المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 1716
  • أنطوان شلحت

مع استئناف الحرب الإسرائيلية على غزة، التي بدأت في إثر الهجوم الذي قامت به حركة حماس ضد مواقع عسكرية وضد السكان في ما يعرف باسم "غلاف غزة" في المنطقة الجنوبيّة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتوقفت لمدة أسبوع بين 24 تشرين الثاني الفائت والفاتح من كانون الأول الحالي من أجل تنفيذ صفقات تبادل أسرى، بدأت تتبدّد شيئاً فشيئاً بعض سحب الضباب التي تلوح فوقها تحت وطأة التعتيم الصارم الذي فرضته إسرائيل عليها واستهدف من ضمن أمور أخرى التغطية على ما تقوم به من جرائم حرب وإبادة جماعيّة من جهة، وممارسة أكبر قدر من التضليل الإعلامي من جهة أخرى. 

بالرغم من ذلك لا يمكننا أن ندعي، عند قراءة التقارير والتحليلات الإسرائيلية، أن الصورة واضحة تماماً وإن باتت أوضح من ذي قبل، لكن يمكن أن نقوم بتقاطع ما هو واضح حتى الآن مع ما تسعى إسرائيل له وتزعم أنها سائرة نحوه، كذلك أن ندلي بدلونا في عرض المصاعب والتحديّات التي تواجهها هذه الحرب التي تبدو غير عاديّة بالرغم من أن الدعاية الإسرائيلية تعتبرها عادية وتحاول إقناع رأيها العام بذلك، في جوّ طاغٍ تحركّه غريزة الانتقام والعاطفة أكثر من أي شيء آخر، وأحياناً حتى من دون عقل، ومن خلال إيمان أعمى.

في واقع الأمر في كل من الحروب السابقة أوجدت إسرائيل الصيغة التي تناسب تغطيتها، أو لعلّ الأصح القول إن الغاية التي تطلعت إليها من وراء كل حرب هي التي كانت بمثابة دليل لها على إيجاد الصيغة الأنسب.  

وبحسب أستاذ الإعلام الإسرائيلي، الدكتور باروخ ليشم، فإن السياسة التي تنتهجها وحدة الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي منذ بدء المناورة البرية (التوغّل البريّ) في قطاع غزة في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول الماضي، تتسم بفرض تعتيم إعلامي مطلق على طابع المعارك التي يخوضها الجيش، والاكتفاء بتسريب فتات المعلومات. وهذا السلوك ينطوي على تغيير إذا ما قورن مثلاً بما كانت عليه الحال إبان عملية "الجرف الصامد" العسكرية في القطاع في العام 2014. وينوّه ليشم بأن المفهوم الذي يحكم سلوك جيوش الدول الغربيّة في العصر الحديث يؤيد التعاون مع وسائل الإعلام في أوقات الحرب. والفرضية الأساس التي تقف من وراء ذلك مؤداها أن الكثير من العمليات الحربية بحاجة إلى شرح وتأويل، والأهم من هذا بحاجة إلى شرعنة، سواء من حيث سيرها أو من حيث نتائجها. والصلة مع الجمهور العريض لها دور مهم في طرح موقف الجيش وتأجيج رأي عام مؤيد ومساند. وهذا المفهوم صار إلى تعزّز من جانب الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 والحرب في العراق العام 2003، وقام الجيش الإسرائيلي بتبني هذا المفهوم حرفيّاً في حرب لبنان الثانية العام 2006. وهو ما أكدته الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي آنذاك والوزيرة الحالية ميري ريغف حيث قالت خلال إدلائها بشهادتها أمام لجنة فينوغراد التي تقصّت وقائع تلك الحرب: "لقد بذلنا جهداً سامياً من أجل إدخال مراسلين إلى ساحات القتال من منطلق الفهم بأن أي صورة تخرج من تلك الساحات تعادل ألف كلمة". 

وهناك اجتهادات إسرائيلية في تفسير دلالات التعتيم الإعلامي الراهن. فمثلاً المحلل العسكري رون بن يشاي ("يديعوت أحرونوت") كتب أن الجيش يفضل أن يفرض ضبابية على سير المعارك حتى على وسائل الإعلام الأجنبية وذلك في سبيل الحؤول دون أن تفهم جهات مُحدّدة مثل حزب الله وإيران بل وحتى قطر ما الذي يدور في الميدان، وهذا من شأنه أن يصعّب عليهم عملية اتخاذ قراراتهم.  

ولكن ليشم يعتقد أن التداعيات التي ترتبت على أحداث 7 أكتوبر وتسبّبت بتعبئة المجتمع الإسرائيلي من أقصاه إلى أقصاه إلى ناحية تأييد الحرب، تأدّى عنها عدم حاجة الجيش الإسرائيلي إلى أي شرعية من جانب الجمهور العريض في كل ما يتعلّق بردة فعله العسكرية الأعنف حتى الآن، وهنا ربما يكمن سبب تخلّيه عن تعبئة وسائل الإعلام، أما في ما يخصّ ردة الفعل في العالم فإن إسرائيل تتلفّع بالدعم الأميركي المطلق وبالجدول الزمني الذي منحته الإدارة الأميركية للحرب والذي لم يتم تحديد منتهاه.

عند هذا الحدّ ينبغي أن نشير إلى أن "مؤشر حرّية الصحافة العالمي" الذي نشرته منظمة "صحافيون بلا حدود" الدولية في شهر أيار الماضي، أظهر تراجع إسرائيل إلى المرتبة الـ97 من بين 180 دولة يشملها المؤشر، بعد أن كانت تحتل المرتبة الـ88 العام 2022. وورد فيه، من ضمن أمور أخرى، أن ما يصفها بأنها البيئة السليمة لحرية الصحافة الإسرائيلية تقوّضت بعد أن وصلت إلى سُدّة الحكم حكومة تهدّد حرّية الصحافة، في إشارة إلى حكومة بنيامين نتنياهو السادسة الحالية.

وبموجب متابعة دقيقة يمكن القول إن نتائج المؤشر قوبلت بتجاهل تام تقريباً في وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها بمعظمها، مع وجود استثناءات قليلة، كان أبرزها الموقع الإلكتروني "هعاين هشفيعيت" ("العين السابعة") المتخصّص في نقد الإعلام، والذي نقل تعقيب رابطة الصحافيين في إسرائيل على المؤشر والذي أكدت فيه أنه بعد خفض الائتمان المستقبلي للاقتصاد الإسرائيلي، نشهد الآن خفض تصنيف إسرائيل في مجال حرّية الصحافة، ما يثبت أن ثمة عدداً من الأمور المقلقة آخذة بالتراكم، وترسم صورة قاتمة لخطر واضح وفوري يتهدّد الديمقراطية في البلد. وبغية إظهار حدّة النتيجة المتعلقة بإسرائيل في المؤشر، تعمّد الموقع ذاته أن يلفت الأنظار إلى أمرين: الأول، أن تدريج إسرائيل في المؤشر هذا العام جاء أدنى من دول لا تُعدّ ديمقراطية مثل ألبانيا والغابون ومنغوليا وزامبيا وغينيا بيساو وقبرص الشمالية وتوغو وليبيريا وغانا وبوركينا فاسو وساحل العاج وغيرها. الثاني، أن لإسرائيل تأثيراً على تدريج دولة أخرى هي اليونان التي تدهورت إلى المرتبة 107 بسبب استخدامها منظومة تجسّس إسرائيلية ضد صحافيين.  

و"مؤشر حرية الصحافة العالمي" هو تدريج سنوي للدول تعدّه منظمة "مراسلون بلا حدود" وتنشره بناء على تقييم المنظمة لسجل حرية الصحافة في كل دولة. ويتم اعتماده على أساس استبيان يُرسَل إلى منظمات مشاركة مع المنظمة المذكورة، بينها 14 مجموعة لحرية التعبير في خمس قارات و130 مراسلاً حول العالم، بالإضافة إلى صحافيين، وباحثين، وخبراء قانونيين، وناشطين في مجال حقوق الإنسان. ويطرح الاستبيان، كما يرد في الموقع الرسمي للمنظمة، أسئلة حول اعتداءات تطال صحافيين وإعلاميين بالإضافة إلى وقائع تثبت وجود ضغوط على الصحافة الحرّة. وفي تقارير سابقة من المؤشر ورد مزعم يقول إن "الصحافة الإسرائيلية تتمتع بحرية حقيقية قلّ نظيرها في منطقة الشرق الأوسط"، لكن بالرغم من ذلك "فإن الصحافيين يواجهون بمعظمهم عداء وزراء الحكومة بالإضافة إلى الرقابة العسكرية وقرارات منع تغطية بعض المسائل، منها ما يتعلّق بالفساد، ناهيك عن إجراءات تكميم الأفواه التي تعتمدها دوائر المال والأعمال". ووصفت التقارير كيف تواترت العديد من "حملات التشهير ضد وسائل الإعلام من جانب بعض السياسيين المدعومين بأحزابهم ومؤيديهم، بحيث تعرّض عدد من الصحافيين إلى مضايقات وتهديدات مجهولة الهوية، ما اضطر بعضهم إلى طلب حماية شخصية حفاظاً على سلامتهم". وجرى التنويه في حينه بأن الصحافيين الذين قاموا بتحقيقات استقصائية متعلقة بشبهات الفساد التي تحوّلت إلى بنود في لائحة الاتهام الرسمية المقدمة ضد رئيس الحكومة نتنياهو كانوا أكثر من تعرّض إلى ملاحقات وتهديدات.

بطبيعة الحال، بالإضافة إلى ما تحمله الحكومة الإسرائيلية الحالية في أحشائها من مخاطر على حرية الصحافة، والتي تشي بآخر التحوّلات الطارئة على المجتمع الإسرائيلي وحقله السياسي، توقف مؤشر العام الحالي، كما مؤشرات الأعوام السابقة، عند مخاطر ينعتها بأنها تقليدية تتهدّد حرية الصحافة وإسرائيل مبتلاة بها منذ أعوام طويلة، مثل التضييق على الصحافيين الفلسطينيين، وقيود الرقابة العسكرية الصارمة، وإكراهات قطاع المال والأعمال.    

ولم تتعذّر أي محاولة من جانب التقارير السابقة للإمساكِ بمفاعيل هذه المخاطر، أو تكوين إحاطة عنها اعتماداً على الوقائع فقط. وبخصوص الرقابة العسكرية وحدها جاء في تقرير حديث لمنظمة "فريدوم هاوس" الأميركية أن المقالات المطبوعة حول المسائل الأمنية تخضع كلّها إلى رقابة عسكرية، كما أن المكتب الصحافي الإسرائيلي الحكومي يحجب من حين إلى آخر بطاقات صحافية من صحافيين لمنعهم من دخول إسرائيل بحجة "الاعتبارات الأمنية".

في الحرب الحاليّة على قطاع غزة لا تنحصر الإشكالية التي طغت على أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية في الرقابة العسكرية بل تتعدّى ذلك إلى مساهمة وسائل الإعلام هذه في تشكيل ما وصفه الإعلامي الإسرائيلي يزهار بئير بـ "الوعي الزائف" والتي لا تتطلب الكذب بالضرورة بل يمكن تحقيق النتائج أيضاً عن طريق حجب معلومات، وبواسطة تشجيع الجهل، لأن الجهل لا يقل غائيّة عن الوعي، وشغف الجهل هو أقوى شغف في حياة الشخص وأقوى من الشغفين الآخرين، الحب والكراهية، كما قال المحلل النفسي والمنظّر الفرنسي جاك لاكان. ويلفت بئير إلى دراسة استقصائية أجرتها جامعة "فيرلي ديكنسون" في نيوجيرسي في الماضي، وتوصلت إلى نتيجة فحواها أن هناك أنباء تجعل الناس يعرفون أقل. ووجدت أنه بعد مشاهدة منهجية لقناة "فوكس نيوز"، كان مشاهدوها أقل معرفةً ودرايةً بالحقائق مقارنة بمجموعة اختبار لم يستهلك مشاركوها أي أخبار على الإطلاق. وبالتالي، فإن وسائل الإعلام لديها القدرة ليس فقط على تأطير الواقع وملء وعي المستهلكين بالمضمون والفهم، بل يمكنها أيضاً اختراق عقولهم وإفراغها من المعلومات والفهم السياسي.

ولا شكّ في أن لوسائل الإعلام الإسرائيلية الكثير من الأسبقيات في هذا الصدد، ولتسليط بعض الضوء عليها يكفي أن نستعيد وصف البروفسور الإسرائيلي الراحل زئيف شتيرنهل، وهو من أبرز المتخصصين في موضوع الفاشية، سلوك المثقفين والإعلاميين خلال عملية "الجرف الصامد" العسكرية الإسرائيلية ضد غزة العام 2014 بأنه يحيل إلى سلوك القطيع. ففي سياق مقابلة أجرتها معه صحيفة "هآرتس" في شهر آب 2014 رأى شتيرنهل أن ما اتسمت به تلك الحرب كان سلوك المثقفين في إسرائيل، وبرأيه "ما حدث عندنا هو التزام مطلق بالخط الرسمي من جانب معظم المثقفين والسير مع القطيع. والمثقفون بالنسبة لي هم الذين يحملون لقب بروفسور والصحافيون. أمّا إفلاس الإعلام الجماهيري في هذه الحرب فهو مطلق. وبالرغم من أنه ليس سهلاً الوقوف أمام قطيع وبالإمكان أن تداس بسهولة، فإن دور المثقف والصحافي ليس التصفيق للسلطة الحاكمة. ولقد رأيت خلال الحرب كيف أن الجامعات أيضاً استقامت وفقاً لمقاربة السلطة والأغلبية الصارخة في الشارع، وربما هذا هو الأمر الأكثر خطورة".

وبرأيه تنهار الديمقراطية عندما يستقيم المثقفون والفئة المثقفة مع نزعات البلطجة من دون أن يعيروا انتباهاً إلى أن ذلك يقترب من الفاشية، والتي هي في الجوهر الحرب ضد التنوير والقيم الكونية. 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات