بقلم: اوري نيرتقوم وزارة الخارجية الاميركية بتوزيع تقرير مصنف (سري) ينقض مزاعم "البيت الابيض" القائلة ان تغيير النظام الحاكم في العراق سيشكل حافزًا لاشاعة الديمقراطية في العالم العربي قاطبة.
وينتقد التقرير بشدة التوقع المثير للجدل بشأن "نظرية الدومينو" المرتقبة في تعميم الديمقراطية في الشرق الاوسط عقب الاطاحة بنظام الرئيس صدام حسين.
وقامت وزارة الخارجية الاميركية مؤخراً، وفي خطوة غير مألوفة، بارسال هذه التقرير السري، الذي اعدته وكالة الاستخبارات والبحث في وزارة الخارجية (INR)، الى مجموعة مختارة من اعضاء مجلس الشيوخ والنواب في الكونغرس الاميركي.
هذا التقرير، الذي اكد موظفون في الكونغرس وجوده لكنهم رفضوا كشف اي تفاصيل تتعلق به، يبدو مناقضاً لخطاب الرئيس بوش للامة في 26 شباط (الماضي) والذي ادعى فيه ان "نظامًا جديدًا في العراق سيشكل نموذجًا دراماتكياً ملهمًا للحرية بالنسبة لدول اخرى في المنطقة"، هذا فضلاً عن ان التقرير قد يمهد لبدء جولة اخرى في الصراع حول السياسة الخارجية الاميركية بين وزارة الخارجية والبنتاغون.
وكان وزير الخارجية كولين باول قد عدّل مواقفه خلال الاسابيع الاخيرة بدرجة كبيرة لتتساوق مع مواقف الصقور البارزين في البنتاغون حول مسألة غزو العراق.. غير ان مراقبين تكهنوا بانهيار "الهدنة" بين وزارتي الخارجية والدفاع عند نشوب الخلاف المتوقع بعد انتهاء الحرب (ضد العراق) حول الحملة الواسعة المزمع اطلاقها (من جانب واشنطن) بهدف تشجيع اشاعة الديمقراطية في العالم العربي.
وتتلقى محافل الادارة الاميركية، التي تؤيد مثل هذه الحملة، النصح والمشورة في هذا الصدد من عدد من الخبراء المعروفين لشؤون الشرق الاوسط، وبضمنهم برنارد لويس من جامعة "برنيستون" وفؤاد عجمي من جامعة "جونس هوبكينز". في المقابل، يبدي دبلوماسيون مخضرمون ومحللون في وزارة الخارجية الاميركية معارضة لمبادرة "الدمقرطة" وذلك بدعوى ان هذه معركة – حملة خاطئة بل وخطيرة ايضًا، لاسيما وان الذي يحركها ويقف خلفها هم "محافظون جدد" يتبوأون مراكز هامة في البيت الابيض والبنتاغون.
وتوقع عدد من موظفي وزارة الخارجية والكونغرس أن تصبح مسألة تشجيع اشاعة الديمقراطية في الشرق الاوسط، بعد انتهاء الحرب على العراق، موضوعًا خلافياً حادًا داخل البيت الابيض والكونغرس. وقال مراقبون ان وكالة INR تقوم كما يبدو بتوزيع التقرير المذكور بهدف التأثير على مجرى النقاشات المستقبلية المرتقبة في الكونغرس. وقال فيليب ويلكوكس، وهو مساعد كبير سابق لوزير الخارجية، لشؤون الاستخبارات والبحث، ان محافل INR " تتحفظ على سياسة خارجية تحركها دوافع ايديولوجية"، مشيرًا الى ان" تقارير الوكالة لا توزع بصورة عامة في الكونغرس".
مصادر في وزارة الخارجية اعربت عن تقديرها بأن التقرير ارسل لرؤساء الكونغرس نظرًا لأن محافل السلك الدبلوماسي الاميركي، لا تثق بفرص نجاح سياسة نظرية "عامل الدومينو"، وترى ان التصريحات العلنية بشأن تعميم الديمقراطية في العالم العربي تعطي نتيجة عكسية او تشكل حجر عثرة، على صعد عديدة. ووفقاً لرأي المنتقدين لهذا التوجه، فان فكرة الدومينو في العالم العربي – كما وصف ذلك بسخرية احد الموظفين - ليست معقولة، هذا اولاً. ثانياً - التصريحات حول اقصاء صدام حسين عن الحكم بغية إحداث وإشاعة عملية دمقرطة واسعة، تولد استياءً وسخطاً في اوساط الجماهير العربية اكثر مما تولد امالاً وبالتالي فان هذه التصريحات تؤدي الى تفاقم المشاعر المناوئة للولايات المتحدة في المنطقة، تلك المشاعر المتأججة اصلاً.
واخيرًا فان بعض هؤلاء المنتقدين يشعرون بالقلق من ان التركيز على عملية اشاعة الديمقراطية في سائر ارجاء العالم العربي سوف يصرف الاهتمام عن الهدف الفوري لما بعد الحرب، وهو ضمان قيام حكومة ديمقراطية بدرجة معقولة، حكومة ناجعة ومستقرة في بغداد.
علاوة على ذلك فان المنتقدين يتحدّون الفرضية الاساسية لنظرية الدومينو التي يتبناها صقور الادارة الاميركية، والقائلة انه بالامكان اقامة نظام ديمقراطي في العراق في اعقاب اجتياح – غزو - تقوده الولايات المتحدة. غير ان مصادر في البيت الابيض تدعي ان الرئيس وطاقم معاونيه تلقوا من وراء الكواليس نصائح اكثر تفاؤلاً من لويس وعجمي، وطدت عزم وتصميم الادارة الاميركية على استخدام الهجوم على العراق كمدخل الى اجراء تغيير شامل في العالم العربي.
وبيَّن "عجمي" مبررات الحملة لتشجيع العملية الديمقراطية في الشرق الاوسط بعد الاطاحة بـ "صدام" وذلك في مقال نشر في عدد كانون الثاني - شباط من دورية "فورين افيرس"، حيث كتب يقول: ان شبح الغضب العربي على الغزو الاميركي المرتقب للعراق يجب ان لا يردع الولايات المتحدة عن الشروع بمعركة (حملة) من اجل الديمقراطية، ذلك لأن الغضب المناهض لأميركا يشكل سمة جوهرية ملازمة للمجتمع العربي.
واضاف "عجمي" ان عالماً عربيًا مر بمرحلة اصلاحات، يشكل واحدًا من الاهداف الاميركية بعيدة المدى.
غير ان المنتقدين يقولون إن هذه الافكار الطموحة، التي تحركها مُثل دينية، تؤدي الى سياسة خاطئة وخطيرة على غرار المحاولات التي جرت قبل ثلاثة عقود لكبح "عامل الدومينو" الاصلي. وكان هذا الاصطلاح اللغوي قد استخدم للمرة الاولى في وصف النظرية التي راجت في الخمسينات والستينات، والتي قضت بأن سيطرة الشيوعية في فيتنام من شأنها ان تضرم سلسلة ثورات في دول جنوب شرق اسيا لتصبح المنطقة بأسرها واقعة تحت النفوذ السوفياتي. ميري آن تترو، المحاضرة في العلاقات الدولية بجامعة "ترينيتي" في تكساس، والتي اجرت بحوثاً حول الديمقراطية في العالم العربي، قالت ان "نظرية الدومينو لم تكن نظرية مناسبة في الماضي، وهي ليست مناسبة في الوقت الحاضر. فتبني الشيوعية عام 1955 او 1965 مشابه جدًا لتبني الديمقراطية عام 2005. فهذه العملية بطبيعتها تتقدم او تتحقق من اسفل الى اعلى. لذلك اذا كان ما نبحث عنه هو تعميم الديمقراطية فان فكرة فرض حكومة على دولة عن طريق الحرب، على امل ان يفضي الأمر الى عملية ديمقراطية تنتقل بعد ذلك الى دول اخرى في المنطقة، هي فكرة غير قابلة للتحقيق. فليس هناك اي آلية قادرة على تحقيق ذلك".
وترى تترو وخبراء اخرون في شؤون الشرق الاوسط، يعارضون موقف الادارة الاميركية، ان الحملة الاميركية لتشجيع الاصلاحات الديمقراطية عن طريق غزو العراق، قد تضعف مسيرة الاصلاحات الحذرة الجارية منذ بضع سنوات في عدد من دول الخليج ودول عربية اخرى، وبضمنها الاردن و المغرب. هناك ايضا نتيجة اخرى غير مرغوبة لسياسة الدومينو الجديدة التي تتبناها ادارة بوش وهي – حسب المنتقدين – اعطاء صلاحيات لقوى وعناصر متعصبة، اسلامية او غير اسلامية، عن طريق الديمقراطية.
هذا الادعاء يرد من حين الى اخر على لسان باحثين وساسة اسرائيليين.
(هآرتس 16/3، الترجمة العربية: "مـدار")