المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
إسرائيل: أكثر من أداة عنيفة لاغتيال فلسطين جيو-سياسيا.
إسرائيل: أكثر من أداة عنيفة لاغتيال فلسطين جيو-سياسيا.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1086
  • سليم سلامة

أحد العناصر المركزية في أسباب تضاؤل الإيمان والثقة بإمكانية حل الدولتين بين الجمهور الإسرائيلي، اليهودي، بشكل عام، هو "الخوف من المس بالأمن القومي اليهودي"، الذي كرسته طروحات الأحزاب والقوى والشخصيات السياسية الإسرائيلية الصهيونية المختلفة، عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية ومن خلالها، ضمن سعي منهجيّ متواصل على مدى عشرات السنوات. والبحث الذي أجراه د. عومِر عيناف ونُشر في كتاب صدر في نهاية الشهر الأخير عن "مركز مولاد ـ لتجديد الديمقراطية في إسرائيل"، تحت عنوان "الأمن في واقع وجود دولتين"، هو الأول من نوعه الذي يحاول مقاربة هذه المسألة، بما فيها من حجج وادعاءات، تفكيكها، البحث فيها والخلوص إلى استنتاجات هامة جداً بشأنها، في مقدمتها استنتاج مركزي يجزم بأن "أمن إسرائيل القومي ليس أنه لن يتأذى من جرّاء قيام دولة فلسطينية إلى جانبها، وإنما هو الإمكانية الأكثر صواباً وحكمة لضمان المصالح الإسرائيلية، وعلى رأسها مسألة الأمن القومي، على المدى البعيد".

صاحب هذا البحث، د. عومِر عيناف، هو زميل بحث في مركز "مولاد" وفي "معهد دراسات الصهيونية وإسرائيل" على اسم حاييم وايزمان في جامعة تل أبيب، كما عمل باحثاً ومحرراً في "معهد دراسات الأمن القومي" ويكتب مدونة خاصة ضمن صحيفة "هآرتس". كان قد عالج، في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة تل أبيب، موضوع "علاقات اليهود والعرب وكرة القدم إبان الانتداب البريطاني في أرض إسرائيل ـ فلسطين".

يأتي هذا البحث استكمالاً لسلسلة من الأبحاث والدراسات التي أجراها مركز "مولاد" حول الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني من زاوية الأمن القومي الإسرائيلي، والتي كان من بينها: الميزان الاستراتيجي لخطة "الانسحاب من/ الانفصال عن" قطاع غزة؛ الأعباء الأمنية المترتبة على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية؛ و"من إدارة الصراع إلى إدارة التسوية"، والتي ترتسم منها صورة واضحة تؤكد أن ثمة لإسرائيل مصلحة حيوية، وجودية، في إنهاء الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني على أساس معادلة الدولتين للشعبين.

يستند البحث الحالي إلى مقابلات أُجرِيت مع خبراء أمنيين، رسميين وغير رسميين، سابقين، ويعرض الدلالات والأبعاد الأمنية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل، كما يحلل (ويثبت!) أسباب كون حل الدولتين الهدف الأكثر أمناً والأقل خطراً على دولة إسرائيل، وذلك من خلال عرض تفصيلي موسع وشامل لجميع البدائل المطروحة ومن خلال التصدي، البحثيّ، للتخوفات والتهديدات الأساسية المتداولة والشائعة في السجال الإسرائيلي العام، كجزء من الحجج المعتمَدة لرفض هذا الخيار ومعارضته.

وزّع الباحث، المؤلف، كتابه على سبعة فصول هي التالية: 1. وَهْم الوضع القائم؛ 2. عرض عام لإطار الترتيبات الأمنية؛ 3. السؤال المفتاحيّ: إلى أي حدّ يمكن الاعتماد على الفلسطينيين والثقة بهم؟؛ 4. التهديدات المحتملة وطرق مواجهتها؛ 5. خرافة الفائدة الأمنية من المستوطنات؛ 6. دور التسوية السياسية مع الفلسطينيين في حفظ أمن إسرائيل؛ 7. تلخيص. تسبق هذه الفصول كلها "مقدمة" بعنوان "المخاوف الأمنية كعامل مركزي في معارضة أية تسوية سياسية" وتليها قائمة بالمصادر والمراجع التي اعتمد عليها الباحث في بحثه هذا.

"الهدوء الحالي مجرد وَهْم"

يصف الباحث، في مقدمة كتابه، اللحظة الزمنية التي يعيشها الإسرائيليون الآن بأنها "مثيرة للبلبلة"، إذ "ليس فقط أننا نعيش الآن العقد الأكثر هدوءاً وأمناً على امتداد الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني كله، وإنما نعايش سيلاً من الاتفاقيات السياسية بين إسرائيل ودول عربية مختلفة تثبت، ظاهرياً، صدق وصوابية منهج "إدارة الصراع" الذي اعتمدته الحكومات اليمينية في إسرائيل ويسحب الآن البساط من تحت الادعاء بشأن حيوية الاتفاق مع الفلسطينيين وكونه الشرط والمحطة الأولى في مسار المصالحة مع العالم العربي". ثم يتساءل: "ولهذا، فما هو السبب الوجيه الذي يمكن أن يؤدي إلى العودة إلى ذلك المسار (الفلسطيني) الذي أثبت فشله، مرة تلو أخرى، خصوصاً وأن هجر هذا المسار وإهماله يوصلان إلى نتائج سياسية أفضل بكثير مما يمكن توقعه حتى؟".

لكنه يضيف، على الفور، موضحاً ومؤكداً: "برغم الإغراء الشديد في الوقوع في أسر "روح العصر" هذه، إلا أن الجواب على السؤال أعلاه هو في غاية البساطة. فثمة بين جميع الذين أجرت معهم مقابلات لغرض هذا البحث، بمن فيهم مسؤولون رفيعون في الأجهزة الأمنية خلال السنوات الأخيرة، اتفاق إجماعيّ على حقيقة أن: الهدوء الحالي هو مجرد وَهْم... فعلى الرغم من التحسن الملحوظ في واقع الفلسطينيين في الضفة الغربية، وعلى الرغم من حالة العبث السياسي السائدة، إلا أن شعباً تحت الاحتلال العسكري لا بد وأن ينتفض، بالضرورة، طال الزمن أم قصُر". ويشير الكاتب هنا، في هذا السياق، إلى واقع أن "الثقة الجماهيرية بالأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية هي في الحضيض، بل ومن المرجح أن تزداد تدهوراً وسوءاً كلما تبيّن أن الحل السياسي قد أصبح بعيد المنال، أكثر فأكثر. وعندئذ، لا بد أن تتفجر أعمال العنف من جديد، كما حصل في مرات سابقة عديدة، ولا يمكن التكهن الآن بتوقيت هذا الانفجار، أشكاله ومداه، لكن من المؤكد أن هذا ما سوف يحصل فعلياً. وحين يحصل، لن نكون مستعدين له".

صحيح أن التغيرات الإقليمية التي حصلت خلال العقد الأخير، بما فيها بشكل خاص الاتفاقيات السياسية التي وقعت عليها إسرائيل مع عدد من الدول العربية خلال السنة الأخيرة، تستدعي إعادة النظر والتمعن الجيو- سياسي من جديد في عدد من القضايا المختلفة، إلا أن ثمة متغيراً واحداً ثابتاً ينبغي الانتباه إليه والتوقف عنده، هو: في المنطقة ما بين نهر الأردن والبحر، يعيش نحو 14 مليون إنسان، إسرائيليين وفلسطينيين. من ضمن هؤلاء، يعيش ملايين الفلسطينيين تحت احتلال إسرائيلي ممتد منذ أكثر من خمسة عقود؛ وهو واقع لا يمكن أن تنهيه، ولا أن تغيّره حتى، كل الزيارات والرحلات الجوية المباشرة ما بين الإمارات العربية المتحدة، البحرين والسودان وبين إسرائيل.

"حل الدولتين" و"حلول الدولة الواحدة"

من المعروف أن المخاوف الأمنية، سواء منها الحقيقية المبررة أم الموهومة المزعومة، شكلت ولا تزال تشكل أحد العوامل المركزية، إن لم تكن أولها وأهمها، في معارضة أية تسوية سياسية للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني منذ بداياته، قبل أكثر من مئة عام، والذي صيغت وعُرضت خلال السنوات العديد من الحلول الممكنة لحله وإنهائه، لكن دون جدوى حتى الآن، إذ منيت جميعها بالفشل.

من بين تلك الحلول جميعها ـ يقول البحث ـ كان حل الدولتين الوحيد الذي تميز بدرجة عالية من التفصيل، الوضوح وقابلية التطبيق، من خلال تقسيم البلاد بين الشعبين اللذين يعيشان فيها. كما كان هذا الحل ـ ولا يزال ـ الأكثر قبولاً والأوسع اتفاقاً على صعيد المجتمع الدولي عموماً وقد كان موضع بحث ونقاش جديين خلال جميع جولات المفاوضات التي جرت بين الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني. ورغم أن العقد الأخير قد شهد رواجاً وشعبية ملحوظين لعدد من الأفكار والطروحات لحلول بديلة ـ التي يمكن تصنيفها جميعاً تحت عنوان "الدولة الواحدة" ـ إلا أن أياً منها لم يبلغ درجة كافية من النضوج والوضوح تضاهي ما بلغه "حل الدولتين". والأهمّ من ذلك، كما يضيف البحث، هو أن أياً من تلك المقترحات، "حلول الدولة الواحدة"، لم يقدم حلاً أو جواباً شافياً للمشكلة التي تمثل جوهر الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وهي أن "ثمة هنا شعبين متنازعين يتطلعان إلى تقرير المصير ويدّعيان الملكية على البلاد".

حتى اتفاقيات السلام والتطبيع الأخيرة التي جرى التوقيع عليها بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، ورغم الإغراء الشديد في اعتبارها عصا سحرية يمكنها تبديد الصراع الأساس، إلا أنها غير قادرة على تغيير هذا الواقع الأساس. ذلك أن مركزية "حل الدولتين" لا تزال تتجسد، كما يقول البحث، في مواقف الجمهور الإسرائيلي عامة، الذي يواصل التعبير ـ في غالبيته ـ عن تأييده لتقسيم البلاد باعتباره الخيار المفضل من جانبه، عن جميع الخيارات الأخرى. ويضيف الباحث: هذه هي الصورة التي ترتسم، مرة تلو الأخرى منذ عشرات السنوات، من خلال استطلاعات الرأي العام التي تجرى في إسرائيل. وهذه هي أيضاً النتائج التي ظهرت من استطلاع الرأي الشامل الذي أجراه مركز "مولاد" في أيار 2020 وشارك فيه أكثر من ألف إسرائيلي.

بالإضافة إلى استطلاعات الرأي العام تلك، يستعين الباحث أيضاً بنتائج محدثة خلصت إليها استطلاعات أخرى، في مقدمتها "مؤشر الأمن القومي" الذي يعدّه "معهد دراسات الأمن القومي" و"استفتاء الشعوب" الذي يجريه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" بالتعاون مع "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" برئاسة د. خليل الشقاقي. فقد أظهرت هذه الاستطلاعات والمسوح، وأخرى كثيرة غيرها أيضاً، أن ما يزيد عن نصف المواطنين في إسرائيل يؤيد "حل الدولتين" في إطار اتفاق سلام نهائي. ولكن، خلال العقد الأخير، وعلى خلفية الجمود السياسي المستمر مقابل الفلسطينيين وابتعاد الحكومات الإسرائيلية عن السعي نحو تحقيق تسوية سياسية معهم، حصل تراجع في نسبة الإسرائيليين المؤيدين لتقسيم البلاد؛ لكن بالرغم من ذلك لا يزال "حل الدولتين" هو الخيار المفضل لدى غالبية المواطنين في إسرائيل، بفارق كبير عن جميع الحلول الأخرى، المنافسة.

لكن، إلى جانب الأغلبية التي لا تزال تؤيد هذا الحل بصورة مبدئية، من بين المواطنين الإسرائيليين، تبين استطلاعات الرأي المختلفة وجهة إضافية ثابتة هي: عدم الثقة المتزايد باستمرار في القدرة على تحقيق هذا الحل بصورة فعلية. فقد ظهر في الاستطلاع الأخير، على سبيل المثال، أن 52% يؤيدون حل الدولتين، بينما يعتقد 33% فقط بأن هذا الحل قابل للتحقيق في المستقبل المنظور.

استناداً إلى العديد من المقابلات التي أجراها الباحث مع خبراء في مجال الأمن ومسؤولين رفيعين سابقين في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، كما مع خبراء في مجال الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، من عدة توجهات ومدارس نظرية وسياسية مختلفة؛ واستناداً إلى جميع المواد المتوفرة بشأن جولات المفاوضات المختلفة التي جرت بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وكذلك إلى المبادرات والمقترحات السياسية التي طرحتها منظمات مدنية مختلفة، إضافة إلى عشرات الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية، المقابلات والمقالات الصحافية، يخلص الباحث إلى "استنتاج مركزي شديد الوضوح"، كما يصفه، هو: ليس فقط أن الاعتبارات الأمنية لا تشكل عائقاً أمام تطبيق "حل الدولتين"، وإنما ثمة أساس متين، أيضاً، للافتراض بأن وضع إسرائيل الأمني والاستراتيجي سوف يشهد تحسناً جدياً وحقيقياً في حال قيام دولة فلسطينية إلى جانبها، في إطار اتفاقية سياسية.

من الواضح أن الدولة الفلسطينية لن تقوم في المستقبل المنظور ـ كما يؤكد البحث ـ لكن الباحث يرى أنه "بما أن هذا المسار لا يزال هو الأفضل والأكثر صوابية بالنسبة لإسرائيل، والذي سيعود ليكون مساراً مركزياً طال الزمان أم قصر، فمن الجدير البحث فيه ومن الضروري فهم حقيقة أن الادعاء بأن حل الدولتين سيضع إسرائيل في وضع أمني سيء، مقارنة بوضعها الحالي، هو ادعاء غير صحيح، خاطئ ولا يستند إلى أي أساس واقعي، ولذا يجدر إزالته عن جدول الأعمال، منذ الآن".

في التحصيل الأخير، ينبغي على دولة إسرائيل ـ كما يؤكد البحث ـ الاختيار ما بين واقع الدولة الواحدة ـ وهو الواقع الذي سيغير حياة المواطنين في إسرائيل بصورة حادة جداً وقد يؤدي إلى الانزلاق نحو صراع دموي على غرار ما حصل في يوغسلافيا ـ وبين حل الدولتين. المعادلة السياسية الوحيدة المطروحة على جدول الأعمال اليوم، مشتقة من ومرتكزة على العديد من البرامج والخطط السياسية التفصيلية وعلى دعم جماهيري واضح ومتماسك هي تلك القاضية بتقسيم البلاد بين الشعبين وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. هذا ليس حلاً متكاملاً أو سهل التطبيق، لكن في نهاية المطاف ليس ثمة بديل آخر يقدم إجابات واضحة للمسائل الجوهرية والمركزية في الصراع: السيادة، الأرض والأمن. أي خيار تختاره إسرائيل سينطوي على مخاطر مختلفة، لكن التحدي ـ طبقاً لذلك ـ هو "كيفية إدارة المخاطر والتقليل منها إلى الحد الأدنى الممكن، لا محاولة تجنبها تماماً. ذلك أن محاولة تجنب القيام بأية خطوة عملية، بناء على فرضية أن الواقع القائم الحالي سيبقى على ما هو وسيستمر إلى الأبد، هي محاولة خطيرة جداً تتغاضى عن التغيرات الكثيرة والجوهرية التي تحصل في أرض الواقع وتغض الطرف عن المخاطر الآخذة في الازدياد والتعمق. أما اختيار "حل الدولتين" فهو اختيار متعقل، حكيم ومسؤول يعني إدارة المخاطر بصورة متعقلة بما يتناسب مع الظروف والمعطيات الأمنية والجيو- سياسية ويخدم مصالح دولة إسرائيل"، كما يؤكد البحث الذي يخلص في صياغة أحد استنتاجاته المركزية إلى القول: "التسوية السياسية ليست خطوة أحادية الجانب، بل هي العكس من ذلك، وهي تشمل آليات كثيرة كل هدفها هو الحفاظ على مصالح دولة إسرائيل الأمنية. وهي آليات لم تكن متوفرة في الانسحابين اللذين جريا من قطاع غزة ومن لبنان". ويضيف: "أصبح المبرر الأمني ضد الدولة الفلسطينية الادعاء المركزي لدى معارضي الاتفاق السياسي خلال السنوات الأخيرة. لكن هذا البحث يثبت، بصورة واضحة، أن لا أساس لهذا المبرر في الواقع، إطلاقاً، وتشوبه الكثير من المغالطات والتحريفات. الدولة الفلسطينية لن تقوم في صباح يوم غد، لكن من الضروري الفهم بأن الواقع القائم الحالي ليس سوى وَهم وأن الدولة الفلسطينية ليست تسوية أمنية، وإنما ضرورة أمنية حيوية".

 

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, هآرتس, أمنا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات