المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

التقلبات السياسية في حزب العمل لم تبدأ من الولاية البرلمانية الحالية، بل إن هذا الحزب غاب عنه البرنامج السياسي واضح المعالم منذ مطلع سنوات الألفين، في ظل حكومة إيهود باراك وبعدها. وللتوضيح، فإن الحديث يجري عن الحزب المؤسس لإسرائيل، الذي قاد الحروب التوسعية، ووضع قواعد الاستيطان في كافة المناطق المحتلة منذ العام 1967. كما أنه وضع كل أسس السياسات العنصرية، منذ الأيام الأولى لإقامة الكيان الإسرائيلي.

 

لكن هذا الحزب واجه تقلبات في داخله، منذ نهاية سنوات الثمانين، في ظل سلسلة الأزمات التي غرقت فيها إسرائيل، على وقع الحرب على لبنان واحتلال الجنوب، ولاحقا اندلاع انتفاضة الحجر الباسلة في نهاية 1987، لتستمر 5 سنوات. ونجحت تلك التقلبات في تغيير توجهات ليست قليلة نسبيا لحزب بذلك المستوى في حينه. ولكن مع اغتيال رابين في نهاية 1995، وما رافقه من سلسلة تغييرات سياسية وعسكرية، لا مجال لحصرها، بدأ تأثير تلك التقلبات على سياسة الحزب بالتراجع، وحتى التلاشي كليا في سنوات الألفين الأولى.

ومن مؤشرات زحف حزب العمل نحو اليمين الاستيطاني، نهج تصويت الحزب وكتلته البرلمانية "المعسكر الصهيوني"، على القوانين العنصرية والداعمة للاحتلال والاستيطان.

وفي التقرير الثالث الأخير لرصد هذه القوانين، في مركز "مدار"، ظهر بشكل واضح أنه في حين دعمت هذه الكتلة تلك القوانين في عمليات التصويت في السنة الأولى للولاية البرلمانية الحالية بنسبة 6ر16%، فقد ارتفعت النسبة في السنة الثانية إلى نسبة 8ر17%، وفي السنة الثالثة إلى 6ر21%.

وبالإمكان تفسير هذا الارتفاع ليس فقط بسبب التقلبات السياسية في الحزب، والركض وراء طوق الخلاص في المواقف اليمينية الاستيطانية، صاحبة الصوت الأعلى في الشارع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، وإنما أيضا تنبّه الحزب إلى المتغيرات في سدة الحُكم الأميركي. وكما يبدو هناك من يعتقد أنه في ظل إدارة أميركية داعمة من دون قيود لأجندة اليمين الاستيطاني المتطرف، لا أمل بوجود قواعد جماهيرية كافية تنصت لما كان الحزب يطرحه حتى سنوات الألفين الأولى. ويزيدون على هذا، تبريرا لذاتهم، الحالة الفلسطينية الداخلية، كما ظهر جليا في شروحات المبادرين والداعمين للبرامج السياسية المطروحة في الحزب.

وبالإمكان القول إن في خلفية البرنامج، الذي طرحه إيتان كابل، محاولة لاستباق موقف أميركي جديد، يوافق على ضم المستوطنات إلى ما يسمى "السيادة الإسرائيلية" في هذه المرحلة، دون أي علاقة بمفاوضات مع الجانب الفلسطيني. وتتوقع أوساط إسرائيلية أن يصدر موقف كهذا غداة الإعلان عما يسمى بـ "صفقة القرن"؛ وبنظر كابل وأمثاله، لا مكان لمعارضة مبادرة للحكومة الحالية لضم المستوطنات، إذا كانت تحظى بهذا الغطاء الأميركي، خاصة وأنه لا يوجد حزب صهيوني واحد، بما فيه حزب "ميرتس"، يعترض على ضم المستوطنات، إلا أن الخلاف هو حول التوقيت الأمثل، وأيضا الخطوة المقابلة لهذا الضم.

وقد أشغلت هذه التطورات في حزب العمل الحلبة الإسرائيلية ووسائل الإعلام فيها، وفي غالبية ما كتب كان انتقاد لحزب العمل، الذي انجر وراء اليمين الاستيطاني بدلا من أن يطرح بديلا.

وقد اعتبر الكاتب اليميني أمنون لورد، في مقال له في صحيفة "يسرائيل هيوم"، أن الخطة التي طرحها "التيار المركزي"، برئاسة ميخائيل بار زوهر، هي "بالخطوط العامة خطة سريان السيادة الكاملة في خطوة من طرف واحد، في حدود تضم غور الأردن والكتل الاستيطانية". ويضيف "توجد للخطة عدة جوانب إيجابية، أولها تقليص الخلاف الداخلي في الشعب، وخلق اجماع جديد. أما المشكلة الكبيرة في مثل هذه الخطة فهي الوهم أن إسرائيل يمكنها أن تضع حدا لقسم كبير من الخلافات في داخلها، وأن تصالح الساحة السياسية الدولية. هذا بالضبط ما اعتقدوا انهم سيحققونه في خطة فك الارتباط قبل 13 سنة. والدليل هو أنه اليوم، حين تهاجم حماس الجدران، فإن محافل سياسية داخلية ناجعة بما فيه الكفاية كي تُضعف رد الجيش الإسرائيلي، وتمس بالسمعة الطيبة لإسرائيل وبشرعية عملها".

ويرى لورد أن الخطة "تقرّب بين الليكود وحزب العمل، وتفتح امكانية لحكومة وحدة بعد الانتخابات القادمة. وإذا تحررت التيارات داخل حزب العمل من الخوف من نتنياهو، فإن حكومة وحدة مع العمل هي الامر الصحيح للمجتمع الإسرائيلي. اما "الصحوة"، التي عبر عنها ايتان كابل بالشكل الاكثر جرأة حتى الآن، فهي عميقة. فهي تحطم كل الفرضيات الأساس التي اتخذها ليس فقط حزب العمل واليسار، بل وأيضا جهاز الأمن؛ اتفاق اوسلو، الانسحابات احادية الجانب من لبنان ومن غزة، الموقف من الفلسطينيين كـ "شركاء" وليس كعدو. حتى لو كان المركز في العمل يقترح في واقع الأمر رواية محسنة اخرى للمفاهيم القديمة، فإن مجرد الاعتراف بوضع الأمور هو تطور تاريخي".

في المقابل، هاجم الكاتب التقدمي غدعون ليفي كابل وفريقه، وقال في مقال له في صحيفة "هآرتس"، "إن دعوة كابل للصحوة هي اسهام هام للخطاب السياسي: استيقظوا، يا أصدقاء كابل، ليس لديكم شيء تعرضونه، اطلاقا، أنتم يمين وحتى يمين متطرف، الآن حتى بدون القناع الذي لبستموه طوال خمسين سنة". وأضاف "في الموضوع الأكثر مصيرية ليس لديه ما يقوله، سوى محاكاة مواقف اليمين. وكان كابل مدهشا في طرح مواقف حزبه. فعمليا ليس لهذا مواقف سوى التي طرحها كابل، لذلك يجب أن نشكر عضو الكنيست الجريء: لقد كشف حقيقة حزبه وحقيقة اليسار الصهيوني كله".

وحسب ليفي، فإن ما عرضه كابل يعكس تقاربا لمواقف كتلة تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، بزعامة وزير التعليم نفتالي بينيت، ويقول إن "كابل ونفتالي بينيت أخوان، "البيت اليهودي" و"المعسكر الصهيوني" توأمان. لم يعد هناك أي فرق بينهما. العربة الفارغة والملونة لليسار الصهيوني وصلت إلى نهاية طريقها. يوجد على الاقل عضو شجاع، حتى أنه يتفاخر بذلك".

ويقول ليفي "يطرح كابل مبادرة صحوة، ليس سلاما، بل ضم. ليس ضما مثل الذي نعرفه حتى الآن، بل ضم ضخم. الفلسطينيون لدى كابل ليست لهم مكانة ولا حقوق، ولا ماض ولا حاضر أو مستقبل، ومشكوك لديه إذا هم موجودون. هم بالطبع مذنبون بذلك ولليهود ستكون كل البلاد".
ويضيف أنه فقط أمر واحد يُفزع كابل، هو "أن يكون لا سمح الله في الكنيست 30 عضوا عربيا. ليس من اجل هذا هاجر والداه من اليمن، شوشانا وأفشالوم لم يأتيا إلى هنا من اجل العيش مع العرب، مثل هؤلاء كان لديهم في اليمن. هما وابنهما يريدون دولة نقية عرقية. ربع اعضاء الكنيست من العرب معناه تحطم حلمهم. بتسلئيل سموتريتش لم يكن ليصيغ هذا بصورة أشد عنصرية".

أما القيادي السابق في حزب العمل عوزي برعام، فقال في مقال له في "هآرتس"، إن "على حزب العمل التركيز على أمرين أساسين: خلق قيادة موحدة برئاسة آفي غباي، ومن خلال ضم شخصيات تستطيع الاجابة على تحدي الشعور بـ "الأمن" الذي يقدمه نتنياهو، وأن يطرح بديلا سياسيا حقيقيا لليمين، الذي يطمح إلى ضم الضفة بدون حل يمنع المس بالهوية اليهودية الديمقراطية لإسرائيل. يجب عليه أن يبني رؤيته على قاعدتين اساسيتين: المسؤولية القومية عن مصير إسرائيل والأمل والسعي إلى اتفاق مع الفلسطينيين".

ويضيف برعام "إن التسليم بجزء من مبادئ اليمين سيحول الحزب إلى أداة لا حاجة اليها، إذ أنه لا يطرح أي تميز أو بديل. في الجمهور اجزاء واسعة لا تؤمن باستعراض القوة الخيالية، التي تتجاهل الواقع الجيو سياسي. من الصعب، وربما من غير الممكن، ارضاء كل الشعب، لكن يمكن خلق خطوات تبني الثقة بواسطة قيادة موحدة، تضم اليها شخصيات تحظى بتقدير في مجال الأمن، ومن خلال رفع نسبة الأمل الذي سيخلق موجات تأييد بعد أن تهدأ موجة النشوة".

العمل بعيد عن طوق النجاة

في الخلاصة لا يبدو أن هاتين المبادرتين ستغيران شيئا في وضعية حزب العمل وتحالفه البرلماني، في استطلاعات الرأي. وقد علمت التجربة أن المصوّت يختار عادة "النسخة الأصل" لتوجهاته السياسية، بمعنى إذا ولج حزب العمل في أجندة اليمين الاستيطاني، فإن منافسته في تلك الحلبة ستكون ضعيفة، وفي ذات الوقت سيخسر من قاعدته الانتخابية التقليدية، التي إما أنها ستبحث عن بديل، أو أن يكون خيارها عدم المشاركة في الاقتراع، وهذا ما لمسناه في كل واحدة من انتخابات سنوات الألفين، إذ أن نسبة التصويت ضعيفة بشكل خاص في منطقة تل أبيب الكبرى، المعقل الأساس لليسار الصهيوني ولما يسمى "اليمين الوسط"، أو "اليمين المعتدل"، وكلها تصنيفات وفق القاموس السياسي الإسرائيلي.

ويتراوح الفارق بين معدل نسب المشاركة في التصويت بين منطقة تل أبيب الكبرى وبين معاقل اليمين الاستيطاني والمتدينين المتزمتين، ما بين 20% إلى 25% وحتى أكثر. وهذا الواقع يلعب دورا في تعزيز قوة حكومات اليمين الاستيطاني بزعامة بنيامين نتنياهو.

ويعاني حزب العمل من حالة تلعثم سياسي، وغياب قيادة "نجومية" ذات قدرة على جرف الشارع، وما يزيد الطين بلة من ناحية الحزب أن وسائل الإعلام المركزية ليست ودودة لهذا الحزب، وإذا ما بحثت عن بديل للحكم، فإنها تتجه على الأغلب إلى حزب "يوجد مستقبل"، بزعامة يائير لبيد، الغارق أكثر من العمل في أجندة اليمين الاستيطاني.

من السابق لأوانه حسم نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة، لكن التوجه بات واضحا، على الأقل لتلك الانتخابات، وهو أن نهج اليمين الاستيطاني باق في الحكم، وطالما أن حزب العمل لا يبحث عن تميزٍ له، فإنه سيواصل درب التلاشي عن الخارطة السياسية.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات