المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

صعّد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أول أمس الأحد، موقفه بشأن سعيه لسن قانون يلغي صلاحية المحكمة العليا في نقض قوانين يقرها الكنيست، وهو أحد الأهداف التي وضعتها الكتل المشاركة في حكومته، باستثناء الكتلة الثانية "كلنا". وقد رفض نتنياهو حتى حلولا وسط من شأنها أن تضمن له الأغلبية في الكنيست، حيث أنه يصر على الصيغة

الأشد تطرفا، ما خلق قناعة لدى جميع الأطراف بأن نتنياهو يستخدم مسألة القانون لغرض التوجه إلى انتخابات مبكرة، يبدو تواقا لها منذ فترة، برغم معرفته أن صيغة القانون التي يريدها لن تجد لها أغلبية حتى بعد الانتخابات المبكرة.

ويقترح نتنياهو سن قانون مشابه للقانون البريطاني، الذي لا يجيز للمحكمة العليا نقض قوانين يقرّها البرلمان، بل يتيح للمحكمة أن تبدي رأيها بالقانون، مثل ما إذا كان مناسبا أم لا. إلا أن معارضي هذه الفكرة يقولون إن في بريطانيا دستورا واضحا، وهذا غير قائم في إسرائيل، كما أن في بريطانيا هيئتين تشريعيتين، البرلمان ومجلس الشيوخ، ما يعني أن القانون يمر في عدة مراحل، ووفق قيود يحددها الدستور.

في المقابل، فإن وزير التربية والتعليم نفتالي بينيت، زعيم كتلة تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، وزميلته، وزيرة العدل أييليت شاكيد، يطرحان منذ زمن مشروع قانون يجيز للكنيست بأن تسن قانونا ألغته المحكمة العليا، بأغلبية لا تقل عن 61 نائبا، من ناحية عددية وليس نسبية.

وحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن المستوى المهني في وزارة العدل، ومعه المستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت، يعارضان سلسلة من مشاريع القوانين، من شأنها أن تقوّض صلاحيات المحكمة العليا. ونقلت الصحيفة عمن أسمتهم "مصادر في وزارة العدل" قولها "إن جميع القوانين المقترحة، إن كانت من رئيس الحكومة، أو من قادة "البيت اليهودي"، تهدف إلى إلغاء صلاحيات واستقلالية المحكمة العليا، وعمليا إلغاء الديمقراطية وحقوق الإنسان في إسرائيل". وأضافت المصادر ذاتها أن المحكمة العليا تحولت إلى أداة في اللعبة السياسية بين كتل الائتلاف المختلفة. وبموجب تقديرها، فإنه لن يكون احتمال لتمرير قوانين كهذه في هذه المرحلة "إلا أن الهدف واضح، وهو الانتقاص من صلاحيات ومكانة المحكمة العليا".

كما يعترض المستوى المهني في وزارة العدل، كما تؤكد الصحيفة، بالذات على القانون البريطاني. وقال "مصدر رفيع المستوى في الوزارة"، بحسب الوصف، "إن ثقافة الحكم والتشريع في بريطانيا تختلف كليا عما هو قائم في إسرائيل، التي ليس لديها دستور مكتوب، كما هو قائم في بريطانيا. كما أنه يكفي أن تقول المحكمة البريطانية العليا أو الجمهور إن القانون ليس مناسبا، حتى يتم إلغاؤه، أو التراجع عن تشريعه. أما في إسرائيل، وفي تركيبة الكنيست الحالي، فإنه في اللحظة التي تعتقد فيها المحكمة العليا أن القانون ليس دستوريا فإن الكنيست (في حال أقر القانون البريطاني) لن يتنازل، وبسبب هذا فإن كتاب القوانين سيمتلئ بقوانين ليست دستورية ولا مناسبة".

وعقد نتنياهو أول أمس الأحد اجتماعا لرؤساء الأحزاب المشاركة في الحكومة، وأبدى فيه تشددا، مطالبا بسن القانون البريطاني، وهو ما عارضه بشدة رئيس حزب "كلنا" موشيه كحلون، الذي قال إنه على استعداد لسن قانون يحيد المحكمة العليا، فقط في ما يتعلق بطرد المهاجرين الأفارقة.

وقالت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، في موقعها على الإنترنت، إنه على الرغم من معارضة المستوى المهني في وزارة العدل، وبالذات معارضة المستشار القانوني للحكومة مندلبليت، لكل فكرة القانون، إلا أن هذا الأخير عرض صيغة "حل وسط"، حسب الوصف، وبموجبها فإن المحكمة العليا تستطيع نقض قانون فقط من خلال هيئة تضم 9 قضاة في المحكمة، وأن يكون نقض القانون بأغلبية 6 قضاة على الأقل من القضاة الـ 9. كما أن الكنيست بمقدوره سن القانون مجددا، لكن بأغلبية لا تقل عن 70 نائبا. وهذا ما رفضه نتنياهو، وقال إنه إذا أراد التساهل، فإنه يشترط أن يكون قرار المحكمة ساريا فقط إذا وافق على إلغاء القانون جميع قضاة المحكمة العليا الـ 15.

وجرى الاتفاق على الاستمرار في البحث مع قادة الائتلاف في غضون الأيام المقبلة.

ويعرف نتنياهو مسبقا أن الصيغة التي يريدها لن تجد أغلبية لها في الكنيست، وهذا ما عزز الانطباع بأن نتنياهو يسعى أساسا إلى حل الائتلاف والتوجه إلى انتخابات مبكرة، مستغلا بذلك ما يراه من صعود لشعبيته وشعبية حزبه في استطلاعات الرأي، على الرغم من قضايا الفساد التي تلاحقه. كما يعي نتنياهو أنه حتى لو جرت انتخابات مبكرة، في نهاية الصيف، أو في منتصف الخريف من هذا العام، فإنه لن يجد أغلبية لما يريده، إذ أن كل استطلاعات الرأي لا تتنبأ بأي أغلبية لأحزاب اليمين المتشدد مع كتلتي الحريديم، في حال بقي حزب "كلنا" عند موقفه الرافض.

خلفية- تشابك مصالح

 

المعركة من أجل الانتقاص من صلاحيات المحكمة العليا، أو من أجل تغيير تركيبتها وتقليل مكانتها، لم تبدأ في حكومات بنيامين نتنياهو الثلاث الأخيرة، بما فيها الحالية، رغم أن نتنياهو طرح مثل هذا الموقف، في حكومته الأولى، 1996- 1999. فقد برزت هذه المعركة بشكل آخر في ظل حكومة حزب "كديما" برئاسة إيهود أولمرت، حينما كان وزير العدل حاييم رامون.

وقد تولى رامون وزارة العدل لعدة أشهر في العام 2006، واضطر للاستقالة منها في أعقاب قضية تحرّش جنسي. لكن بضعة الأشهر تلك كانت كافية للإعلان عن نواياه بتغيير أنظمة تعيين القضاة، ليكون الوزن أكبر للجهاز السياسي، ولكن ليس هذا فحسب، بل هو أيضا عبّر عن اعتراضه على مدى تدخل المحكمة العليا في القوانين التي يقرّها الكنيست. وبعد اضطرار رامون للاستقالة، تم استقدام المحامي والخبير الحقوقي البروفسور دانييل فريدمان. واتضح لاحقا أن فريدمان ذاته كان من الموجهين لرامون، وجاء ليكمل المهمة. وهذا يعني أن هذا المشروع كان أكبر من فكرة شخص في الحكومة. ولكن حكومة أولمرت حلّت نفسها قبل إحداث أي تغيير.

ومنذ الأيام الأولى لحكومة نتنياهو قبل السابقة، في ربيع العام 2009، أبدى رئيسها نيته بتغيير قوانين وأنظمة في جهاز القضاء، وبشكل خاص تقويض صلاحية المحكمة العليا في التدخل في القوانين. ورغم تشكيل حكومتين، وهذه الثالثة، إلا أن مثل هذه القوانين لم تحل بعد، بل جرى تغيير طفيف في لجان تعيين القضاة. ولكن قبل هذا، نجحت حكومة نتنياهو قبل السابقة بتغيير قانون تعيين رئيس المحكمة العليا، الذي كان يقضي بتعيين الأكبر سنا، شرط أن يكون عمره حتى 66 عاما، لكون القاضي يخرج للتقاعد بعمر 70 عاما. ومن يتم انتخابه رئيسا يبقى في منصبه حتى تقاعده. وكان الغرض من تعديل هذا القانون هو السماح للقاضي آشر غرونيس، المحسوب على اليمين، بأن يتولى المنصب، حينما يكون عمره 67 عاما، فور استقالة دوريت بينيش، التي اتبعت نهج سابقها الليبرالي أهارون باراك.

وفي اتفاقيات الائتلاف الحاكم، التي تم توقيعها في شهر أيار 2015، ظهر خلاف واضح في كل ما يتعلق بالتعامل مع جهاز القضاء. فقد اعترضت كتلة "كلنا" برئاسة وزير المالية موشيه كحلون، على بندين في الاتفاقية التي وقعها حزب الليكود مع الشركاء الثلاثة الآخرين: تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، والكتلتان اللتان تمثلان اليهود المتزمتين الحريديم شاس ويهدوت هتوراة. وقد نص البندان على الاتفاق على دعم مشروع قانون يسمح للكنيست بإعادة سن قانون رفضته المحكمة العليا، ما يعني تقليص صلاحيات المحكمة العليا في نقض قوانين. والاتفاق على تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة، بحيث سيرتفع وزن السياسيين فيها- ممثلو الحكومة- ما يجعل الجهاز القضائي خاضعاً أكثر للجهاز السياسي.

ورفض حزب "كلنا"، الذي له 10 مقاعد، إدراج هذين البندين في الاتفاقية معه، وطلب الإشارة بوضوح إلى رفضه للبندين. وفي هذه الحالة فإن حكومة نتنياهو التي ترتكز على أغلبية من 66 نائبا من أصل 120 نائبا، لن تكون لها أغلبية برلمانية.

وعدا تعيين غرونيس، فإنه منذ عودة نتنياهو لرئاسة الحكومة في العام 2009، بدأ تغيير تدريجي في تركيبة قضاة المحكمة العليا، ليتم الزج بقضاة ذات توجهات تتلاءم مع توجهات اليمين الاستيطاني والمتشدد، الذي يسعى إلى التقليل من وزن المحكمة العليا، بما يتعلق بالهيئة التشريعية والسياسات الحكومية. وفي مطلع شباط الماضي 2018، قالت وزيرة العدل أييليت شاكيد إنها "أتمت المهمة"، في اعقاب آخر تعيينات في المحكمة العليا. (حول استكمال سطوة اليمين المتشدد على المحكمة العليا، اقرأ تقريرا في موقع "مدار" من يوم 27 شباط 2018: "المحكمة الإسرائيلية العليا بوجه جديد- أكثر يمينية ومحافظة!")

والمحكمة العليا مستهدفة من كل القوى التي تسعى إلى فرض هيمنتها ونقض ما كان قائما من قبل، ولهذا نرى تشابك مصالح في السعي لتقويض صلاحيات المحكمة العليا، ونقطة الالتقاء هي إلغاء صلاحيات المحكمة في نقض قوانين يقرها الكنيست، أو السماح للكنيست بأن يقر قوانين مجددا، بعد أن نقضتها المحكمة العليا، كما شهدنا هذا في مشروع قانون كتلة تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي". فنرى أن اليمين الاستيطاني المتطرف لا يريد تدخل المحكمة العليا في قوانين يسعى اليها، تتعلق بالأرض، وحقوق الفلسطينيين في كامل فلسطين التاريخية، كل مجموعة حسب وضعيتها، رغم أن المحكمة العليا تقليديا تتماشى مع السياسات الحكومية الإسرائيلية من حيث الجوهر، وما تنقضه هو استثناءات تكتيكية، ولكن لا تلغي جوهر تلك السياسات والقوانين.

كما أن المتدينين المتزمتين الحريديم يعتبرون المحكمة العليا معادية لكل ما يسعون له في المؤسسة الحاكمة، مثل قوانين الإكراه الديني، والقانون المتعلق بتجنيد شبان الحريديم. وينضم إلى هؤلاء حيتان المال، الذين هم أيضا غير معنيين بقوة ذات تأثير على مؤسسة الحكم تعلو على قوة الهيئتين التشريعية والتنفيذية، بعد أن أحكموا قبضتهم عليهما في السنوات الأخيرة.

تحذيرات

وعبرت رئيسة المحكمة العليا إستير حيوت، في كلمة لها امام يوم دراسي في جامعة تل أبيب، يوم 15 نيسان الجاري، عن رفضها لمشروع القانون الذي يسعى له نتنياهو. وقالت "كوننا نريد التفاخر، وبحق، أمام العالم بأننا الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، يحتم علينا أن نتذكر أن أحد الضمانات الضرورية لهذا هو الحفاظ على جهاز قضائي مستقل ومهني، وليس مرتبطا بأي جهة، ويقوم بمراقبة الحكم، ويدافع عن المبادئ الأساس لنظام الحكم".

ونشر "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" موقفا يتطرق فيه إلى سلسلة مشاريع قوانين ومواقف يسعى لها نتنياهو، مثل هجومه على جمعية "الصندوق الجديد لإسرائيل"، وسعيه لطرد عشرات آلاف المهاجرين الأفارقة، وأخيرا سعيه لسن قانون يمنع المحكمة العليا من نقض قوانين يقرها الكنيست، وصاغ الموقف عدة خبراء، أبرزهم البروفسور مردخاي كريمنيتسر.

وقال المعهد إن فكرة سن قانون يقوض صلاحيات المحكمة العليا، من أجل سن قانون يسمح بطرد المهاجرين الأفارقة، هو مشروع إشكالي في عدة مستويات، فالحديث "يجري عن قانون سيؤدي إلى المس بحقوق أساسية لسكان الدولة، ويخرق التوازن القائم بين السلطات. ويجري الحديث لا أقل عن سحب حجر الزاوية للقضاء الدستوري في إسرائيل، وتحويل قرارات المحكمة العليا إلى توصيات فقط..".

ويرى محلل الشؤون الحزبية في صحيفة "هآرتس" يوسي فيرتر أن نتنياهو قرر خوض هذا المسار التشريعي بقصد تفكيك الائتلاف الحاكم، وعمليا التوجه إلى انتخابات مبكرة، بذريعة هذا القانون، لأن كتلة "كلنا" تعارض هذا القانون، وقد تقبل بشيء محدود، مثل قضية " قانون المتسللين الأفارقة، الذي الغته المحكمة العليا"، وهو ما يعني حسب فيرتر أن زعيم "كلنا" موشيه كحلون على استعداد للقبول بصيغة محدودة لما يريده نتنياهو، بينما الأخير يريد صيغة جارفة.

وتقول الصحافية رافيت هيخت، في مقال لها في صحيفة "هآرتس"، إنه لا يمكن تجاهل الانقلاب الخطير الذي جرى في حزب الليكود في فترة رئاسة نتنياهو، وذلك من الموقف القائل إن حريات الفرد، والحفاظ عليها من قبل المحكمة العليا، هي مصلحة لليمين، الذي كان في حينه اقلية سياسية على مر سنين، إلى الموقف الحالي والذي بموجبه يتم اعتبار المحكمة العليا كواحدة من أعداء الشعب، إلى جانب حركة حماس ووسائل الإعلام.

وتقول صحيفة "هآرتس"، في مقال افتتاحي لأسرة التحرير، إن ما هو مناسب لبريطانيا ليس مناسبا لإسرائيل "التي هي شبه الدولة الوحيدة في العالم الديمقراطي التي ليس لها دستور او قوانين أساس". وأضافت "صحيح أنه ليس للمحكمة العليا البريطانية الصلاحية لإلغاء القوانين، لكن التوازنات والكوابح في بريطانيا تعمل بشكل مختلف عما هو في إسرائيل. ففي بريطانيا يوجد مجلسان تشريعيان ومجلس أعلى يمكنه أن يلطف ويؤخر تشريعا شعبويا. وهناك لجنة في البرلمان البريطاني تفحص ما إذا كانت القوانين تمس بحقوق الإنسان".

وتابعت "وبريطانيا تتبع الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، وكل مواطن أو إنسان يخضع لسلطاتها يمكنه أن يلتمس إلى المحكمة الأوروبية في ستراسبورغ بدعوى أن بريطانيا تخرق حقوقه. أما في إسرائيل فتكاد لا توجد مثل هذه التوازنات والكوابح. في إسرائيل يوجد مجلس تشريعي واحد، والدولة لا تتبع لميثاق حقوق الإنسان الأوروبي ولمثل هذه الصلاحيات القضائية الدولية".

وقالت "هآرتس" إنه "من المفهوم أنه في وضع تتعطل فيه المحكمة العليا عن ممارسة قوتها الأهم، ستكون للكنيست وللحكومة قوة غير محدودة. وقد أظهر التاريخ أنه لا يوجد وضع أخطر من الوضع الذي يكون فيه الحكم منفلتاً من أي عقال وبلا رقابة".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات