ترى دراسة جديدة صدرت في شهر شباط الفائت عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، وشارك في إعدادها عدد كبير من الباحثين في هذا المعهد، أنه ينبغي على وجه السرعة وضع صيغة مُعدّلة لـ"مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي" في ضوء العديد من التغيرات الإقليمية والدولية وكذلك التحولات الداخلية، بحيث تستجيب لهذه التغيرات والتحولات، نظرًا إلى أن مبادئ المفهوم القديم التي وضعها رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الدفاع الأول دافيد بن غوريون، في خمسينيات القرن العشرين المنصرم، لم تعد تستجيب لجميع "التحديات الماثلة أمام إسرائيل في الوقت الحالي".
وتتطرّق الدراسة، من ضمن أمور أخرى، إلى الوضع الناشئ في منطقة الشرق الأوسط في أعقاب "الربيع العربي" الذي بدأ بالثورة التونسية في مطلع العام 2011، وتحلّل تداعياته الشتيتة. لكن يظل الأمر المُلفت فيها كامنًا في توكيدها أنه على الرغم من أن ما تسميه "الزلزال الإقليمي" تسبّب بإبعاد الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني عن مركز الحلبة، إلا إن هذا الصراع بقي ويبقى التحدّي المركزي بالنسبة إلى إسرائيل، مشيرة إلى أنه سيتأثر كذلك من "توجهات إقليمية".
كما تتناول الدراسة مجموعة تغيرات اجتماعية وديموغرافية جارية في إسرائيل وتؤول برأيها إلى تغيير وجه الساحة الداخلية برمتها، وبينها الفجوات الاقتصادية الآخذة بالتعمّق، واتسّاع دائرة الفقر، والفجوات العقائدية التي تزداد عمقًا بين اليمين و"اليسار". وفي شأن هذه الأخيرة توضح أن "الخلافات بين اليمين واليسار تتعلق أساسًا بالسياسة التي ينبغي إتباعها تجاه الفلسطينيين وبالنسبة لمستقبل مناطق الضفة الغربية"، وتخلص إلى أن "هذه الخلافات تمنع أي إمكانية لتحديد غايات قومية يجمع عليها معظم السكان في إسرائيل".
وتعتبر الدراسة، في إطار تناول التحولات الإسرائيلية الداخلية، أن ظاهرة شبكات التواصل الاجتماعية تؤثر من جهة في ما تسميه "الخطاب الديمقراطي"، ومن جهة أخرى تؤدي إلى "سطوع نجم" قادة شعبويين يفتقرون إلى صفات الزعامة.
وليس من المبالغة قول إن رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي وزعيم اليمين بنيامين نتنياهو ينتمي إلى هذا الصنف من القادة. وأحداث الفترة الأخيرة قدمت المزيد من القرائن الدالّـة على ذلك، وفي طليعتها آخر المُستجدات المتعلقة بإعادة هيكلة المشهد الإعلامي بما يضمن بسط سيطرته المُطلقة، إداريًا وسياسيًا، على وسائل الإعلام، مثلما تنمذج على ذلك قضية تأسيس هيئة جديدة لتنظيم البث الإسرائيلي العام لتحل محل سلطة البث القائمة.
كما يندرج في هذا الإطار استمرار الهجوم على المحكمة الإسرائيلية العليا والسلطة القضائية والذي انتقل رويدًا رويدًا من المسعى المحموم لتغيير صورتها إلى المجاهرة العلنية بمرامي هذا التغيير، وهي محاصرتها وتقليص صلاحياتها "حتى وضعها في مكانها الصحيح وتوضيح حدودها"، تطبيقًا لما تراه أحزاب اليمين الإسرائيلي الحاكم وقادتها حيال "ضرورة إعادة ترسيم الحدود وتوضيحها بين السلطات الثلاث وتأكيد الفصل بينها"، بزعم أن "السلطة القضائية" (وخصوصًا المحكمة العليا) تفرض "أجندتها" على السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست)، من خلال قراراتها القضائية، ولا سيما تلك التي تتصدى للإجراءات الإدارية الحكومية المعادية لحقوق المواطن والإنسان أو للتشريعات القانونية المعادية للقيم الديمقراطية.
ومع أهمية الانطباع العام الذي تثيره دراسة "معهد أبحاث الأمن القومي"، تحديدًا فيما يتعلق بتوكيد أن القضية الفلسطينية كانت وستبقى "التحدّي المركزي" بالنسبة إلى إسرائيل، بالرغم من كل ما جرى ويجري من تطورات داخلية وإقليمية ودولية، وكذلك فلسطينية، لا بُدّ من ملاحظة ما تثبتّـه ورقة جديدة صادرة عن أحد مراكز الأبحاث اليمينية ("المركز المقدسي للشؤون العامة وشؤون الدولة") بخصوص "التحوّل المفاجئ" الذي طرأ على الخطاب السياسي في إسرائيل في مطلع العام 2016 الفائت.
ووفقًا لما ورد في هذه الورقة وجد حزبا الليكود والعمل نفسيهما- في ما تصفه بأنه "إحدى الحالات النادرة في التاريخ"- يقفان في نفس الجانب من المتراس، وذلك عندما أقر الحزبان علنًا أنه وفي اللحظة الزمنية الراهنة بات الهدف المتمثل في التوصل إلى حلّ عبر المفاوضات مع الفلسطينيين استنادًا إلى صيغة "دولتين لشعبين"، بمثابة "سراب غير قابل للتحقيق".
وبرأي كاتب الورقة، يعود أحد الأسباب التي تقف وراء ذلك إلى أن كلا الحزبين لاحظا أن الفلسطينيين تبنوا ما يعرف بـ "الخطة ب"، وهي تشمل سياسة ترتكز على فرضية فحواها أن الطريق الأسلم للدفع قدمًا نحو تحقيق الأهداف والمصالح الفلسطينية تكمن في القيام بجهود ومساع حثيثة من جانب واحد في الساحة الدولية، وتكريس الواقع القائم، وذلك عبر القيام بأعمال استنزاف عنيفة، ونزع الشرعية عن إسرائيل ومقاطعتها. ومن وجهة نظر الفلسطينيين فإن مثل هذه الأعمال والنشاطات من شأنها أن تضعف إسرائيل في الساحة الدولية وأن تبقي الصراع الإقليمي مطروحًا على الأجندة بهدف التسبب في انقسام داخلي وإضعاف المجتمع الإسرائيلي.
كما يتفق الحزبان الرئيسيان في إسرائيل حاليًا- بحسب ما يقول الكاتب- على أن الهدف الحقيقي للفلسطينيين لم يعد حل "دولتين لشعبين"، استنادًا لمبدأ مقايضة الأرض بالسلام، وعلى أن الفلسطينيين معنيون الآن بأن يروا في نهاية العملية واقعًا يقوم على "دولة واحدة يصبحون فيها هم الأكثرية، وأن لا يكون لإسرائيل وجود كدولة يهودية وديمقراطية".
لئن كان هذا الكلام، الذي لا يُمكن دحضه في مجال التشخيص الدقيق لواقع حال الحزبين الإسرائيليين الرئيسيين وموقفيهما من القضية الفلسطينية، يعني شيئًا فهو يعني أكثر من أي شيء آخر أن جوهر تعامل هذا الحزبين مع ذلك "التحدّي المركزي" غير مُرشّح، على الأقل في الأفق المنظور، لأن يتطوّر في اتجاه التجاوب مع التطلعات الفلسطينية حتى في حدودها الأدنى.