الحقوقية الناشطة في هذا المجال على المستوى الدولي، منتقدين تقاعس هذه الوسائل والمنظمات وتراجعها أمام الضغوط الإسرائيلية.
هشام عبد الله: "واضح تماماً أن وسائل الإعلام الأجنبية تراجعت أمام الضغط الإسرائيلية، والمطلوب هو حملة مضادة تشترك فيها وسائل الإعلام والمنظمات التي تعنى بحرية الصحافة والإعلام وحقوق الصحافيين".