شكلت مراسم التسليم والتسلم لقيادة الجيش الإسرائيلي بين رئيس هيئة الأركان العامة المنتهية ولايته الجنرال بيني غانتس وخلفه الجنرال غادي آيزنكوت التي أقيمت أخيراً، فرصة أخرى لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وأقطاب الليكود واليمين كي يركزوا على الشأن الأمني في الحملة الانتخابية الحالية في مقابل تركيز "معسكر الوسط- اليسار" أكثر على الشأن الاجتماعي - الاقتصادي.
ولعلّ ما يحدث نتيجة لذلك أن الشأن السياسي وفي صلبه الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني الذي كان في الماضي يشغل بهذا القدر أو ذاك مكاناً رئيساً في المعركة الانتخابية، يُنحى إلى هامش هذه الانتخابات أكثر فأكثر.
وتشف هذه التنحية أكثر شيء عن واقع وجود إجماع إسرائيلي واسع على أن احتمالات التوصل في الوقت الحالي إلى تسوية دائمة تضع حداً للصراع منخفضة للغاية، وبالتالي فإن أقصى ما تحتاج إسرائيل إليه يتمثل بـ "عملية سلام" لا تفضي بالضرورة إلى سلام يلبي أدنى المطالب الفلسطينية (طالع تقريراً على ص 6 حول تضاؤل قيمة السلام في صفوف الرأي العام الإسرائيلي خلال الأعوام القليلة الفائتة وانعكاس ذلك على أداء الأحزاب).
وفي سياق متصل جرى التنويه ضمن ورقة "تقدير موقف" صادرة حديثاً عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أن عدم إجراء مفاوضات (القصد مجرّد إجراء مفاوضات) للتوصل إلى تسوية دائمة يزعزع شرعية النشاطات السياسية والعسكرية التي تقوم بها إسرائيل في المنظومة الدولية في مجالات عديدة: دبلوماسياً، وقانونياً، واقتصادياً، وما إلى ذلك. فضلاً عن هذا فإن العلاقات المتداعية إلى حد القطيعة على صعيد المحادثات السياسية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، يجري استغلالها من جانب جهات سياسية ومنظمات غير حكومية في أرجاء العالم لشنّ حملة تهدف إلى تشويه سمعة إسرائيل. وفي ظل هذه الحملة تُصوَّر إسرائيل من طرف هذه الهيئات على "أنها دولة عدوانية وغير إنسانية، تعمل بطريقة غير متناسبة ضد شعب أضعف منها ومن دون تمييز"!.
وتؤكد الورقة أنه على الرغم من أنه لم يُسجّل حتى الآن نجاح عملي كبير لهذه الحملة، فإنها تنطوي على تأثير متراكم يؤدي إلى تآكل التعاطف مع مواقف إسرائيل لدى أصدقائها. وفي قراءتها تجلّى عدم ارتياح أنصار إسرائيل في المجتمع الدولي إزاء السياسة الإسرائيلية، من بين عدة أمور، عبر الاعتراف، وإن كان غير الملزم، الصادر من طرف برلمانات أوروبية بدولة فلسطينية حتى في ظل غياب مفاوضات. ويُضاف إلى ذلك قيام ثماني دول أعضاء في مجلس الأمن الدولي- أي أقل بصوت واحد فقط من العتبة المطلوبة لإجراء نقاش- بتأييد مشاريع قرار فلسطينية طرحها الأردن على جدول أعمال هذا المجلس في كانون الأول 2014. وقد دعا مشروعان منها إلى فرض اتفاق على إسرائيل في غضون عام واحد وإلى إجبارها على سحب قواتها من الضفة الغربية في غضون ثلاثة أعوام.
من ناحية أخرى، لكن مكملة، كانت مراسم التسليم والتسلم لقيادة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي مناسبة لتقصّي "جدول الأعمال الأمني" الماثل أمام رئيس هيئة الأركان الجديد.
وبحسب تحليلات خبراء الشؤون الأمنية وباحثي "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب الذي عقد مؤخراً مؤتمره السنوي وعرض فيه تقييماً إستراتيجياً لإسرائيل يرصد حصيلة العام 2014 ويستشرف السيناريوهات المتوقعة خلال العام 2015 الحالي، من المنتظر أن تتصدّر جدول الأعمال المذكور ثلاثة "تهديدات أمنية" هي:
أولاً، احتمال انفجار الأوضاع من جديد في قطاع غزة وربما في الصيف القريب. ويُشار في هذا الشأن إلى أنه في قيادة الجيش الإسرائيلي يدركون أنه إذا لم تتم إعادة إعمار غزة بتسارع كبير يجب أن يكون هناك استعداد لحرب جديدة. كما يُشار إلى أن أحد أسباب احتمال الانفجار يعود إلى أن ثمة وزراء يستغلون عملية "الجرف الصامد" العسكرية التي قام الجيش الإسرائيلي بشنها في القطاع الصيف الفائت خلال حملة الانتخابات الحالية كوسيلة من أجل التهديد باستعمال القوة لجرف مزيد من الأصوات.
ثانياً، تهديد يأتي من الضفة الغربية، ففي نهاية شهر شباط الحالي من المتوقع أن تعقد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة "فتح" اجتماعاً يعرض فيه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس خياراته بدءاً بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل عن طريق نقل الصلاحيات المدنية في المدن الفلسطينية إلى إسرائيل وانتهاء باستقالته. وتجمع التحليلات الإسرائيلية على أن ما أدى إلى تزعزع السلطة هو وقف الأموال، سواء أموال المساعدات الأميركية أو أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل، وعلى أنه إذا لم يكن هناك طعام في ثلاجات المدن الفلسطينية فإن الأرض سوف تشتعل ويجب الاستعداد لمثل هذه المواجهة.
ثالثاً، التهديد القادم من منطقة الحدود الشمالية مع سورية ولبنان، ووفقاً للتحليلات الإسرائيلية فإن المواجهات في سورية تغير وجهتها كل لحظة، وفي المقابل حسّن الإيرانيون بصورة جوهرية قدرة القتال لدى حزب الله في لبنان (طالع تقريراً أوسع على ص 3).
بيد أنه في خضم هذا كله يجب رؤية أن تركيز الليكود ورئيسه واليمين الإسرائيلي عامة على الشأن الأمني يتسبب بارتفاع منسوب الحيل الإعلامية التي يتم تداولها لحاجات انتخابية محضة.
ومهما تكن هذه الحيل، يمكن أن نلفت إلى إحداها المتعلقة بالحدود الشمالية، ومؤداها محاولة إثارة انطباع عام بأن الحديث يدور حول فتح جبهة جديدة ضد إسرائيل في الجولان السوري "حيث يوجد أكثر من ألفي مقاتل لحزب الله يخضعون عملياً لقيادة إيرانية" كما أكد رئيس الحكومة نفسه.
ولا شك- كما قيل ويُقال في أكثر من مقام- في أن نتنياهو يتطلع إلى أن يشعر المواطنون الإسرائيليون بالخوف الشديد قبل أن يتوجهوا إلى صناديق الاقتراع في 17 آذار المقبل.