ما زالت التحليلات التي تحاول استشراف الاتجاهات التي ستنحو إسرائيل نحوها في إثر السقوط المدوي لنظام بشار الأسد في سورية تتوالى، ويتعلّق معظمها بما يوصف بأنه "الشرق الأوسط الجديد" الذي يتم السعي لتكريسه من الآن فصاعداً. وبرز على السطح، خلال الفترة القليلة الفائتة، أكثر من أي شيء آخر، التقييم الذاهب إلى أن التقديرات السائدة في أروقة المؤسستين الأمنية والسياسية في إسرائيل تذهب إلى أنه في أعقاب إضعاف الجماعات التابعة لإيران في المنطقة وسقوط نظام الأسد، هناك فرصة استثنائية لضرب المنشآت النووية الإيرانية. ولذلك يواصل سلاح الجو الإسرائيلي زيادة استعداداته وجهوزيته لمثل هذه الضربات المحتملة في إيران.
وتقف عدة أسباب وراء الدعوة إلى انتهاز مثل هذه الفرصة لعل أهمها الاعتقاد بأن إيران، التي باتت معزولة إلى حدّ كبير بعد سقوط نظام الأسد وإضعاف حزب الله في لبنان، قد تمضي قدماً في برنامجها النووي وإنتاج سلاح نووي يشكّل داعماً بديلاً لقوتها الرادعة.
بداية، لا بُدّ من ملاحظة أن كل هذه التحليلات تُجمع على أن إيران هي أكبر الخاسرين من سقوط نظام الأسد وإضعاف حزب الله، نظراً إلى أنها فقدت الآن، مثلما يؤكد اللواء في الاحتياط يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، محوراً أنشاته وتعزّز بالتدريج، يمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط، مروراً بالعراق الذي يخضع لنفوذها، وسورية التي تعتمد عليها ل من أجل بقاء النظام، ولبنان حيث يسيطر حزب الله الذي قامت ببنائه وتمويله وتسليحه. وبرأيه "تم تدمير هذا المحور، وستواجه إيران صعوبة في تسليح الحزب الذي تم إضعافه في لبنان. كما أنها فقدت، عملياً، قدرتها على تكبيد إسرائيل الأذى عبر حدودها الشمالية، وهو ما يتركها مكشوفة أمام مواجهة مباشرة مع إسرائيل من دون أي دعم من وكلاء قريبين من إسرائيل (إذ تم تدمير جزء آخر من قدرتها على إيذاء إسرائيل في قطاع غزة). وتلاشى حلمها بمحور شيعي يصلها بالبحر الأبيض المتوسط ويشكّل جزءاً أساسياً من ’حلقة النار’ حول إسرائيل" ("معاريف"، 13/12/2024). وهناك أمر أعمق، مثلما يشدّد عميدرور، هو أن إيران، في لحظة الحسم، فشلت في تقديم الدعم إلى حزب الله، الذي تلقى ضربة قاسية جداً في الحرب ضد إسرائيل، كما فشلت في حماية النظام السوري الموالي لها، والمعتمد عليها؛ "وهذا الفشل الإيراني يتردّد صداه في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وخصوصاً في العالم العربي الذي خشي من إيران على مرّ التاريخ".
وهذا هو ما يؤكد عليه أيضاً المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، الذي رأى أنه في الآونة الأخيرة "تغيّر الميزان لصالح إسرائيل" ("هآرتس"، 13/12/2024). وفي قراءته، بعد عام وشهرين من هجوم "طوفان الأقصى" الذي وقع يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يمكن إجمال المستحصلات الناجزة في ما يلي: 1. تم تفكيك الذراع العسكرية لحركة حماس بمعظم قدراتها؛ 2. دمرت معظم القدرات العسكرية لحزب الله؛ 3. انهار نظام الأسد في سورية وتم تدمير الذراع الطويلة لجيشه؛ 4. باتت المكانة الإقليمية لإيران الآن هي الأضعف في الأعوام الثلاثين الأخيرة. ولعل الأمر الذي لا يقل أهمية عن ذلك كله هو ارتفاع أسهم إسرائيل لدى الولايات المتحدة، إلى درجة أن هرئيل يشير إلى أنه عندما سئل مصدر رفيع في إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن بشأن العبرة التي كان يريد استخلاصها من هذه الأحداث؟ أجاب: ينبغي على القوات التي تعمل في الشرق الأوسط أن تفهم (من الآن فصاعداً) أن هذا هو الثمن الذي سيدفعه من يشنّ حرباً ضد إسرائيل!
وضمن سياق تسويغ الفرصة الاستثنائية التي أصبحت متاحة لضرب المنشآت النووية الإيرانية، تركّز أغلب التحليلات الإسرائيلية على ما يلي:
أولاً، أعلنت إسرائيل قبل عدة أيام أنه بعد أكثر من عقد دأبت فيه على تفادي الدفاعات الجوية فوق سماء سورية، خلال شنّ عمليات عسكرية تهدف إلى منع قيام إيران بإمداد حزب الله بالأسلحة، حققت تفوقاً جوياً كاملاً على سورية قد يتيح ممراً آمناً لطائرات سلاح الجو من أجل تنفيذ ضربات ضد إيران. كما أدت حملة قصف جوي إسرائيلية فوق سورية، كانت غايتها تدمير أسلحة متقدمة يمكن أن تقع في أيدي "عناصر معادية" في أعقاب انهيار نظام الأسد، إلى تدمير الغالبية العظمى من الدفاعات الجوية السورية. وبحسب تقارير إسرائيلية وأجنبية متطابقة، كانت سورية تمتلك، من ضمن أشياء أخرى، نظامي دفاع جويين روسيي الصنع شكّلا تحديات لسلاح الجو الإسرائيلي خلال ما يسمى بـ"الحروب بين الحروب" التي تهدف إلى مواجهة عمليات تسليم أسلحة إيرانية لحزب الله في لبنان ومحاولات جماعات مدعومة من إيران التمركز في الأراضي السورية والتي بدأت في العام 2013. وإذا كان سلاح الجو الإسرائيلي لا يحلق في الماضي مباشرة فوق دمشق عند تنفيذ ضربات ضد أهداف مرتبطة بإيران في العاصمة السوريّة، فإنه يستطيع أن يفعل ذلك الآن. كما يمكن لسلاح الجو الإسرائيلي أيضاً أن يرسل مسيّرات استطلاع فوق العاصمة السورية بدون أن يخشى من أن يتم إسقاطها بواسطة منظومات الدفاع الجوي روسية الصنع المتطورة. والنتيجة النهائية من ذلك كله هي أن هذه الحرية المستجدة في العمليات الجوية توفّر لسلاح الجو الإسرائيلي فرصاً جديدة في سورية من جهة، بالإضافة إلى فرص تنفيذ ضربات محتملة في إيران من جهة أخرى.
ثانياً، أكد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق (المعزول) يوآف غالانت لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية (15/12/2024) أن الهجوم الإسرائيلي ضد إيران يوم 26 تشرين الأول الماضي، والذي أتى ردّاً على قصف إيران لإسرائيل في 1 تشرين الأول، أوجد "نافذة فرص" للتحرّك ضد هذه الأخيرة ومنعها من إنتاج سلاح نووي. وبموجب ما جاء في الصحيفة الأميركية، اعتماداً على غالانت بالأساس، كان هذا الهجوم الإسرائيلي محسوباً ويهدف أكثر شيء إلى ترك إيران بدون حماية ضد أي هجوم مستقبلي. وأشار مصدر عسكري إسرائيلي إلى أن 120 طائرة شاركت في الهجوم، وتم فيه استهداف رادارات الدفاع الجوي، والبطاريات المضادة للطائرات التي تحمي طهران، بالإضافة إلى المصانع الرئيسية التي تنتج الوقود للصواريخ الباليستية الإيرانية.
ووفقاً لأقوال غالانت فإن هدف الهجوم بعبارات بسيطة هو ضمان أن "تضعف إيران وتصبح إسرائيل أقوى"، حتى لا يكون في إمكان طهران الرد بقوة على هجمات مستقبلية. وبعد الهجوم بات المسؤولون في إسرائيل يعتقدون أنه خلال العامين المقبلين، لن تتمكن إيران من إضافة الكثير إلى ترسانتها المحدودة من الصواريخ الباليستية. وفي الوقت نفسه، تم تمزيق دفاعاتها الجوية، وخصوصاً حول العاصمة.
وارتباطاً بما ورد في البند السابق، تؤكد الصحيفة الأميركية أن إسرائيل أنشأت على ما يبدو ممراً إلى إيران يمنح طائراتها المقاتلة طريقاً واضحاً لتوجيه الضربات ضد طهران. وبرأيها فإن "هذا مستوى من الحرية في العمليات يعطي إسرائيل القدرة على ضرب إيران بنفس السهولة التي ضربت فيها غزة ولبنان"!
ثالثاً، تتجه الأنظار في الوقت الحالي إلى الإدارة الأميركية المقبلة برئاسة دونالد ترامب والتي ستتسلّم مهمات منصبها يوم 20 كانون الثاني 2025.
ووفق ما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، يوم الجمعة الأخير (13/12/2024)، يدرس فريق الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب خياراته لوقف البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك توجيه ضربات جوية، حيث يبحث مستشارو ترامب العمل العسكري، لاعتقادهم بأن الضغوط الاقتصادية ليست كافية لاحتواء طهران.
ولفتت الصحيفة إلى أن ترامب يدرس الخيارات المتاحة لمنع إيران من امتلاك القدرة على بناء سلاح نووي، بما في ذلك إمكانية توجيه ضربات جوية وقائية، ونوهت بأن هذه ستكون خطوة من شأنها كسر السياسة المتبعة منذ فترة طويلة، والتي تتمثل في احتواء طهران بالدبلوماسية والعقوبات. وبحسب الصحيفة، فإن خيار توجيه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية يخضع لمراجعة أكثر جدية من طرف بعض أعضاء فريق انتقال السلطة. ونقلت عن هؤلاء قولهم إن ضعف موقف إيران الإقليمي، والكشف الأخير عن النشاط النووي المزدهر لطهران، أدى إلى زيادة النقاشات الداخلية الحساسة، وأكدت في الوقت عينه أن كل المداولات بشأن هذه القضية لا تزال في مرحلة مبكرة.
غير أنه بالرغم من هذه المرحلة المبكرة، يمكن التنويه بمسألتين تستلزمان التعقّب:
الأولى، كشف مصدران مطلعان على محادثات هاتفية أجراها ترامب مع نتنياهو، عن أن الرئيس الأميركي عبّر عن قلقه إزاء إمكانية نجاح طهران في تطوير برنامجها النووي في عهده، وفي مجرّد هذا إشارة إلى أنه يبحث عن مقترحات لمنع هذه النتيجة. ولكن المقربين من ترامب يؤكدون أنه يناقش خططاً لا تؤدي إلى إشعال حرب جديدة، وخصوصاً تلك التي تؤدي إلى انخراط الجيش الأميركي، حيث من المحتمل أن تؤدي الضربات ضد المنشآت النووية الإيرانية إلى وضع الولايات المتحدة وإيران في مسار تصادمي.
الثانية، نقلت "وول ستريت جورنال" عن أشخاص مطلعين على الخطط التي تناقش في الولايات المتحدة بهذا الشأن قولهم إن فريق ترامب يعكف على وضع ما يُطلق عليه استراتيجية "الضغط الأقصى" ضد النظام الإيراني، وهي تكملة لاستراتيجيته في فترة ولايته الأولى، والتي ركّزت على العقوبات الاقتصادية الصارمة. غير أنه هذه المرة يعمل ترامب ومساعدوه على صوغ خطوات عسكرية مقرونة بعقوبات مالية أكثر صرامة.