تثور بعد الغارة الأخيرة التي شنتها إسرائيل على مناطق واسعة في شرق سورية، وشملت مواقع وتجمعات عسكرية ومخازن أسلحة وذخيرة، ومع كل غارة جديدة تشنها قوات سلاح الجو الإسرائيلي على سورية، مجددا الأسئلة حول حدود التفاهمات الروسية- الإسرائيلية حيال سورية، وهل تملك إسرائيل تصريحا روسيا مفتوحا أم محدودا؟ أم أنها لا تملك أي تصريح للعمل في الأجواء السورية، ولماذا تلوذ القوات الروسية بالصمت تجاه ما يتعرض له حليفها المفضل في منطقة الشرق الأوسط؟ ثم ما هي فعالية منظومة الدفاع الجوي المعروفة بصواريخ إس. 300 التي تزودت بها سورية من موسكو في أواخر العام 2018، وهل حقا باتت هذه المنظومة في عهدة السوريين أم أن الروس يتحكمون بها؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير ليست إلا جزءا من تفاصيل بالغة التعقيد والتداخل للعلاقات الروسية- الإسرائيلية التي مرت في أطوار متنوعة من الصعود والهبوط، والأزمات والانفراجات، ومع ذلك يمكن القول إنها كانت وما زالت علاقات جيدة ومميزة على الرغم من عديد الملفات الشائكة والتباينات الجوهرية بين الدولتين.
أوقعت الغارة الأخيرة التي شنتها إسرائيل فجر الأربعاء 13 كانون الثاني الجاري 57 قتيلا، بحسب مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي تعتمده معظم المصادر الغربية، وهذه المعلومات أكدتها مصادر استخبارية أميركية في تصريحات لوكالة اسوشيتيد برس، وزادت هذه المصادر على ذلك بأن هذه الضربات الجوية نفذت بناء على معلومات استخبارية أميركية، وأكدت أن وزير الخارجية مايك بومبيو ناقشها مع رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين في اجتماع بواشنطن، والمصادر الإسرائيلية أكدت على طريقتها مسؤوليتها عن الغارة، من قبيل أن إسرائيل سوف تواصل عمل كل ما هو مطلوب لحماية أمنها، وبأنها لن تسمح بتواجد إيراني على حدودها.
كان ميدان العمليات هذه المرة واسعا، حيث شملت 18 ضربة جوية في المنطقة الممتدة بين مدينتي دير الزور والبوكمال على الحدود السورية- العراقية، وحصيلة خسائر الغارة كانت كبيرة فعلا ووصلت بحسب المصادر عينها إلى 57 قتيلا، من بينهم عدد من الجنود السوريين، وأغلبية الضحايا هم إيرانيون أو من جنسيات مختلفة وأعضاء في ميليشيات موالية لإيران، ولعل في معرفة جنسيات الضحايا ما يفسر التغاضي الروسي عن هذه الهجمة التي سبقتها عشرات الهجمات التي طاولت معظم المناطق السورية.
احتواء قضية الطائرة
لا يمكن لأي متابع سوى الافتراض أن ثمة تفاهمات واسعة ومفصلة بين روسيا وإسرائيل بشأن سورية، و"حرية" تحليق الطائرات الإسرائيلية في أجوائها. أبسط الفرضيات تقول بأن البلدين معنيان بأن يتجنبا أية مواجهة عسكرية مباشرة بينهما، وخاصة بعد ما كشفه حادث إسقاط الطائرة الروسية من طراز (إيل 20) في أيلول 2018 أثناء توجهها لقاعدة حميميم بواسطة الدفاعات الجوية السورية التي كانت تحاول التصدي لطائرة إسرائيلية. روسيا حملت إسرائيل وقتها المسؤولية عن الحادثة التي أدت إلى مقتل 15 عسكريا روسيا. في البداية حاولت إسرائيل التنصل وإلقاءها على السوريين، وادعت أنها قامت بإعطاء الروس الإشارات المطلوبة في هذه الحالة، لكنها سرعان ما تداركت الأمر وأقرت بمسؤوليتها، وقد بادر بنيامين نتنياهو لتعزية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والأهم أنه أوفد قائد سلاح الجو الجنرال عميكام نوركين إلى موسكو لتطويق ذيول الحادثة واتخاذ الترتيبات التي تكفل منع تكرارها في المستقبل.
اللافت في هذه الحادثة أن روسيا لم تغضب من إسرائيل بمقدار غضبها من تركيا عندما قامت الأخيرة بإسقاط طائرة سوخوي الروسية العام 2015 فوق أجواء محافظة إدلب، وهي الحادثة التي تبعها تصعيد إعلامي متبادل، وسلسلة من الخطوات العقابية الروسية لتركيا، وإلغاء صفقات، ووقف الوفود السياحية الروسية لتركيا.
جرى في الحالة الإسرائيلية احتواء الأمر بسهولة، وربما تعزيز وتفصيل التفاهمات بشأن ما يمكن وما لا يمكن لإسرائيل القيام به في الأجواء السورية، ومن الواضح أن إسرائيل استوعبت تماما أن بقاء ودعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد هو خيار روسي حاسم، ولا رجعة فيه، وبالتالي فإن من مصلحتها التسليم بهذه الحقيقة لا سيما وأن روسيا باتت لاعبا مركزيا رئيسا (إن لم تكن اللاعب الأول) في منطقة الشرق الأوسط، وهكذا فإن منطقة المناورة التي ظلت متاحة أمام إسرائيل في سورية، هي اللعب على الهوامش، وتحديدا التدخل ضد أي وجود عسكري إيراني في سورية، ومنع إمدادات السلاح لحزب الله في لبنان، وكذلك منع تواجد ميليشيات موالية لإيران أو لحزب الله في جنوب غربي سورية المحاذية للجولان المحتل، ولكن مع مراعاة أن المصلحة الروسية تتمثل في بقاء النظام.
أوضح أكثر من مسؤول إسرائيلي أن تنامي الدور الروسي في الشرق الأوسط جاء نتيجة التراجع والانكفاء الأميركي، وقال بوغي يعلون حين كان وزيرا للدفاع في محاضرة له إن عودة روسيا إلى المنطقة جاءت نتيجة غياب الولايات المتحدة عن هذا المشهد، وترددها في اتخاذ موقف مثابر في دعم المحور السني ضد المحور الشيعي. وأضاف أن روسيا هي التي تقود تطورات المشهد في سورية ابتداء من تسليح النظام، مروراً بنزع سلاحه الكيماوي وانتهاء بعقد مؤتمر جنيف وذلك في ظل غياب الولايات المتحدة.
الملف الفلسطيني
ورغم سخونة الملفين السوري والإيراني في أجواء العلاقات الروسية- الإسرائيلية، فإن الملف الأكثر حساسية وتعقيدا هو الملف الفلسطيني، والموقف الروسي من قضية الشرق الأوسط وحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لم يتغير بشكل جوهري منذ عهد الاتحاد السوفييتي السابق، فروسيا تؤيد حل الدولتين، وتعلن في كل مناسبة بشكل واضح وصريح دعمها لقيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضي 1967 بعاصمتها القدس الشرقية، وذلك ما أكده الرئيس بوتين مرارا وتكرارا بما في ذلك بشكل مفصل خلال مخاطبته القمة العربية في شرم الشيخ في آذار 2015، وقد وقفت ضد "صفقة القرن" ومحاولات الرئيس دونالد ترامب الاستفراد بحل القضية على قاعدة تبني برنامج نتنياهو واليمين الإسرائيلي.
تبدي روسيا تأييدها للمطالب الفلسطينية في مختلف المحافل الدولية بما فيها هيئات الأمم المتحدة، وسبق أن حرصت موسكو على القيام بدور فاعل وحيوي ضمن اللجنة الرباعية الدولية، وعينت مندوبا دائما لها لمتابعة عملية السلام، ومن البديهي أن جملة المواقف الروسية هذه تنطلق من المصالح الروسية في الإقليم الذي يعتبر ضمن الجوار القريب لأراضي الاتحاد الروسي، وأن روسيا لا تسلم بانفراد الولايات المتحدة في رعاية عملية السلام أو تحديد شروط التسوية مثلما كانت عليه الحال في فترة انعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الأول عام 1991 والذي تزامن مع تفكك الاتحاد السوفييتي (رسميا في كانون الأول 1991) ، وهكذا ظل الحضور الروسي في الشرق الأوسط شكليا وضعيفا طوال عقد التسعينيات الذي شهد توقيع اتفاقيات أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية.
وتحرص موسكو حتى على متابعة الشأن الفلسطيني من داخله عبر العلاقات الوثيقة التي تربطها بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادات الفصائل كافة بما فيها قيادة حركة حماس، وقد استضافت موسكو عديد الوفود الفلسطينية بما فيها مؤتمر لحوار الفصائل الفلسطينية في العام 2019.
وأبدت موسكو في سبيل تعزيز حضورها في ملف الشرق الأوسط أكثر من مرة استعدادها لاستغلال علاقاتها الجيدة مع الطرفين لـ"تليين" مواقف الفلسطينيين واستئناف الاتصالات المباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
المصالح أولا
ولا يعني هذا الاهتمام والانغماس الروسي في الشأن الفلسطيني، أو التأييد المبدئي للمواقف والحقوق الفلسطينية، الصدام الحتمي مع إسرائيل، فالطرفان الروسي والإسرائيلي هما خير من يجسد في علاقاتهما حقيقة أن السياسات والمواقف تمليها المصالح، وهذه المصالح في حالة من الحركة والتطور الدائمين منذ عهد الاتحاد السوفييتي ومواقفه الأولية من الحركة الصهيونية إلى مسارعة الاتحاد في عهد ستالين للاعتراف بإسرائيل بعد يومين فقط من إعلان قيامها. ويبدو أن حماس الاتحاد السوفييتي للاعتراف بإسرائيل كان نابعا من الرهان على إمكانية استمالتها مع سياسات الاستقطاب الحادة والحرب الباردة، لكن الأيام والأحداث كشفت عكس ذلك، وعادت العلاقات السوفييتية- الإسرائيلية لتتوتر من جديد مع انحياز إسرائيل المطلق للمعسكر الغربي، فقطعت العلاقات مرتين مؤقتا عامي 1953 على اثر انفجار وقع في البعثة السوفييتية في تل أبيب و1956 على أثر العدوان الثلاثي على مصر، ثم قطعت عام 1967 لفترة طويلة ولم يجر استعادتها إلا في أواخر عهد الاتحاد السوفييتي العام 1991، ليصبح هذا العام نقطة انطلاق لعلاقات جيدة ومتميزة في مختلف المجالات على الرغم من عديد الملفات الشائكة التي يختلف عليها البلدان.
الروس في إسرائيل
يعيش في إسرائيل الآن أكثر من مليون شخص من أصل روسي، أو من الجمهوريات التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي، وقد تدفقت موجات الهجرة هذه بدءا من العام 1989 وطوال عقد التسعينيات، ولأسباب ثقافية واجتماعية كثيرة حافظ المهاجرون الروس على سماتهم المميزة كتجمع إثني وثقافي وسط المجتمع الإسرائيلي إلى درجة بدا فيها وكأنهم يستعصون على الذوبان أو الانصهار داخل المجتمع الإسرائيلي، ولفترة طويلة حافظ هؤلاء على أنماط حياتهم الخاصة وعلى لغتهم الروسية باعتبارها اللغة المحكية في البيت والشارع، وحتى على أحزابهم الخاصة (يسرائيل بعلياه الذي انحل قبل سنوات ويسرائيل بيتينو) فضلا عن الصحف ووسائل الإعلام (بلغ عدد الصحف والمجلات الناطقة بالروسية في إسرائيل نحو 50 صحيفة ومجلة قبل انحسارها في السنوات الأخيرة بسبب هيمنة الإعلام الجديد وتراجع المطبوعات عالميا)، وانتشرت الأندية الاجتماعية ومراكز الثقافة والفن ذات الطابع الروسي، وسائر مظاهر الخصوصية الثقافية الروسية.
وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة الإسرائيليين من أصل روسي أو من دول الاتحاد السوفييتي السابق تزيد عن 20 في المئة، كما تعد اللغة الروسية ثالث اللغات المحكية في إسرائيل بعد العبرية والعربية.
وساهمت بعض مظاهر العنصرية ونفوذ الأحزاب الدينية في تنفير المهاجرين الروس من المجتمع الذي جاؤوا إليه، ويضع شروطا تعسفية للاعتراف بهم كيهود، وذلك ما دفع قيادات دولة إسرائيل إلى إبداء قلقها من إمكانية اتخاذ المهاجرين الروس لإسرائيل كمحطة توقف مؤقتة في طريقهم للهجرة إلى دول أخرى وخاصة للولايات المتحدة، وهو ما دفع قادة إسرائيل لاعتماد سياسات تشجيع استيعاب هؤلاء المهاجرين، بما في ذلك تشجيعهم على الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وكان لموجات الهجرة الروسية هذه أثر حاسم في الطفرة الاقتصادية والعلمية التي شهدتها إسرائيل، وهو ما أشار له الرئيس فلاديمير بوتين بتأكيده على أن اليهود الذين هاجروا من الاتحاد السوفييتي السابق "ساهموا بشكل كبير في نهوض إسرائيل، وهم يشكلون اليوم همزة وصل بين روسيا وإسرائيل".
وأوردت مصادر إسرائيلية عديدة أن موجات الهجرة الروسية إلى إسرائيل في العقد الأخير من القرن العشرين شملت نحو 100 ألف مهندس، و20 ألف طبيب وطبيب أسنان، و24 ألف ممرض، و45 ألف معلم و20 ألف عالم وفنان وموسيقي.
ويحتفظ هؤلاء المهاجرون الروس، إلى جانب عاداتهم وتقاليدهم الروسية، بجنسياتهم الروسية الأصلية وبجوازات سفرهم وصلاتهم المنتظمة مع أقاربهم أو معارفهم أو شركائهم في روسيا، ويفضل كثير منهم قضاء أوقات الإجازات والراحة والاستجمام فضلا عن محاولة امتلاك منزل أو عقار في روسيا التي تمثل لكثير منهم البلد الأصلي، رغم إقرار الرئيس بوتين أن هؤلاء هم مواطنون إسرائيليون.
تعاون في كل المجالات
ويعلن الطرفان الروسي والإسرائيلي في كل مناسبة عن رغبتهما في تطوير التعاون والتبادل التجاري بينهما، ومع أن التعاون بينهما لم يصل بعد إلى مستوى مميز كما هي حال التبادل بين تركيا وإسرائيل مثلا، ونما بشكل بطيء وتدريجي من بضع عشرات الملايين من الدولارات أوائل التسعينيات إلى نحو ثلاثة مليارات دولار في العام 2019، إلا أن ما يجدر الالتفات له هو نوعية هذا التعاون وليس حجمه، وقد وقع البلدان أكثر من عشرين اتفاقية للتعاون في مختلف المجالات ومنها التقنيات الحديثة والغاز والطاقة، وأبحاث الفضاء، ويشار في هذا الصدد إلى أن سفن الفضاء الروسية هي التي حملت الأقمار الصناعية الإسرائيلية ووضعتها في مساراتها. كما عقدت سلسلة من الاتفاقيات في مجالات السياحة والزراعة، والعلوم والتكنولوجيا والصحة والزراعة، والطيران والتعليم والثقافة، والمعاملات الجمركية لمنع الازدواج الضريبي، والاتصالات والحرب ضد الجريمة وغيرها.
ومن أبرز علامات قوة وتميز العلاقات الروسية- الإسرائيلية تكرار زيارات نتنياهو لموسكو لأكثر من 10 مرات لأسباب مختلفة، ويمكن بالطبع افتراض أن لنتنياهو أسبابه الخاصة لإكثار هذه الزيارات ومن بينها أسبابه الانتخابية كمغازلة الأصوات الروسية في إسرائيل، والإيحاء لجمهوره بأنه رجل دولة مهم يحتفظ بعلاقات جيدة مع معظم زعماء العالم، كما أن الرئيس بوتين قام بزيارة تاريخية هي الأولى لزعيم روسي إلى إسرائيل لكنه حرص أيضا على زيارة الأراضي الفلسطينية، وكذلك قام رئيس الوزراء والرئيس السابق ديمتري ميدفيديف بزيارة في العام 2016 ركز فيها على التعاون الاقتصادي مع إسرائيل، وحرص هو الآخر على زيارة مدينة أريحا الفلسطينية ولقاء الرئيس محمود عباس. وغالبا ما يحتل الموضوعان الإيراني والسوري حيزا مهما من قضايا النقاش المشترك لكن كثيرا من زيارات نتنياهو طغت عليها الجوانب الاستعراضية مثل زيارته التي عرض فيها على الروس تفاصيل "صفقة القرن"، واصطحب فيها الفتاة الإسرائيلية نعمة يسسخار التي سجنت في روسيا بسبب حيازتها كمية قليلة من المخدرات وتوسط نتنياهو لدى بوتين من أجل العفو عنها.
ولم توفّر إسرائيل فرصة للإعراب عن تقديرها لمستوى العلاقات مع روسيا، فامتنعت عن حضور جلسة التصويت في الأمم المتحدة أثناء نقاش قضية قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم في العام 2014 وهو ما أثار غضب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي.
وهكذا يمكن القول إن إسرائيل وروسيا ماضيتان في تطوير وتحسين علاقاتهما الثنائية في جميع المجالات على الرغم من إدراك روسيا المطلق لاصطفاف إسرائيل الدائم مع الولايات المتحدة الأميركية في كل ما له علاقة بسياسات هذه الأخيرة الكونية، وعلى الرغم كذلك من ثقل وتعقيدات الملفات الخلافية الشائكة التي تعترض العلاقات الروسية- الإسرائيلية، وأبرزها الملفات الفلسطينية والسورية والإيرانية.