المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
نتنياهو.. شعار السلام لغسل ممارسات الاحتلال.
نتنياهو.. شعار السلام لغسل ممارسات الاحتلال.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1271
  • عصمت منصور

أصبح بإمكان بنيامين نتنياهو أن يتباهى أمام منافسيه من اليمين، وهو على أعتاب جولة انتخابات رابعة، أنه ساهم أكثر من أي زعيم إسرائيلي سابق، في خلق كل الظروف التي ساعدت على شرعنة الاستيطان، وتأبيد الاحتلال، وجعل عملية المس بحقوق الإنسان وسرقة الأرض وتأسيس نظام أبارتهايد عنصري أمرا يمكن غض الطرف عنه، وكل هذا تحت شعار ومسمى الكلمة التي يمقتها وكرس مسيرته السياسية من أجل مسخها وإفراغها من مضمونها، ألا وهي كلمة "السلام" الذي يمكن أن يتحقق فقط "مقابل السلام" ومع أي دولة في العالم باستثناء الطرف الوحيد القادر على جلبه بشكل حقيقي، وهم الفلسطينيون.

لم يكن نتنياهو، رغم كل ما يملكه من قدرة على الخداع وتحريف الحقائق والكذب، بقادر على اجتراح هذه المعجزة، لولا تزامن وجود رئيس في البيت الأبيض يتسم بالعنجهية الممزوجة بالغرور والجهل واللامبالاة التي مكنته من الدوس على كل المرجعيات السابقة وتأييد نتنياهو بشكل أعمى، وحاكم عربي مهزوز وبلا عمود فقري سياسي أو فكري، يطمح إلى أن يلعب دوراً أوسع في المنطقة من خلال بوابة إسرائيل وعلى حساب القضية الفلسطينية.

النتيجة المأساوية لهذا التزاوج الخطر، والتعبير الأكثر فظاظة عن هذا الجنين المشوه هو اتفاق التطبيع الإماراتي- الإسرائيلي، والذي يمكن اعتباره العنصر الأكثر إدامة للاحتلال الإسرائيلي العسكري، وغض الطرف عن ممارساته العنيفة وانتهاكاته اليومية لحقوق الإنسان، كما انه الأداة التي شرعنت الضم الزاحف وخرقت جدار التضامن العربي، وقوضت المرجعيات العربية والدولية المستندة إلى الشرعية الدولية، وجعلت أمل التوصل إلى سلام دائم ينهي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أبعد من أي وقت مضى.

سلام زائف

هذه الورقة هي قراءة في دراسة نشرها موقع "زولات" (الآخر) الإسرائيلي في شهر أيلول 2020 بقلم الباحثة عدي غرانوت تحت عنوان (خديعة نتنياهو: إعادة تسويق السيطرة على الفلسطينيين بغلاف السلام).

البحث الذي امتد على 18 صفحة، مقسم إلى فصلين هما الخديعة والثمن بالإضافة الى مقدمة وتلخيص إجمالي، وهو ينحصر في تشريح وإعادة قراءة الاتفاق الإماراتي- الإسرائيلي فقط، على اعتبار أن هذا الاتفاق يعد نقطة تحول سلبية في طريقة التعاطي مع وجود الاحتلال الإسرائيلي والتسليم بممارساته، وقلب مفهوم السلام عبر إفراغه من مضمونه، وكون الاتفاق يفتح الباب واسعاً أمام دول عربية أخرى، للتخلي عن مطلب إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية كشرط لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل.

ينطلق البحث من الفرضية البديهية التي يحاول نتنياهو أن يخفيها وأن يخدع الجمهور الإسرائيلي بها، بهدف إعادة تسويق الاحتلال من جديد، والتسبب في إدامته، وإضفاء نوع من الشرعية على عملية سرقة الأرض تحت مسمى الضم، من خلال التذكير أن دولة الإمارات العربية لم تعلن الحرب على إسرائيل، ولا تعيش حالة صراع حقيقي معها، وأن لا حدود مشتركة بين البلدين، ولا صراع على موارد أو أراض.

إن التعريف المثالي للاتفاق الذي لا يحتوي على أي مركب من مركبات السلام من وقف قتال أو تسويات حدودية، هو اعتباره حملة علاقات عامة ومغامرة خالية من المخاطر، لم يدفع فيه أي ثمن، تعيد ترسيم العلاقات السرية القائمة منذ ثلاثين عاما بشكل أكثر علنية.

إن محاولة الإصرار على إطلاق تسمية "اتفاق سلام" على عملية تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، إنما تهدف إلى ممارسة نوع من التضليل، وخداع الجمهور من خلال استحضار اتفاقيات سلام سابقة مع مصر والأردن، لكن هذه المرة، وفق مبدأ جديد يكسر قاعدة الأرض مقابل السلام، وهو كونه سلاما بلا ثمن وسلاما مقابل السلام، وما تكرار نتنياهو لهذا الشعار في خطاباته وعلى مواقعه على وسائل التواصل الاجتماعي، سوى محاولة لإخفاء الصفقة التي عقدها مع بن زايد والتي تراجع فيها عن خطة الضم مقابل رفع الفيتو الإسرائيلي لتزويد الإمارات بأسلحة وطائرات أميركية متطورة.

شعار السلام مقابل السلام هو أكثر شعار يمكن أن يبعد السلام ويجعله أمرا غير قابل للحدوث، والهدف الحقيقي منه هو إعادة تسويق الاحتلال، والقضاء على فرص الحل مع الفلسطينيين من خلال زرع قناعة لدى الإسرائيلي العادي أنه بالإمكان التوصل الى حل شبيه مع الفلسطينيين دون الانسحاب من المناطق المحتلة وتفكيك الاستيطان، وأن على الجمهور الذي يبدي لامبالاة متزايدة تجاه الصراع وبقاء الاحتلال، أن ينتظر فقط اللحظة المناسبة، وعدم التأثر كثيرا من بقاء السيطرة العسكرية وبالقوة على شعب أعزل مع كل ما ينتج عنها من انتهاك لحقوق الإنسان وممارسات عنيفة وحواجز واقتحامات للبيوت في الليل.

لقد تحالف نتنياهو والرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب معا من أجل خديعة الجمهور الإسرائيلي مرتين:

الأولى، عند الإعلان عن "صفقة القرن" وتسويق وهم إمكانية إنهاء الصراع من خلال ضم 30% من الأراضي المحتلة ومحاولة شرعنة سرقة الأراضي وتسويغ بقاء الاحتلال وإعادة إنتاجه، والأهم أن كل هذا ممكن بدون الفلسطينيين ومن طرف واحد.
والثانية في تخليهم عن الصفقة لصالح الاتفاق "الرائع" مع الإمارات وتصوير التطبيع ونقل العلاقات من السرية إلى العلنية على أنهما اتفاق سلام، وإبقاء الواقع الحقيقي على حاله.

إن سلوك نتنياهو وترامب يقول بكل بساطة أن استمرار حالة عدم المساواة أمر عادي وانتهاك حقوق الإنسان أمر يمكن التغاضي عنه، وأن الواقع جميل ولا داعي لتغيير شيء، وأن الشيء الشاذ والذي يفترض أن يكون مؤقتا وأن ينتهي في يوم من الأيام يمكن أن يستمر إلى الأبد، وأن الفلسطينيين الذين يرفضون الآن سيوافقون في نهاية الأمر لمجرد أن دولة عربية قبلت بهذا الأمر.

المكاسب

حقق الاتفاق منافع كبيرة لإسرائيل في مجالات السياحة والاستثمارات والاقتصاد والتجارة، وكسر الحصار وحالة المقاطعة المفروضة عليها من قبل دولة عربية (بشكل علني) طالما أنها تحتل أراضي دولة أخرى وهي مكاسب سياسية ودبلوماسية ودعائية مهمة.

يدرك نتنياهو أن من الصعب على خصومه السياسيين من اليمين واليسار معارضة الاتفاق، وأن هذا سيخدم مصالحه السياسية الضيقة وسيعزز فرصه للبقاء في الحكم في ظل لوائح الاتهام التي يواجهها في المحاكم، والمظاهرات التي تخرج ضده كل نهاية أسبوع، وتعاظم الأزمة الاقتصادية بسبب انتشار فيروس كورونا وإدارته الفاشلة للأزمة.

منح الاتفاق مع الإمارات نتنياهو قوة إضافية في مواجهة خصومه في الداخل، كما عزز قوته في محاربة المستشار القانوني والهجوم على منظومة إنفاذ القانون، ومنحه فرصة للنزول عن شجرة مشروع الضم الذي عجز عن تنفيذه بعد مرور الموعد الذي حدده لتنفيذه وهو 1-7-2020، وبهذا استطاع نتنياهو أن يستفيد من إعلان "صفقة القرن" وتبني خطة الضم ومن نقضهما والتخلي عنهما في ذات الوقت.

الثمن

الفصل الثاني من البحث يتحدث عن الثمن الكارثي لهذا الاتفاق تحديداً في مسألة مساهمته في إطالة أمد بقاء واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، لا بل وتطبيع فكرة تأبيد الاحتلال.

الاتفاق فتح ثغرة خطيرة في جدار التضامن العربي الرسمي مع القضية الفلسطينية والذي وجد التعبير الرمزي عنه في عدم فتح علاقات علنية أو تطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، وجعل هذه العلاقات أداة للضغط على إسرائيل وحافزا لجذبها نحو السلام في نفس الوقت.

إن محاولة الإمارات الربط بين الاتفاق وتأجيل خطة الضم لتصويره على أنه جاء لخدمة القضية الفلسطينية ولإنقاذ حل الدولتين، يمكن دحضه بسهولة إذا ما تذكرنا مسألتين:
إن الاتفاق وقع بعد انتهاء الموعد الذي حدده نتنياهو لتنفيذ خطة الضم وعجزه عن تنفيذه لأسباب داخلية وخارجية.

والثانية أن الاتفاق أعلن دون حضور أو تدخل أو إبلاغ الطرف الفلسطيني. وما إدخال مسألة الضم سوى لإضفاء نوع من الشرعية على الاتفاق والإبقاء على ذريعة دعم القضية الفلسطينية والتمتع في ذات الوقت بعلاقات علنية مع إسرائيل والاستفادة من السلاح الأميركي وتحقيق رغبة بن زايد في لعب دور أكبر في الشرق الأوسط.

إن ثمن الاتفاق الباهظ سيدفعه الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء لأنه يعني تأبيد الاحتلال وإضفاء شرعية على ممارساته من قبل دولة عربية ستتبعها دول أخرى.

الاتفاق أفقد الفلسطينيين ورقة مهمة كانوا يرفعونها في وجه إسرائيل وهي ورقة العلاقة مع العالم العربي والإسلامي مقابل إنهاء الاحتلال والدخول في حظيرة السلام، كما أنه يمكن تفسيره من طرفهم على أنه إعطاء ضوء اخضر لإسرائيل للاستمرار في قمعهم والمس بحقوقهم، بحيث يستطيع نتنياهو أن يقول: "أصبح بإمكاني أن أشارك في سباق جمال في صحراء الخليج الساحرة وأن يبقى في ذات الوقت جدار الضم والفصل العنصري قائما وأن لا تفكك المستوطنات وأن أفوز بالانتخابات"، وهي طريقة تفكير تليق بالمجرمين واللصوص الذين لا يملكون أي رادع أخلاقي في ارتكاب أبشع الجرائم طالما أن الجيران لا يرون ولا يعترضون.

لطالما عارض العالم الحر الاحتلال الإسرائيلي، الذي تذرعت إسرائيل على مدى عقود بأنه مؤقت وأنها ستتراجع عنه وتفككه بعد التوصل إلى اتفاق سلام يمنحها الأمن المنشود.

الاتفاق مع الإمارات الذي لم يتحدث بكلمة واحدة عن الاحتلال، سيمكن نتنياهو من دق إسفين في جبهة المعارضة الدولية للاحتلال، وهو ما سيخفض أكثر وأكثر من ثمن الاحتلال ويهدد بتحويله من أمر مؤقت إلى حالة دائمة، خاصة وأنه جاء في فترة توقفت فيها محادثات السلام مع الفلسطينيين وتعثرت المفاوضات بالتزامن مع الترويج لحل أحادي قائم على الضم وخفوت الأصوات الإسرائيلية التي تنادي وتؤمن بحل الدولتين، وهو ما سيجعله بديلا عن السلام الحقيقي الوحيد الممكن والقادر على جلب الاستقرار.

تبنت الولايات المتحدة موقفا داعما لحل الدولتين، كما أنها عارضت الاستيطان بشكل رسمي، إلا أن "صفقة القرن" والاتفاق الذي رعته بين الإمارات وإسرائيل غيّر المعادلة، وأعطى مباركة علنية لبقاء المستوطنات ووضع سقفا جديدا للحل يستبدل خيار قيام دولة فلسطينية بحكم ذاتي محدود على كيان مقطع الأوصال ودون سيادة حقيقية.

فترة ترامب الرئاسية شكلت محطة مهمة في تغيير النظرة الأميركية تجاه الواقع المعقد في المنطقة وشكلت انحيازا أعمى لأفكار اليمين القائمة على الأبارتهايد والحلول الأحادية واللجوء إلى العنف والقوة.

لم يعد بعد الاتفاق مع الإمارات و"صفقة القرن" ما يمنع زحف الضم الاستيطاني على الأرض على حساب الدولة الفلسطينية، فهو فتح شهية المستوطنين الذين تلقوا دفعة قوية من أقوى حليف لهم في العالم وبمباركة عربية للانقضاض على الأرض وسن قوانين تعزز سيطرتهم عليها، والتغول على الفلسطينيين، والإقدام على خطوات كانت تعتبر خطا أحمر مثل البناء في منطقة E1والتي يهدد البناء فيها بفصل جنوب الضفة عن وسطها ومحاصرة القدس الشرقية بالاستيطان وقتل نهائي لإمكانية قيام الدولة الفلسطينية.

خاتمة
محاولة نتنياهو خداع الجمهور فيما يتعلق باتفاق التطبيع مع الإمارات لها عدة أوجه منها:

أنها حاولت تصوير اتفاق على تطوير علاقات كانت قائمة بشكل سري وتحويلها إلى علاقات علنية رسمية مع دولة لا تعيش حالة حرب أو صراع حدودي مع إسرائيل على أنه اتفاق سلام تاريخي شبيه بالاتفاقيات مع مصر والأردن.

أنها حاولت تصوير الاتفاق على أنه بلا ثمن وتجسيد لمبدأ السلام مقابل السلام على حساب المبدأ الذي ساد حتى الآن والقائم على الأرض مقابل السلام، علما أن الاتفاق مشروط بالتخلي عن خطة الضم، وهو ما استغله نتنياهو للتراجع عن وعده الانتخابي رقم واحد دون أن يظهر على أنه ضعيف أو تراجع، بل على العكس، حيث صوره على أنه إنجاز خاص به وأنه رجل دولة قوي قادر على تحقيق انتصارات وجلب إنجازات بلا تكلفة، وكل هذا عزز من قوته في حربه ضد منظومة إنفاذ القانون وقضايا الفساد التي تلاحقه.

الاتفاق قبر خطة الضم على الورق وداخل أروقة الحكم الرسمية، لكنه لم يمنع الضم الزاحف على الأرض، بل منحه دعما قويا، وأضفى شرعية على الانتهاكات اليومية التي يمارسها جيش الاحتلال ضد حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة.

صحيح أن تطبيع العلاقات مع دولة الإمارات جاء كاستجابة لـ"صفقة القرن" واشترط تأجيل خطة الضم التي مثلت العنصر الأساس في "صفقة القرن" إلا أنه لا يمكن النظر للاتفاق بمعزل عن الصفقة وكمتمم لها في مسألة تطبيع الاحتلال وممارساته الإجرامية وإدامته وشرعنة الاستيطان وإدارة الظهر للفلسطينيين وإعطاء صك براءة أميركي- عربي لتعزيز التفوق اليهودي واستمرار السيطرة على الأرض.

الاتفاق و"صفقة القرن" مسؤولان مباشرة عن تضاعف انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، وعن هدم المرجعيات السابقة المستندة إلى القانون الدولي والشرعية الدولية في تصور حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وخلق مرجعية جديدة على حساب الفلسطينيين، وهما مسؤولان أيضا عن إزالة الذريعة التي تذرعت بها إسرائيل حتى الآن بأن احتلالها مؤقت ويأتي من موقع الاضطرار، بل اختياري ودائم.

سواء في "صفقة القرن" أو في الاتفاق مع الإمارات، يستخدم نتنياهو كلمات معسولة ومضللة مثل (اتفاق سلام) لا علاقة لها بالسلام بل تساهم في إبعاده ولا تخدم المصالح بعيدة المدى لإسرائيل بل مصالح نتنياهو أمام القضاء واستمرار بقائه في الحكم.

يدرك كل مراقب أن نتنياهو يتمتع بموهبة تكاد تكون خارقة في قلب الحقائق والكذب والتزييف، ويبدو أن الفرصة قد جاءته في ظل وجود ترامب وتواطؤ الإمارات كي يستغل هذه الملكة مع سبق الإصرار من أجل خلق واقع وردي متخيل وزائف، حول سلام بلا كلفة ومن موقع القوة، لا يتناقض مع الحقيقة على الأرض، بل يجعل إمكانية تغيير الواقع نحو الأفضل وإحلال السلام وإنهاء الاحتلال أمرا مستبعدا وأكثر صعوبة.

 

المصطلحات المستخدمة:

دورا, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات