المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

 أظهرت دراسة جديدة أجراها "المجلس القومي للشؤون الاقتصادية" في إسرائيل أن عدد الطلاب الإسرائيليين الذين ينهون دراسة موضوع الطب ويجري تأهيلهم للانخراط في سوق العمل في هذا المجال يعادل ما بين نصف وثلثيّ عدد هؤلاء في الدول المتطورة، بينما نسبة الأطباء لعدد السكان في إسرائيل اليوم هي من الأدنى على الإطلاق بين الدول المتطورة ـ 1ر3 طبيب لكل ألف مواطن، مقابل 65ر3 طبيب بالمعدل في دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD).

وكشفت الدراسة أن 37% من الحاصلين على رخصة مزاولة مهنة الطب في إسرائيل في العام 2016 أنهوا دراسة الطب في خارج إسرائيل: 60% منهم في رومانيا، مولدافيا، روسيا، إيطاليا وأوكرانيا والتي تعتبرها الدراسة، جميعها، "دولاً متخلفة من حيث التأهيل الطبي فيها"! وهو ما تجد له الدراسة تأكيداً في معدلات النجاح في امتحان الترخيص الحكومية للعمل في مهنة الطب في إسرائيل، من بين المتقدمين إليه (وهذا امتحان ملزم باجتيازه بنجاح كل من تخرج في موضوع الطب من جامعة غير إسرائيلية): رومانيا ـ 39% (من الذين درسوا الطب في رومانيا وتقدموا إلى الامتحان في إسرائيل)، روسيا ـ 40%، أوكرانيا ـ 45%، مولدافيا ـ 45% وإيطاليا ـ 51%. وللمقارنة، فإن معدلات النجاح في هذا الامتحان بين الطلاب الذين درسوا الطب في دول يعتبر تدريس موضوع الطب فيها متقدماً، مثل هنغاريا والأردن، تصل إلى نحو 75%.

والمعروف أن في إسرائيل نقصاً حاداً في عدد الأطباء وهي بحاجة مستمرة إلى المزيد والمزيد من الأطباء، سواء في المستشفيات المختلفة (حيث يضطر الأطباء فيها، وخاصة من المتمرنين والجدد، العمل بورديات متواصلة، بما يشكل خطرا على المرضى الذين يرعونهم ويعالجونهم، كما عليهم هم أنفسهم) أو في صناديق المرضى وعياداتها المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد. ولكن، بدلاً من تأهيل المزيد من طلاب الطب ومن الأطباء، يعمد قادة الجهاز الطبي ورؤساء كليات الطب، سوية مع نقابة الأطباء، إلى رفع شروط الحد الأدنى لقبول الطلاب في كليات الطب، لكنهم يعودون ويضطرون، من جهة أخرى، إلى "التنازل" واستيعاب خريجين درسوا الطب في خارج إسرائيل، علماً بأن "الغالبية الساحقة من هؤلاء قد درست في كليات مستوى التعليم فيها أدنى من المستوى في الكليات الإسرائيلية بكثير"، كما تؤكد الدراسة.

هبوط حر... مصلحجي ـ سياسي!

وتشير دراسة "المجلس القومي للشؤون الاقتصادية" إلى حقيقة أن إسرائيل قد "توقفت عن تأهيل الأطباء خلال العقدين الأخيرين بشكل خاص" وأن "عدد طلاب الطب قياساً بعدد السكان يشهد تراجعا مستمرا، بل هبوطا حراً"!

يعود سبب هذا "الهبوط الحر"، كما تبين الدراسة، إلى التقاء مصلحتين اثنتين معاً: قسم الميزانيات في وزارة المالية الإسرائيلية، الذي يعتبر الأطباء "لوبي شرساً"، يؤمن بأنه كلما كان عدد الأطباء في إسرائيل أقل، كانت تكلفة أجورهم الإجمالية أقل؛ هذا من ناحية أولى. ومن ناحية ثانية: رؤساء الجهاز الطبي في إسرائيل وكبار العاملين فيه ـ من عميدي كليات الطب في الجامعات المختلفة وصولاً إلى مديري المستشفيات ومديري الأقسام المختلفة فيها ومروراً بنقابة الأطباء ـ الذين عملوا كل ما في وسعهم من أجل إغلاق الأبواب، قدر الإمكان، أمام منضمين جدد إلى العمل في مجال الطب باعتباره "نادياً مغلقاً"، بغية الحفاظ على قوة الأعضاء فيه وقدرتهم على المساومة.

وكانت نتيجة هذين العاملين رفع شروط القبول للدراسة في كليات الطب الإسرائيلية إلى درجة جعلها شروطاً تعجيزية غير معقولة (علامة "بسيخومتري" لا تقل عن 735، مثلاً)، مما أدى بالتالي، وبطبيعة الحال، إلى هبوط حاد في عدد الطلاب الذين يدرسون موضوع الطب في الجامعات الإسرائيلية (720 طالباً فقط في العام 2018) وتجميع قوة مساومة هائلة في أيدي الأطباء، وخاصة كبار المسؤولين منهم في المواقع المختلفة، أتاحت وتتيح لهم إمكان "ابتزاز الدولة والحصول منها على أي اتفاق يريدونه في مجال الأجور والحقوق"!

حماقة مزدوجة!

ترى المحللة الاقتصادية في صحيفة "ذي ماركر" الإسرائيلية، ميراف أرلوزوروف، أن هذه السياسة تنطوي على "حماقة مزدوجة": الأولى ـ أن الدولة، بنفسها، تزيد من قدرة الأطباء على المساومة مقابلها وتجعلها قدرة هائلة لا راد لها، وخصوصا في ما يتعلق بأجور الأطباء وامتيازاتهم، وهي أموال تُدفع لهم من خزينة الدولة. والثانية ـ أنه لا يمكن في نهاية المطاف تجاهل الاحتياجات الحقيقية، وخاصة في مجال زيادة عدد الأطباء للفرد في إسرائيل. لكن، بدلا من زيادة عدد الأطباء بواسطة خريجي كليات الطب الإسرائيلية، ذات المستوى العلمي والتعليمي العالي، يتم ملء الفراغ وسد الحاجة بخريجي كليات الطب "السيئة والمتدنية المستوى من أوروبا الشرقية"!

وتشير الكاتبة (15/7/2019) إلى أنه ليست هناك دولة أخرى في العالم تأتي نسبة مرتفعة جدا كهذه من أطبائها من خارج الدولة نفسها، كما هي الحال في إسرائيل، ناهيك عن أنهم يأتون "من كليات متدنية المستوى".

وعلى هذا، تظهر "الحماقة الإسرائيلية" في هذا السياق في ذروتها: سدّ الأبواب أمام انضمام طلاب إسرائيليين إلى كليات الطب الإسرائيلية، من جهة، واستيعاب أعداد كبيرة من خريجي "الكليات المتدنية المستوى" في خارج إسرائيل، ما يؤدي بالتالي إلى سد الأبواب أمام انضمام أعداد كبيرة، ملائمة، من الأشخاص المتميزين والمتفوقين علمياً. ونتيجة لهذا، ينشأ نقص كبير في عدد الأطباء في البلاد، يضطر الجهاز إلى سدّ هذا النقص وملء الفراغ الناشئ وسد الحاجة بالتنازل واستيعاب خريجين من كليات "متدنية المستوى" يشكلون نحو 37% من عدد الأطباء في إسرائيل، علماً بأنهم اجتازوا امتحان الترخيص الحكومي بعلامات كان معدلها أقل من 50%.

من المسؤول عن هذه "الحماقة المزدوجة"؟
لا يرى رئيس "المجلس القومي للشؤون الاقتصادية"، البروفسور آفي سمحون، أية مشكلة أو حرج في الإشارة إلى المسؤولين المباشرين عنها، حسب رأيهن وهم عميدو كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية، الذين "حصلوا على ميزانيات خاصة من أجل زيادة عدد الطلاب في كلياتهم لكنهم يتقاعسون عن تنفيذ ذلك"، كما يقول سمحون.

في المقابل، تلقي الجامعات الإسرائيلية (كليات الطب فيها، خصوصا) ووزارة الصحة بالمسؤولية عن هذا الوضع على وزارة المالية وتقولان إن كليات الطب الإسرائيلية غير قادرة على استيعاب عدد من الطلاب يزيد عن العدد الذي تستوعبه اليوم، نظرا لنقص في الملاكات (التدريسية) وفي الجهاز الطبي عموما، إذ ليس هناك عدد كاف من الأطباء القادرين على تأهيل الطلاب خلال سنوات دراستهم موضوع الطب ثم خلال فترة التدريب العملي ثم في فترات التخصص، ناهيك عن النقص في عدد أسرّة المرضى المعدة للتخصصات الطبية المختلفة.

لكن سمحون يرفض هذه الادعاءات، مشيراً إلى أن دولاً مختلفة في العالم تؤهل الأطباء والمتخصصين بملاكات تقل عما هو متوفر في إسرائيل وأن "عدداً كافياً من الأطباء يتم تأهيلهم في نهاية المطاف، لكن تركيبة هؤلاء الأطباء هي الإشكالية"، موضحا: الجهاز الطبي بحاجة إلى 1600 طبيب جديد في السنة ولا مناص أمامه من استيعاب 1600 طبيب جديد. فإذا كان هنالك 800 طبيب من خريجي الكليات الإسرائيلية الممتازة، سيتم استيعابهم وسيتم استيعاب العدد المتبقي من خريجي كليات أجنبية، أقل جودة.

كما يشير سمحون إلى الضرر الجسيم الذي تسببه تركيبة الأطباء الذين يتم استيعابهم في الجهاز الصحي في إسرائيل: المستشفيات الكبيرة والقوية في منطقة المركز تجتذب الخريجين الممتازين من الكليات الإسرائيلية، بينما تترك المستشفيات في الأطراف للخريجين العائدين من خارج البلاد، مما "يعمق فجوات الخدمات الطبية بين المركز والضواحي".

وفوق هذا كله، ثمة للنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني حصة في هذه القضية/ الإشكالية تتعلق بكلية الطب التي لا يزال الجدل دائراً حول افتتاحها وترخيصها في "جامعة أريئيل" ـ في مستوطنة أريئيل، قرب سلفيت في الضفة الغربية.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات