مثلما هي الحال على أعتاب كل انتخابات إسرائيلية عامة في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، كذلك في الانتخابات القريبة تطرح وأحياناً بكل حدّة قضية هوية أحزاب الوسط الإسرائيلية. ومن آخر مظاهر الجدل المحتدم في هذا الشأن ما دار بين المؤرخ المتخصص في تاريخ الصهيونية وإسرائيل يغئال عيلام، وزعيم حزب "يوجد مستقبل" عضو الكنيست يائير لبيد باعتباره حامل لواء وجوب إمساك هذا الوسط دفة القيادة في إسرائيل، بديلاً للحُكم الحاليّ.
وقد رفض لبيد، في سياق مقال نشره في صحيفة "هآرتس" يوم 4 كانون الأول الفائت، ادعاء عيلام بأن حزب الوسط كما يمثل عليه حزبه- "يوجد مستقبل"- أقرب إلى أن يكون "حزباً يسارياً خجولاً ومرعوباً"، وأكد تحديداً أن حزبه كوسط جاء كي يفترق عن قوموية اليمين التي وصفها بأنها متطرفة، وعن ليبرالية اليسار التي زعم بأنها تحوّله إلى ديانة كونية لحقوق الإنسان. ووصل إلى بيت القصيد حين اتهم اليسار بمغادرة الحلبة الصهيونية لمصلحة سياسات تناقض مجرد فكرة الدولة اليهودية الإثنية.
ينبغي إعادة التذكير أن لبيد أعلن، لدى تأسيس "يوجد مستقبل" قبل أقل من عشرة أعوام، ضمن مقال حمل عنوان "لماذا قررت دخول المعترك السياسي؟"، أنه "وطني إسرائيلي، ويهودي، وصهيوني"، وأن كل مواقفه تنبع من هذا الثالوث. وفي حينه حاول الأستاذ في "قسم تاريخ إسرائيل" في جامعة حيفا، البروفسور داني غوتفاين، في مقال نشره في ملحق "سفاريم" (كتب) في صحيفة "هآرتس"، يوم 18 كانون الثاني 2012، أن يستخلص برنامجاً سياسياً محتملاً للبيد بناء على مقالاته التي نشرها في صحيفة "يديعوت أحرونوت" وصدرت لاحقاً في كتاب.
وأشار غوتفاين إلى أن عقيدة لبيد من الناحية الاقتصادية تنص على أن "شرط تحرير الطبقة الوسطى من الاستعباد هو التراجع عن دولة الرفاه واستبدالها بدولة المساعدات، التي تميز الأنظمة النيو ليبرالية (الاقتصادية اليمينية). ووفقاً لذلك، فإن لبيد يقلص هدف خدمات الرفاه إلى الدعم الاجتماعي لـ’الضعفاء’، وهي الخدمات التي لا تحتاج الطبقة الوسطى إليها، لكنها مستعدة لتمويلها من الضرائب التي تدفعها"، كذلك فإنه يؤيد نظام الخصخصة.
وفيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، كتب غوتفاين أنه "على الرغم من أن لبيد يدعو إلى إخلاء مستوطنات من خلال ما يسميه بـ’تعامل نزيه’ مع المستوطنين، إلا إنه يتبنى الفرضيات الأساس للحكومة الإسرائيلية اليمينية تجاه الفلسطينيين. وهو يعتقد أنه ’لا يجوز الاعتماد على الفلسطينيين’ وأن ’الصراع هنا هو على البقاء’، لكنه يؤيد إقامة دولة فلسطينية ’لا لأن هذا سوف يجلب السلام، وإنما لأنه سيكون أسهل بكثير إدارة الصراع أمام دولة كهذه’".
وخلص غوتفاين إلى أن "لبيد يستخدم خطاب العمل لدفع سياسة شبيهة بسياسة نتنياهو. وهذه هي خلاصة وهم التغيير الذي يطرحه كرد كاذب على تناقضات الطبقة الوسطى الإسرائيلية". ورأى أن "إسرائيلية لبيد البرجوازية من شأنها تقوية نظام الخصخصة، وزيادة تراجع مكانة الطبقة الوسطى وتعظيم تناقضاتها". وينوّه آخرون بأن هذا التوجه يعتبر من ناحية جوهره يمينياً، نظراً إلى أن من المفترض به أن يخدم المصلحة اليهودية البحتة، وإلى أنه لا يقوم على قيم يسارية عالمية ومتساوية، يفضي اعتمادها إلى التركيز على الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإلى استيعاب الظلم الناجم عن استمرار الاحتلال، بالإضافة إلى الرغبة في التوصل إلى تسوية سلمية دائمة تلبي المطالب العادلة للفلسطينيين.
ولدى العودة إلى موقع "يوجد مستقبل" يمكن الاستدلال على الأساس الأيديولوجي لهذا الحزب. فهو يعدّد المحاور الأساسية لتوجهه الأيديولوجي في القضايا السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، ويحدّد أولاً نظرته لهوية الدولة: "نحن نؤمن بكون إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية بروح رؤيا أنبياء إسرائيل، ونؤمن بحقنا في العيش في دولة مع أغلبية يهودية، تعيش في حدود آمنة وقابلة للدفاع عنها"، ويشير إلى رؤيته للعلاقة بين دولة إسرائيل وبين يهود العالم: "نحن نؤمن أن من واجب الدولة أن تعمل كمركز للشعب اليهودي، والاهتمام بكل يهودي ملاحق بسبب يهوديته على وجه الأرض".
ويشير الأساس الأيديولوجي إلى أن الحزب انطلق من داخل الإجماع الصهيوني على هوية الدولة، فالدولة بالنسبة له لا يجب أن تكون يهودية في هويتها وتوجهاتها الثقافية فحسب، بل أيضاً عليها أن تكون ذات أغلبية يهودية، ودولة الشعب اليهودي في كل مكان.
وفي الجانب الاقتصادي ينادي الحزب بزيادة المشاركة في سوق العمل لدى قطاعات غير فاعلة في المجتمع الإسرائيلي، ويؤكد أن على الدولة الاهتمام بالطبقة الوسطى لكونها الطبقة المنتجة في السوق.
كذلك تظهر يمينية حزب الوسط هذا في الجانب السياسي من برنامجه، حيث جاء فيه: "لا يوافق يوجد مستقبل على الاتهامات الذاتية التي يطلقها جزء من الجمهور الإسرائيلي واليهودي إزاء مسألة السلام، فنحن نعتقد أن الفلسطينيين رفضوا مرة بعد مرة يد إسرائيل الممدودة إلى السلام، هكذا في الانتفاضتين الأولى والثانية، وهكذا بعد الانفصال أحادي الجانب عن غزة، فبدل أن يبنوا مستشفيات ومدارس مكان مستوطنات غوش قطيف في غزة، فضلوا إطلاق آلاف الصواريخ على السكان المدنيين، وهكذا فعلوا برفضهم اقتراح إيهود أولمرت للحل".
ويقترح الحزب تبني حل الدولتين، ولكن ليس بدافع الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الوطنية، بل بدافع الحفاظ على إسرائيل كدولة يهودية مع أغلبية يهودية، ويعتبر المستوطنين صهاينة حقيقيين، حيث يشير البرنامج إلى أن "السلام هو الحل المعقول الوحيد للتهديد الديمغرافي ولأفكار مثل دولة كل مواطنيها ودولة ثنائية القومية". أما بالنسبة لشكل الحل النهائي الذي يقترحه الحزب، فيتمثل في حل الدولتين، من دون العودة إلى خطوط الرابع من حزيران 1967، وعبر الإبقاء على الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، والإبقاء على القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وحل مشكلة اللاجئين في الدولة الفلسطينية فقط، وتمتلك إسرائيل "الحق" في محاربة "الإرهاب" حتى داخل الدولة الفلسطينية التي ستُقام!