قال حجاي إلعاد، مدير عامّ منظمة "بتسيلم" الحقوقية الإسرائيلية، إن الاحتلال هو عُنف منظّم ومتواصل تمارسه الدولة المحتلّة وهو يجلب السّلب والقتل والاضطهاد. وأكد أن جميع أجهزة الدولة الإسرائيلية متورّطة في هذا العنف، من وزراء وقضاة وضبّاط ومخطّطي مدن وأعضاء كنيست وموظّفين. وشدّد على أن من يقود المعارضة لهذا الواقع الذي يُنتج البؤس هم منظمات حقوق الإنسان وذلك بالضّبط لأنّها ترفض العنف والمسّ بالمواطنين رفضاً قاطعاً.
جاءت أقوال إلعاد هذه في أثناء مراسم تسليم "جائزة فرنسا لحقوق الإنسان للعام 2018" إلى منظمة "بتسيلم" والتي عقدت في وزارة العدل الفرنسية يوم العاشر من كانون الأول الجاري في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، والذي تصادف فيه الذكرى السبعون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذكرى العشرون للإعلان المتعلق بالمدافعين عن حقوق الإنسان.
وحصلت منظمة "بتسيلم" ومؤسسة "الحق" الفلسطينية، وتعمل كل منهما على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، على هذه الجائزة المموّلة من رئيس الوزراء الفرنسي، إلى جانب خمس مؤسسات أخرى من الصّين وكولومبيا ونيجيريا وروسيا البيضاء (بيلاروسيا).
وقد منحت الجائزة هذا العام بشكل خاص للمؤسسات التي تتعرض للعديد من المضايقات والضغوطات أثناء دفاعها عن حقوق الإنسان. وحصل على هذه الجائزة في الأعوام الماضية كل من نيكاراغوا وساحل العاج وهاييتي وكمبوديا وكولومبيا ورواندا وفرنسا إلى جانب العديد من الدول الأخرى.
وشكر إلعاد المجلس الاستشاري الفرنسي لحقوق الإنسان على منحه هذه الجائزة وأشار إلى أنه في الأيّام الماضية حاولت جهات مختلفة داخل حكومة إسرائيل الضغط على صنّاع القرار في فرنسا لكي يتراجعوا عن قرار منح الجائزة. وعن ذلك قال: "إن ردّ الفعل الهستيري من جانب جهات في حكومة إسرائيل ومحاولتهم منع منح هذه الجائزة يعكس بوضوح الواقع الذي نعمل فيه: الدّعاية الكاذبة والافتراءات ومحاولات التهديد من قبل الحكومة إذ هي تعتقد أنّ إسكاتنا وطمس الحقائق يتيح لها مواصلة انتهاك حقوق الإنسان. ونحن في مواجهة هذا الإفلاس الأخلاقيّ نعمل ليس فقط على كشف الحقائق وإنّما نسعى إلى إنهاء الظّلم".
والجائزة الفرنسيّة لحقوق الإنسان هي جائزة سنويّة تُمنح باسم الحكومة تحت شعار "حرّية ومساواة وإخاء" منذ العام 1988 ويقدّمها المجلس الاستشاريّ الفرنسيّ لحقوق الإنسان.
يُشار إلى أن إلعاد ألقى في تشرين الأول الفائت خطاباً في مجلس الأمن الدولي أشار في سياقه إلى أن الواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة يوصف في معظم الأحيان بعبارة "الوضع القائم" رغم أنّه لا شيء قائما ولا ثابتا في هذا الواقع، لكون ما يجري فيه عمليّة محسوبة ومقصودة لتجزئة الشعب وتفتيت أرضه وشرذمة حياته؛ فصل غزّة عن الضفة الغربية؛ فصل الضفة الغربية عن القدس الشرقيّة؛ تشظية بقيّة أراضي الضفة الغربية إلى جيوب منفصلة وإنشاء جدار يعزل القدس عن بقيّة أراضي الضفة الغربيّة. وما يتبقّى في نهاية المطاف قطع منفصلة من الأسهل التحكّم بها.
وأكد أن لا شيء من هذا يجري عشوائيّاً. ولفت إلى اثنين من أكثر الأمثلة وضوحاً مؤخراً: ممارسات إسرائيل في مواجهة احتجاجات غزة الأخيرة والمخطّطات التي وضعتها لقرية الخان الأحمر، التجمّع الرّعويّ الفلسطينيّ، الذي يضم أكثر من 200 شخص لا تفصلهم عن القدس سوى بضعة كيلومترات يعيشون في منطقة عزمت إسرائيل على تقليص الوجود الفلسطينيّ فيها لأجل توسيع المستوطنات.
وقال إلعاد: وضعت إسرائيل خطّة لاقتلاع هذا التجمّع بدعوى أنّ جميع مبانيه مخالفة للقانون حيث أقيمت بدون ترخيص. علاوة على ذلك تدّعي الحكومة أنّها تكرّمت وعرضت نقل التجمّع إلى موقع بديل وحتّى أنّها مستعدّة لتحمّل تكاليف النقل. كذلك تدّعي إسرائيل أنّ لممارساتها شرعيّة قانونيّة: ألم تمنحها المحكمة العليا مصادقتها؟ لكنّ هذه الادّعاءات لا تعدو كونها مغالطات هزلية صيغت بدقّة على يد محامي النيابة المتحمّسين تحت تشويه واضح لروح القانون إذ ترتكز على الالتفاف الفارغ على القانون والتي لا صلة لها بالعدالة. أوّلاً لا جدال في أنّ تلك المباني أقيمت دون ترخيص من السلطات الإسرائيليّة المختصّة لكنّ هذا يحدث ليس لأنّ الفلسطينيين في طبيعتهم يميلون إلى مخالفة القانون كما يدّعي البعض في إسرائيل وإنّما لأنّه لا خيار آخر أمامهم. من شبه المستحيل أن يحصل الفلسطينيّون على تراخيص بناء من السلطات الإسرائيليّة لأنّ نظام التخطيط الإسرائيليّ الذي أقيم في الضفة الغربيّة قد جرى تصميمه لخدمة المستوطنين وسلب الفلسطينيّين. ثانياً، لقد تجاهلت الحكومة في إعلانها هذا بأنّ الموقعين البديلين الذين تكرّمت وعرضتهما بعيدان جداً عن تحقيق السقف الأدنى للظروف الدنيا، أحد الموقعين يتاخم مكبّ نفايات والآخر يتاخم منشأة لتطهير مياه المجاري. أكثر من ذلك فسوف يقوّض نقل سكّان التجمّع قدرتهم على كسب رزقهم. وأخيراً أصدرت المحكمة العليا قرارها في تجاهل تامّ لواقع نظام التخطيط في الضفة الغربية وهكذا فمصادقة المحكمة العليا على قرار الحكومة لا تجعل الهدم عادلاً أو حتّى قانونيّاً. إنّها فقط تجعل القضاة شركاء في جريمة حرب أي النقل القسريّ لسكّان محميّين في أراضٍ محتلّة.
أما قطاع غزة الذي يبلغ عدد سكّانه نحو مليونَي نسمة فأصبح في الأساس سجناً مفتوحاً. وخرج نزلاء السجن في الأشهر الستّة الماضية محتجّين على أوضاعهم بعد أن عانوا طيلة أكثر من عشر سنوات تحت وطأة حصار تفرضه إسرائيل، أدّى إلى انهيار اقتصاد القطاع وارتفاع حادّ في معدّلات البطالة وتلوّث مياه الشرب وتناقص إمدادات الطاقة الكهربائية وفي نهاية المطاف أدّى إلى حالة يأس عميق. ومنذ الـ30 من آذار جُرح آلاف الفلسطينيين بنيران إسرائيليّة وقُتل أكثر من 170 بينهم 31 قاصراً ومنهم أطفال صغار.
وكما في حالة خان الأحمر قررت محكمة العدل العليا في إسرائيل أنّ سياسات إسرائيل تجاه قطاع غزة "قانونيّة" في عدّة قضايا مختلفة منها شرعنة بعض أبعاد الحصار وشرعنة تعليمات إطلاق النار التي تبيح للقنّاصة الإسرائيليّين مواصلة قنص المتظاهرين داخل القطاع من بعيد.
وشدّد إلعاد على أن المشكلة الوحيدة مع هذا كلّه هي أنّه لا شيء منه في الواقع قانونيّ أو أخلاقيّ. ومع ذلك طالما أنّ هذه العمليّة الجارية الممنهجة والدؤوبة مستمرّة دون أن تثير غضباً أو تحرّكاً دوليّاً عندها يمكن لإسرائيل أن تواصل بنجاح حمل التناقض بين مصطلحي الاضطهاد والديمقراطيّة، أن تضطهد ملايين الأشخاص وأن تُعتبر "ديمقراطيّة" في الوقت نفسه.
وتابع إلعاد: باختصار شديد هذا هو النمط الذي يتّبعه الاحتلال: المؤسّسات الإسرائيليّة التي لا تمثيل فيها للفلسطينيّين تتبادل قطعاً من الورق في إجراءات مصمّمة جيّداً على طريقة "شريط الإنتاج المتحرّك". كيف يمكننا إضفاء شرعيّة قانونيّة على هدم هذا التجمّع؟ كيف يمكننا "تبييض" عمليّة قتل أخرى؟ كيف يمكننا شرعنة سلب قطعة الأرض الفلسطينية هذه؟ نحن لدينا تجربة أكثر من 50 عاماً هي مدّة كافية لنتعلّم كيف نجمّل هذه المهزلة بحيث تستمرّ كآلة "مزيّتة" جيّداً. نحن الآن خبراء في بناء هذه الواجهة من الشرعيّة القانونيّة الزائفة بحيث مكّنتنا من تفادي أيّ تبعات دوليّة حقيقية بنجاح كبير.
وعلى عكس ما تدّعي إسرائيل لا علاقة لأيّ من هذه الأفعال والممارسات بالأمن ولكن لها تأثير على الشيء المبهم المسمّى عمليّة السلام. وإذا نظرنا خلف كواليس هذه العمليّة، سنرى بوضوح كيف أنّه رغم الحديث عن نتائج ينبغي التوصّل إليها عبر مفاوضات يجري في الواقع فرض إملاءات مستمرة عبر خطوات إسرائيليّة أحاديّة الجانب. وهكذا لا توجد هنا عملية سلام بل القول سلاما، أي وداعا فلسطين.
وقال إلعاد إن إسرائيل شطبت أيضاً إمكانية تصويت الفلسطينيين من أساسها، وطالما أنّ الفلسطينيّين الواقعين تحت الاحتلال هم غير مواطنين فهذا يعني أنّه لا يمكنهم التصويت وفوق ذلك لا تمثيل لهم في المؤسّسات الإسرائيليّة التي تتحكّم بجميع تفاصيل حياتهم. وهناك مثال آخر: انظروا إلى آليّات التخطيط التمييزيّة وجهازي القانون المنفصلين في الأراضي المحتلّة. إنّها تذكّرنا بنظام الفصل العنصري الممنهج في جنوب أفريقيا. ومن المفهوم أنّ المقارنتين التاريخيّتين المذكورتين لا تعنيان التطابُق التامّ لكن هذا هو حال التاريخ لا يوفّر لنا الدقّة لكنّه يوفّر لنا بوصلة تشير إلى رفض اضطهاد إسرائيل للفلسطينيّين بالقناعة الرّاسخة نفسها التي رفض بها ضمير الإنسانيّة تلك المظالم الكبرى. لكن يبدو أنّ إسرائيل تتّبع بوصلة تشير إلى غاية أخرى وحيث هي تثابر في سعيها فهي تنشغل أيضاً بإزالة أيّ عقبات قد تعيقها عن تحقيق غايتها؛ المساعي الحثيثة لسنّ القوانين ضدّ منظمات حقوق الإنسان الإسرائيليّة يلازمها جنباً إلى جنب المساواة بين رفض الاحتلال والخيانة.
وأشار إلعاد إلى أنه واحد من فريق يضم نحو 40 إسرائيلياً وفلسطينياً والنقطة الأساسيّة في نظرهم هي إحقاق حقوق الإنسان. ولذا فهم يرفضون الاحتلال لأنّ الواقع الحاليّ يتعارض كلّيّاً مع معايير الحقّ ومعايير العدل؛ إنّه واقع السّلب التامّ لحرّية وكرامة 13 مليون إنسان هم جميع الفلسطينيّين والإسرائيليّين الذين يعيشون بين النهر والبحر. وقال إن نقيض هذا الواقع هو المستقبل الذي نسعى إليه، وحتّى إذا بدت تلك الرؤيا بعيدة الآن بل وتتلاشى أكثر فأكثر فنحن قادرون على أن نجعلها واقعاً معيشاً، ويمكن لخطوات دوليّة جدّية وحازمة أن تحقّق ذلك.