في مطلع العام 2016 طرأ تحول مفاجئ في الخطاب السياسي في إسرائيل. فقد وجد حزبا الليكود والعمل نفسيهما في إحدى الحالات النادرة في التاريخ، يقفان في نفس الجانب من المتراس، وذلك عندما أقر الحزبان علنا أنه وفي اللحظة الزمنية الراهنة بات الهدف المتمثل في التوصل إلى حل عبر المفاوضات مع الفلسطينيين استنادا إلى صيغة " دولتين لشعبين"، بمثابة سراب غير قابل للتحقيق.
ويعود أحد الأسباب التي تقف وراء ذلك، في أن كلا الحزبين لاحظا أن الفلسطينيين تبنوا ما يعرف بـ "الخطة ب"، وهي سياسة ترتكز على الفرضية بأن الطريق الأسلم لدفع تحقيق الأهداف والمصالح الفلسطينية تكمن في القيام بجهود ومساع حثيثة من جانب واحد في الساحة الدولية، وتكريس الواقع القائم، وذلك عبر القيام بأعمال استنزاف عنيفة، ونزع الشرعية عن إسرائيل ومقاطعتها. ومن وجهة نظر الفلسطينيين فإن مثل هذه الأعمال والنشاطات من شأنها أن تضعف إسرائيل في الساحة الدولية وأن تبقي النزاع الإقليمي مطروحا على الأجندة بهدف التسبب في انقسام داخلي وإضعاف المجتمع الإسرائيلي.
ويتفق الحزبان الرئيسيان في إسرائيل حاليا على أن الهدف الحقيقي للفلسطينيين لم يعد حل "دولتين لشعبين"، استنادا لمبدأ مقايضة الأرض بالسلام، وعلى أن الفلسطينيين معنيون الآن بأن يروا في نهاية العملية واقعا يقوم على دولة واحدة يصبحون فيها هم الأكثرية، وأن لا يكون لإسرائيل وجود كدولة يهودية وديمقراطية.
بناء على ذلك، يقول المؤيدون للنهج الأحادي الجانب إنه يتعين على إسرائيل أن تأخذ مصيرها بيديها عن طريق خلق واقع جديد في المنطقة وتغيير الـ"ستاتيكو - الوضع القائم" لجهة ما يعتقدون أنه ينطوي على أفضلية لإسرائيل. ويقتضي "النهج الأحادي الجانب البناء"، كما يصفونه، القيام بما يلي: أولا- انسحاب من جانب واحد من مناطق تتراوح مساحتها بين 80- 85 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، ومن ضمن ذلك عشرات الأحياء الاستيطانية في القدس الشرقية؛ ثانيا- إخلاء مقرون بحوافز وسن قوانين خاصة، لعدد يتراوح بين 80 ألف و 100 ألف مستوطن إسرائيلي من بيوتهم ومساكنهم، ونقلهم إلى إسرائيل داخل الخط الأخضر، أو إلى كتل استيطانية كبيرة؛ ثالثا- الإنتهاء من بناء جدار الأمن (جدار الفصل)؛ أخيرا، الاحتفاظ بتواجد عسكري إسرائيلي على امتداد نهر الأردن.
ويعتقد المؤيدون للانسحاب الأحادي أنه لا يمكن لـ"الوضع القائم" أن يستمر، إذ أن الزيادة السكانية الإسرائيلية في الضفة الغربية ستؤدي إلى خلق وضع يصبح فيه أي حل مستقبلي يرتكز على مبدأ مقايضة الأرض بالسلام غير قابل للتحقيق، الأمر الذي سيفضي بالتالي، من ناحية واقعية، إلى نشوء دولة واحدة ذات أغلبية عربية، وسيكون في ذلك نهاية لإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية.
لقد انسحبت إسرائيل حتى الآن بصورة أحادية الجانب مرتين، الأولى من لبنان في العام 2000، والثانية من قطاع غزة في العام 2005. وفي الحالتين جرى الإنسحاب من مناطق غير متنازع عليها، ولم تكن لإسرائيل فيها أية مطالب. وفي حالة قطاع غزة لم يكن الحديث يدور نهائيا عن منطقة لها صلة في سياق التوصل إلى أي إتفاق مستقبلي بين الطرفين.
هذان الإنسحابان الأحاديان كانت لهما نتائج لم يتم توقعها مسبقا، إذ أن هذه النتائج تجاوزت بكثير الفرضيات والتوقعات التي سادت في حينه. وقد تضمنت الانعكاسات الناجمة عن ذلك اندلاع أربع حروب، وآلاف الحوادث الحدودية، وتحول مشكلات تكتيكية إلى مشكلات إستراتيجية. وقد ترك كل ذلك أثارا وانعكاسات عميقة في إسرائيل لا يمكن محوها.
في ضوء ذلك، فإننا نقف الآن أمام اقتراح ينص على القيام بانسحاب أحادي الجانب دون شروط من منطقة لا تطالب إسرائيل بها لنفسها - وتتراوح مساحتها، كما أسلفنا، بين 80- 85 بالمئة من الضفة الغربية - و"الانطواء" إلى خط حدود لا يعترف به أحد سواها.
ويمنح هذا الاقتراح الأراضي المُزمع الإنسحاب منها اعترافا واقعيا بأنها تعود بصورة شرعية للفلسطينيين، بينما ستبقى هذه الأراضي في الواقع أراضي متنازعا عليها تحتفظ بها إسرائيل بموجب مسلمات ومعايير دولية، لريثما يتم التوصل إلى تسوية بين الطرفين. كذلك فإن الإقتراح يدعو إلى التخلي بشكل أحادي الجانب عن وحدة مدينة القدس كعاصمة لإسرائيل، وذلك خلافا لإجماع دولي واسع، ودون أي مقابل.
وكما حصل في الإنسحاب الأحادي الجانب في المرتين السابقتين (من جنوب لبنان- 2000، ومن قطاع غزة- 2005) فإن الإقتراح الحالي يعكس ضعفا إسرائيليا في مواجهة بيئة معادية، من جهة، ومؤيدة من جهة أخرى لإقامة جدار أو حاجز بين الشعبين على أمل أن يؤدي ذلك بالذات إلى تقريبهما أكثر من السلام.
ثمة أيضا بعد إسرائيلي داخلي من المهم التطرق إليه. إذ يمكن تصور الانعكاسات السياسية والاجتماعيّة المترتبة على عملية أحادية الجانب تشمل اقتلاع وإعادة توطين – بصورة قسرية – لـ 100 ألف مواطن (مستوطن) إسرائيلي. فإذا كان الإنسحاب من قطاع غزة قد تسبب بصدمة، فإن "الإخلاء" من الضفة الغربية سيحدث زلزالاً.. فقد حاولت حكومة شارون طوال عام كامل تقريبا دفع المستوطنين اليهود في "غوش قطيف" إلى ترك مستوطناتهم بإرادتهم، غير أن النتائج كانت قاسية جدا. في المقابل فإن الحديث يتناول، فيما يتعلق بالإنسحاب الأحادي من مناطق في الضفة الغربية، إخلاء أوسع نطاقا بكثير.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ثمة فرقا بين ضرورة "التخلي عن البيت" في سياق تسوية تتوصل إليها حكومة منتخبة في نهاية مفاوضات، وبين القيام بذلك دون مقابل.
إن معارضة هذا النمط من التفكير تتخطى الحدود السياسية المتعارف عليها في إسرائيل. فالحديث يدور هنا عن قوس يقف على أحد طرفيه أولئك الذين لا يستطيعون فهم لماذا يتعين على إسرائيل أن تتنازل عن ورقة المساومة التي تحتفظ بها مقابل لا شيء، بينما يقف على الطرف الثاني أولئك الذين يعتقدون أن لإسرائيل الحق في كامل أراضي الضفة الغربية.
لعل الناخب الإسرائيلي سيجد نفسه مطالبا بالتصويت على هذه المسألة في المستقبل غير البعيد. ففي هذه الآونة تجري حملة هدفها دفع إجراء استفتاء حول الموضوع. مع ذلك فإن قلائل فقط، من كلا طرفي الطيف السياسي، يفهمون هذه المسألة التي ستطرح أمامهم في مثل هذا التصويت- الاستفتاء- أو النتائج المتوقعة لطريقة تصويتهم.
هذه الدراسة تسعى إلى عرض المسألة على اختلاف معانيها ودلالاتها.
حزب "العمل" والإنسحاب الأحادي الجانب
صوت مؤتمر حزب "العمل" بالإجماع في شهر شباط من العام الماضي (2016) إلى جانب تحويل الإنفصال الأحادي الجانب عن الفلسطينيين إلى مدماك مركزي في برنامجه، وهو أول تغيير يجريه الحزب في هذا البرنامج منذ العام 2002. وقد كان هناك دافعان رئيسيان خلف هذا القرار: الأول فقدان الأمل بإمكانية قابلية تجسيد حل الدولتين المرتكز إلى تسوية إقليمية، أما الدافع الثاني فيتمثل في الفرضية القائلة إن إستمرار "الوضع القائم" في الضفة الغربية لم يعد قابلا للحياة.
وتقول أوساط حزب "العمل" إنه إن لم تأخذ إسرائيل مصيرها بيديها من أجل تغيير الديناميكية الحالية، فإن الوضع الراهن سيؤدي في نهاية المطاف إلى دولة واحدة ثنائية القومية، يتحول الفلسطينيون فيها إلى أغلبية، فيما ستكف إسرائيل عن كونها دولة ديمقراطية ويهودية. وتخشى محافل الحزب من أن السياسة الحالية التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية، والتي تبيح توسيع المستوطنات بمقتضى وتيرة الزيادة السكانية الطبيعية، ستفضي إلى وضعٍ غير قابل للتغيير في الضفة الغربية، وأن هذه السياسة لن تبقي شيئا للتفاوض حوله إذا ما قرر الفلسطينيون العودة إلى مائدة المفاوضات
وأوضح زعيم الحزب إسحاق هيرتسوغ المنطق الكامن وراء تغيير البرنامج بقوله:
● "إن الانفصال والحيلولة دون نشوء واقع دولة ثنائية القومية يحتلان أولوية عليا بالنسبة لدولة إسرائيل.. إن هدف الانفصال عن جيراننا الفلسطينيين له أهمية إستراتيجية من الدرجة الأولى، إذ سنضطر، في حال استئناف المفاوضات، إلى تفحص القيام بمبادرة من جانبنا (...) يمكن لنا أن نواصل تكرار الحديث عن دولتين، بينما يسير الوضع على الأرض نحو دولة واحدة، ولن يكون في وسعنا عندئذ عمل أي شيء فيما يتعلق بذلك".
ويقول الجنرال (إحتياط) عاموس يدلين، الذي رُشح في انتخابات العام 2015 لتولي منصب وزير الدفاع من طرف حزب "العمل"، إن مصدر خطة الانفصال الأحادية الجانب عن الفلسطينيين وفق رؤية حزب "العمل"، يكمن في الاعتراف بالفشل، وليس في الأيديولوجيا، في الإحباط وليس في الرؤية.
ويضيف يدلين في مقال كتبه في العام 2015:
● "إن التوصل إلى اتفاق (مع الفلسطينيين) أصبح أصعب حاليا مما كان عليه الأمر في العام 2002 والعام 2008. وحتى المعتدلين في صفوف الفلسطينيين يرفضون التنازل عن حق العودة والاعتراف بإنهاء النزاع والمطالب، وكذلك الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، كما يرفضون المطلب بشأن ترتيبات أمنية تشكل جوابا ملائما للمخاوف الإسرائيلية المشروعة".
يبدو أن الفلسطينيين في العام 2016، لم يعودوا يرون في فكرة الدولتين، حسب خطة بيل كلينتون، النتيجة المفضلة لديهم، وعوضا عن ذلك فإن خطابهم متجذر في "حق العودة إلى فلسطين التاريخية بأكملها".
بالنسبة للزعامة الفلسطينية فإن كل الطرق تؤدي إلى نفس الهدف: يتعين على إسرائيل قبول شروط الفلسطينيين (التي تؤدي إلى تصفية وجود إسرائيل كدولة يهودية) أو أن يستمر الوضع القائم، والذي يؤدي إلى النتيجة ذاتها (نهاية إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية).
اقتراح حزب "العمل"- خطوط عريضة
- يتعين على إسرائيل التقدم بمبادرة للتوصل إلى اتفاق دائم مع الفلسطينيين، يرتكز إلى مبادئ خطة الرئيس كلينتون: إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح مع ترتيبات وضمانات أمنية ملائمة لإسرائيل، والتعهد بوضع حد نهائي للنزاع والمطالب، وتخلي الفلسطينيين عن تجسيد "حق العودة".
- يتعين على إسرائيل، في حال فشل قناة المفاوضات الثنائية (التي تعتبر القناة المفضلة)، الانتقال إلى قناة إقليمية تشمل الدول العربية المعتدلة بزعامة مصر والسعودية والأردن، وذلك بهدف التوصل لتسوية دائمة. إذا رفضت الدول العربية المعتدلة (أو إذا أخفقت في) المساهمة في التوصل إلى تسوية فإنه يمكن لإسرائيل التوجه نحو التوصل إلى اتفاقيات انتقالية مع الفلسطينيين.
- تقتضي الاتفاقيات الإنتقالية التخلي عن مبدأ "لا نتفق على شيء إلى أن نتوصل لاتفاق حول كل شيء"، وتغيير النموذج المتعلق بالتنفيذ التدريجي لكل مجال يمكن التوصل إلى اتفاق أو تفاهم حوله، وسط تأجيل المواضيع الخلافية إلى موعد لاحق.
- يتعين على إسرائيل، فقط في حال فشل كل هذه القنوات، انتهاج إستراتيجيا مستقلة وبعيدة الأمد من أجل رسم وتثبيت حدودها.
إستراتيجيا مستقلة: سمات ومقومات
إن هذه الإستراتيجيا بمجملها، ينبغي أن تتسم بالتجديد والإبداع، وأن تؤدي إلى إزالة الفيتو الفعال الذي يمتلكه الفلسطينيون فيما يتعلق بمستقبل إسرائيل، وهي تستوجب أيضا تنسيقا وثيقا وكبيرا قدر الإمكان مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. كما ينبغي لها أن تبقي الخيار مفتوحا أمام العودة إلى مائدة المفاوضات والتوصل إلى تسوية تستند إلى نموذج حل متفق عليه يقوم على مبدأ دولتين لشعبين.
إلى ذلك فإن هذا المسار يتفادى النتائج الأكثر إشكالية، أي إستمرار "الوضع القائم"، أو التوصل إلى تسوية دائمة دون إنهاء النزاع وترتيبات أمنية ملائمة لإسرائيل.
بناء على ذلك فإن مثل هذه الإستراتيجيا المستقلة سوف تتضمن المكونات الآتية:
- استعداد إسرائيل للانسحاب من أراضٍ تتراوح مساحتها بين 80- 85 بالمئة من الضفة الغربية، وأن يعبر ذلك عن نفسه في خطوات عملية تقوم بها إسرائيل في المنطقة.
- أن تبادر إسرائيل لتنفيذ انسحابات إضافية من الضفة الغربية على أن لا يشمل ذلك مناطق غور الأردن و"كتل المستوطنات" والقدس الشرقية.
- نقل "مناطق ب" وجزء كبير من "مناطق ج" إلى مسؤولية فلسطينية كاملة.
- التوقف التام عن بناء مستوطنات خارج خطوط الحدود المتفق عليها.
- وضع وإقرار خطة لإعادة توطين المستوطنين الإسرائيليين المقيمين إلى الشرق من هذه الخطوط وذلك داخل حدود إسرائيل "المتفق عليها"، وأن تعطي هذه الخطة أفضلية لمناطق الجليل والنقب وكتل المستوطنات الكبرى (في الضفة الغربية ومن ضمنها القدس).
- بقاء مسؤولية أمن إسرائيل في يدي الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن الأخرى.
- يتعين على إسرائيل الإحتفاط بقدرتها على القيام بنشاطات وقائية وعمليات "مطاردة ساخنة"، والسيطرة على الحدود الخارجية والمجال (الأمن) الجوي. مع ذلك يتعين على الجيش الإسرائيلي السعي إلى تقليص مثل هذه النشاطات في المناطق التي سينسحب منها.
عيوب وانعكاسات
يقف في أساس التفكير لدى اولئك الذين يقترحون انسحابا أحاديا من مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية، الإدعاء بأن "الوضع القائم" هو أمر غير محتمل، وغير مرغوب قطعا، وأن الاستيطان الإسرائيلي الزاحف سيخلق وضعا لا رجوع فيه، والذي من شأنه أن يجعل حل الدولتين مستحيلا، إذا ما رغب الفلسطينيون في العودة إلى مائدة المفاوضات.
العيوب في الفرضية الأساس:
- في الحقيقة أن "الوضع القائم" يعتبر قابلا للحياة، ويعمل وفق المعايير المتعارف عليها بموجب القانون الدولي ونظام القضاء الإسرائيلي والمبادئ المنصوص عليها في اتفاقيات أوسلو.
- في حال فوز المؤيدين للانفصال من جانب واحد في الانتخابات الإسرائيلية وتوليهم لقيادة دفة الدولة، فإنه لن تكون هناك أية حاجة للانسحاب (الأحادي)، ذلك لأنه سيكون في مقدورهم وقف استمرار أنشطة البناء والتوسع في المستوطنات، وأن يبقوا بذلك على خيار الدولتين مطروحا على المائدة.
- لقد التزمت إسرائيل رسميا في اتفاقيات أوسلو بعدم تغيير "الوضع القائم" في المناطق المتنازع عليها. ومن هنا فإن الفرضية القائلة إن هذا "الوضع" سوف يتغير، تعتبر فرضية خاطئة.
- بناء على ذلك وبمعزل عن طبيعة الحكومة التي تتولى مقاليد الحكم في إسرائيل، فإن "الوضع القائم" ظل مفتوحا ويمكن مواصلة المحافظة عليه، دون تهديد ديموغرافي أو ديمقراطي لإسرائيل، سواء على المدى القصير أو البعيد.
- تحتفظ السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بسيطرة وصلاحية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، بموجب اتفاقيات أوسلو، ومن ضمن ذلك من الناحيتين الإدارية والقانونية.
- بقاء إمكانية قيام إسرائيل، وإن كانت فرصة ذلك ضئيلة جدا، بضم مناطق الضفة الغربية، ولذلك فإن هذه المناطق لا تشكل تهديدا للطابع اليهودي أو الديمقراطي للدولة الإسرائيلية.
- إلى ذلك فإن المسألة التي بقيت موضع خلاف، لا تتمثل فيما إذا كان هناك وجود لكيان فلسطيني واحد يمثل الفلسطينيين، وإنما ماهية الحدود النهائية والبُنية السياسية الداخلية لهذا الكيان، وهاتان مسألتان لا تستطيع إسرائيل أن تجيب عليهما بصورة أحادية الجانب.
- صحيح أن المؤيدين للانسحاب الأحادي يفترضون بأنهم يستطيعون تجنيد الاعتراف والتعاون الدولي والفلسطيني اللازمين لتنفيذ مثل هذا الإنسحاب، إلا أنه سيفسر عمليا كخطوة إسرائيلية أحادية الجانب للاستيلاء والسيطرة على مناطق تبلغ مساحتها 20 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، وسط الإخلال بالالتزامات والتعهدات التي قطعتها إسرائيل على نفسها في اتفاقيات أوسلو.
ويقول مؤيدو الإنسحاب الأحادي الجانب إنه سيكرس واقع دولتين لشعبين في المستقبل، غير أن تغيير"الوضع القائم" سيعرقل هذه الجهود ويقنع الفلسطينيين بأن إسرائيل معنية فقط بإقامة سور أو جدار فاصل بين الطرفين وليس التوصل إلى سلام.
انعكاسات الإنسحاب الأحادي الجانب
إن الوضع الحالي في الضفة الغربية لا يعتبر في الحقيقة مثاليا. كذلك فإن العلاقات المشحونة والسيئة السائدة بين جيران، تعتبر وضعا إشكاليا على الدوام، لكن الحل لا يكمن في الانهزامية أو الذعر.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى طائفة من الانعكاسات السلبية الممكنة لمثل هذا الإنسحاب الأحادي الجانب :
- إن هذه الخطوة لن تسهم في تعزيز أمن إسرائيل، كما يدعي المؤيدون لها، بل على العكس ستضر بالأمن الاسرائيلي، فضلا عن أنها ستؤدي إلى توقف التعاون الأمني القائم حاليا بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وإلى هدر الأفضليات الأمنية التي يضمنها انتشار الجيش الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية، سواء في مجال الرد على التهديدات بصورة فعالة، أو في مجال النشاطات الإستخبارية والوقائية.
- إن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تشجع المتطرفين، وأن تضر بقدرة الردع الإسرائيلية.
- من المتوقع أن تؤدي خطوة الإنسحاب الأحادي إلى تصعيد في الأعمال الإرهابية وذلك في ضوء الواقع الاقتصادي والسياسي الذي سينشأ في أعقابها.
- إن انسحاب إسرائيل من 80 بالمئة من مساحة الضفة الغربية لن يعفي إسرائيل من مسؤولياتها ومن كونها ما زالت قوة احتلال، كما أن مثل هذا الإنسحاب لن يؤدي إلى تراجع الجهود والمساعي التي يقوم بها الفلسطينيون، أو الجهات والمحافل المؤيدة لهم، لنزع الشرعية عن إسرائيل ومقاطعتها وتقويض مطالبها التاريخية.
استنتاجات
في ضوء كل ذلك يبدو أن مؤيدي الإنسحاب الأحادي الجانب لم يذوتوا عِبَر ودروس الماضي، وهو ما يُحيل إلى ضرورة الإشارة إلى عدد من الإستنتاجات المهمة المنبثقة عما ورد آنفا من استعراض وتحليل في هذا الصدد:
- في اللحظة التي ستنسحب فيها إسرائيل من المنطقة بصورة أحادية الجانب، فإنه لن يكون لأحد سيطرة مباشرة على مسألة ملء الفراغ الناجم عن ذلك.
- إن محاصرة الفلسطينيين داخل غيتو افتراضي، وفصلهم عن مصادر الدخل والموارد المالية والحد من حرية تنقلهم، لن يشجع الاعتدال في الضفة الغربية، بل على العكس سيؤدي إلى المزيد من اليأس والتطرف.
- عوضا عن الفرصة - مهما تكن ضئيلة - لإيجاد شريك محتمل للتسوية، فإن إسرائيل ستواجه مجددا على حدودها عدوا أكثر تطرفا، يستحوذ على مستودعات الأسلحة الموجودة في حوزة السلطة الفلسطينية وحركة "حماس"، والتي يمكن بواسطتها ضرب قلب إسرائيل وإلحاق أضرار جسيمة بها، مما سيجبرها بالتالي على إعادة احتلال المناطق التي تخلت عنها بدون شروط.
- إن عودة الفلسطينيين إلى مائدة المفاوضات منوطة بظهور إسرائيل في مظهر الدولة الحازمة والقوية، وفي هذا السياق ينبغي أن يشكل وجود المستوطنات حافزا لمثل هذه العودة، وكذلك مصير "المناطق" التي أخذت تيارات "الاسلام الراديكالي" تبسط سيطرتها عليها.
- يجب أن يفهم ويتقبل الفلسطينيون حقيقة أن إسرائيل ليست قوة غزو واحتلال أجنبية لأرضهم، وإنما يدور الحديث عن شعب توجد له هنا، في هذه البلاد، جذور وتاريخ طويل يبرهن على ذلك.
- إن إدعاء أنصار الرؤية الأحادية الجانب بأن مثل هذا الإنسحاب يعني أن تأخذ إسرائيل مصيرها بيديها وأن تضع حدا لـ "الفيتو" الفلسطيني على حياة مواطنيها، إدعاءٌ لا أساس له، بل على العكس تماما. فعن طريق الصمود والثبات، عوضا عن الانهزامية والإنكفاء، يمكن لإسرائيل أن تتحكم بمصيرها، وأن تعزز أمنها وتحتفظ في الوقت ذاته بشكل كامل بالأوراق الوحيدة الموجودة في حوزتها من أجل التفاوض على مستقبلها.
- على الرغم مما خلفه الإنسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة في العام 2005 من شرخ عميق في صفوف المجتمع الإسرائيلي، وما ترتب عليه من اقتلاع لثمانية آلاف مستوطن إسرائيلي من بيوتهم وحقولهم، فإن الوضع فيما يتعلق بالضفة الغربية سيكون مختلفا تماما، مقارنة بما حصل في قطاع غزة، الذي لا تربط إسرائيل والإسرائيليون به أية رابطة عاطفية أو تاريخية. فالمنطقة المتنازع عليها في هذه الحالة (أراضي الضفة الغربية) محفورة عميقا في وعي كل يهودي، وليس فقط في وعي المستوطنين اليهود القاطنين هناك.
من هنا فإن أي انسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية والقدس الشرقية دون شروط، من شأنه أن يؤدي حتما إلى إحداث شرخ عميق وتمزق في صفوف المجتمع، وأن يشكل تهديدا للنظام الديمقراطي الإسرائيلي برمته.
إن الاعتقاد بأن مثل هذه الخطوة ستلقى قبولا وموافقة من جانب مئة ألف مستوطن، ومن ضمنهم مستوطنون بدوافع أيديولوجية، على ترك بيوتهم مقابل حوافز ما هو إلا أضغاث أحلام. هذا فضلا عما سينجم عن ذلك من معارضة في صفوف الجيش الإسرائيلي وتصدع في الوحدة الوطنية، الأمر الذي سيخدم في المحصلة الفلسطينيين، الذين يتطلعون إلى النيل من إسرائيل.
أخيرا فإن الفلسطينيين لن يتعاونوا مع واقع تستولي فيه إسرائيل بشكل أحادي الجانب على 20 بالمئة من منطقة تعود لهم، وفق رؤيتهم، حتى وإن كان الحديث يدور على خطوة مؤقتة. في الوقت ذاته فإن خطوط حدود ترسم بصورة أحادية الجانب لن تحظى بموافقة أو شرعية دولية.
_____________________________________
(*) من طاقم "المركز المقدسي للشؤون العامة وشؤون الدولة" (يميني). هذه المادة هي مقاطع واسعة من ورقة جديدة صادرة هذا الشهر (آذار 2017) عن المركز وتعكس وجهة نظره المشتقة من وجهة نظر اليمين الحاكم..