في تحليل مستجد لخّص رئيس تحرير صحيفة "هآرتس"، ألوف بن، آخر الأفكار المعششة في رأس رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حيال الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فأشار من ضمن أمور أخرى إلى أنه يعارض التوصل إلى صفقة شاملة مع حركة حماس لإعادة المخطوفين الإسرائيليين في مقابل وقف الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، ويبرّر موقفه هذا أكثر من أي شيء آخر بـ "الحاجة إلى تفكيك حركة حماس" ("هآرتس"، 29/12/2024).
وقبل أن يدلي ألوف بن بدلوه هذا، أكدت تحليلات إسرائيلية متطابقة ما يلي:
أولاً، أن نتنياهو يُصرّ، في أثناء المفاوضات بشأن إطلاق المخطوفين الإسرائيليين، على صفقة من عدة مراحل، وبذلك لا تعلن إسرائيل وقف الحرب على غزة.
ثانياً، أنه حتى وفقاً لما يندرج ضمن "المصلحة الإسرائيلية" لا يوجد أيّ منطق عسكري في إصرار نتنياهو هذا، نظراً إلى أن الجيش الإسرائيلي، كما أشار مثلاً المحلل العسكري لصحيفة "معاريف" آفي أشكنازي (24/12/2024)، قام بمناورات عسكرية في قطاع غزة كلّه، ونجح في ضرب منظومة القيادة والسيطرة في حركة حماس، وفي ضرب البنى التحتية المركزية للحركة في قطاع غزة. وأنشأ مناطق فاصلة في رفح ومحور فيلادلفيا، وبالقرب من السياج الحدودي مع "غلاف غزة"، كذلك أنشأ ممراً يبلغ عرضه نحو 8 كيلومترات ("ممر نتساريم"). وبحسب ما يؤكد أشكنازي، هاجم الجيش الإسرائيلي الأنفاق الاستراتيجية والأنفاق التنظيمية في معظمها، "وهو ما يمكن أن نلمسه جيداً في الميدان من خلال تعقب تحركات عناصر حماس"، برأيه. وفي ضوء ذلك كله يستطيع الجيش الإسرائيلي الآن، مثلما يشدّد المحلل العسكري نفسه، السماح لنفسه بالتراجع إلى الوراء، والتمركز على خط الحدود، ويتعيّن على إسرائيل استغلال ما بحيازتها من مزايا عسكرية، مثل سلاح الجو والصواريخ الدقيقة والمسيّرات والحوامات، كذلك يمكن الاستفادة من البنى التحتية التي أنشأها الجيش في المناطق الفاصلة بالقرب من فيلادلفيا، وفي "الممر"، وفي "الغلاف"، وكلما كان مطلوباً من الجيش دخول مناورة بريّة يمكنه أن يفعل هذا بسرعة.
ثالثاً، يؤيد قادة المؤسسة الأمنيّة الإسرائيلية، وفي مقدمهم قادة الجيش، استعادة المخطوفين من خلال صفقة تبادل إلا إنهم لا يواجهون رئيس الحكومة بهذا الشأن. وما يستنتجه بن من آخر التطورات الميدانية، ولا سيما في شمال قطاع غزة، أنه لا يوجد هناك أي خلاف بين نتنياهو الذي يحافظ على الغموض في ما يتعلق بشمال القطاع، وقيادة الجيش التي تدعو المراسلين إلى مشاهدة الدمار في جباليا وتمركز قوات الجيش في "ممر نتساريم"، كما حدث في الفترة القليلة الفائتة.
عند هذا الحدّ يتعيّن أن نطرح السؤال التالي: لماذا تتمسّك حكومة بنيامين نتنياهو بـ"مبدأ" عدم وقف الحرب على غزة؟ وما هي الأهداف الجوهريّة التي يخدمها هذا التمسّك؟.
تشير الكثير من التحليلات في إسرائيل، بما في ذلك آخر تحليل لرئيس تحرير "هآرتس" المُشار إليه أعلاه، إلى أن لدى نتنياهو دوافع سياسية محضة من وراء ذلك، فهو يتخوّف من الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش اللذَين يعارضان صفقة التبادل، ويهددان بإسقاط الائتلاف الحكومي والذهاب إلى انتخابات تشير استطلاعات الرأي العام إلى أن نتنياهو سوف يخسرها. ولكن في العمق ثمة دوافع أبعد مدى من غاية البقاء في سدّة الحكم التي تعتبر الأكثر اشتهاء من جانب نتنياهو. ومهما تكن هذه الدوافع فإن الدافع الأبرز منها، والذي على ما يبدو يقف أيضاً وراء قرار قيادة الجيش عدم مواجهة رئيس الحكومة، هو أن وقف الحرب في غزة يمكن أن يؤدي إلى وقف ساحة القتال مع الحوثيين في اليمن.
وتتواتر في إسرائيل في الفترة الأخيرة التحليلات التي تؤكد أن إسرائيل استقر قرارها على أن تتذرّع بالقتال الذي يشنّه الحوثيون عليها والذي يتجسّد في إطلاق المسيّرات والصواريخ في اتجاه إسرائيل وتسبّب، من بين أمور أخرى، بفرض حصار بحري على إيلات، لتبرير شنّ هجوم قريب على إيران.
وما بالوسع أن نؤكد عليه في هذا الصدد حتى لحظة كتابة هذه السطور هو ما يلي:
أولاً، تشير تحليلات إسرائيلية كثيرة إلى أنه في ما يتعلّق بالساحة اليمنيّة لا توجد أي فجوة بين رئيس الحكومة نتنياهو وكبار قادة الجيش في إسرائيل؛ فكلهم- على ما يؤكد رئيس تحرير "هآرتس"- مع التصعيد، ويسهبون في شرح أن عمليات القصف التي يقوم بها سلاح الجو الإسرائيلي في اليمن هي ليست أكثر من تدريبات تحضيرية لعملية كبيرة جداً، وهي مهاجمة المنشآت النووية في إيران.
ثانياً، سبق أن أشرنا، الأسبوع الفائت، إلى أن آخر المستجدات في سورية عزّزت اعتقاداً في إسرائيل فحواه أنها تتيح أمام إسرائيل فرصة ربما لا تتكرر للقيام بمهاجمة المنشآت النووية في إيران. وتعود هذه الفرصة إلى عدة أسباب يظلّ في طليعتها سببان جوهريان: 1- فُتحت مسارات الطيران إلى منشأتي نطنز وفوردو في الأراضي الإيرانية على مصراعيها بعد زوال العقبات التي كانت تعترضها؛ 2- تدمير الدفاعات الجوية الإيرانية، وانهيار نظام الأسد في سورية، وإعلان الميليشيات في العراق وقف إطلاق النار. وإن أكثر ما باتت إسرائيل تنتظره في الوقت الحالي هو فقط التزوّد بالسلاح، والحصول على موافقة من الرئيس الأميركي المقبل دونالد ترامب (الذي من المقرّر أن يتسلم مهمات منصبه في البيت الأبيض يوم 20 كانون الثاني 2025)، وربما حتى من جو بايدن كـ"هدية وداع"، على حد تعبير ألوف بن.
ثالثًا، إن التوصل إلى صفقة تبادل بين إسرائيل وحركة حماس توقف الحرب في قطاع غزة سوف تعطل هذا المخطط، لأنه في حال قيام الحوثيين بوقف إطلاق النار ورفع الحصار البحري عن إيلات سيكون من الصعب على إسرائيل تبرير الهجوم على إيران ومنشآتها النووية، وخصوصاً إذا أدى الهدوء إلى إحياء الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق بين طهران والغرب. ولكن ما دام المخطوفون الإسرائيليون في غزة، فإن إسرائيل تستطيع مواصلة الحرب، والتمسك بـ"أمل" الحصول على موافقة أميركية لمهاجمة إيران.
رابعاً، لا بُدّ من الإشارة إلى أن مهاجمة إيران تحظى بشعبية وسط الجمهور اليهودي الإسرائيلي، وقد ازدادت أكثر فأكثر منذ حدوث آخر التطورات المرتبطة بالساحة اللبنانية وحزب الله، وسقوط نظام الأسد في سورية.
خامساً، يجب أن نعيد إلى الأذهان أن ما تنطق به أبواق رئيس الحكومة نتنياهو، كما ينعكس مثلاً في ما تكتبه من تحليلات على صفحات جريدة "يسرائيل هيوم"، لا ينفك يكرّر أن الحوثيين هم ذراع إيرانية تنطوي على ما يصفونه بأنه "تهديد إقليمي استراتيجي". وبالتالي فإن المطلوب ليس توجيه ضربات عسكرية موجعة لهم، بل أيضاً إطاحة حكمهم في شمال اليمن. وبموجب ما جاء في أحد هذه التحليلات، فإن هذا التهديد الحوثي أدّى إلى شل حركة الملاحة في البحر الأحمر وإلى إغلاق ميناء إيلات في جنوب إسرائيل، وألحق ضرراً كبيراً أيضاً بالاقتصاد المصري الذي يعتمد على مداخيل الملاحة في قناة السويس، وهذا الضرر اللاحق بمصر ستكون له تداعياته على استقرار حكم الجنرال عبد الفتاح السيسي، وعلى الاستقرار الإقليمي. وكذلك "من المفيد الإشارة إلى أن الحوثيين لن يتوقفوا عند مصر، بل أيضاً ستكون السعودية والإمارات العربية المتحدة وحتى الأردن في دائرة استهدافهم" المقبل ("يسرائيل هيوم"، 29/12/2024).
إجمالاً يمكن القول إن هذه الرؤية الإسرائيلية تروّج للذهاب بآليات التحكّم في استمرار الحرب على غزة إلى حدودها القُصوى.