يتواصل باستمرار ودون أي توقف توسع وتوسيع المستوطنات بشتى أنواعها، بما فيها "القانونية" و"البؤر غير القانونية" على حد سواء، وهو ما يتطلب جهودا دائمة ومتواصلة للاستيلاء على المزيد والمزيد من الأراضي.
وتعتمد السلطات الإسرائيلية المختلفة أساليب وطرقا عديدة شتى للاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية، بدءا من بناء دور سكنية و"مبان عامة للجمهور" على أراض فلسطينية و"فرض وقائع ميدانية"، مرورا بالاستيلاء على أراض زراعية، تسييج مساحات منها، وضع مبان جاهزة (كرافانات) ثم شق وتعبيد شوارع، وانتهاء بإعلان مواقع أثرية ومحميات طبيعية، مصادرة أراض، الإعلان عن مساحات معينة بأنها "أراض عامة"، إعلان مساحات من الأراضي بأنها "مناطق نار" (تدريبات عسكرية) وغيرها الكثير.
ويقول تقرير "يش دين" إن أساليب الاستيلاء هذه يمكن تصنيفها في فئتين واسعتين تكمل إحداهما الأخرى، إلى حد كبير: الأولى، اقتحام أراض فلسطينية وغزوها من أجل استخدامها لأغراض واحتياجات إسرائيلية (استيطانية / احتلالية)؛ والثانية، منع الفلسطينيين من الدخول إلى هذه الأراضي، بغية منعهم من استخدامها لأغراضهم وحاجاتهم.
ومن الضروري الانتباه والتأكيد أن بعض هذه الأساليب التي تعتمدها إسرائيل في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية تشكل انتهاكا فظا، واضحا وصارخا للقانون الدولي، والإسرائيلي نفسه أحيانا. والحديث هنا، تحديدا، عن الحالات التي يتم فيها الاستيلاء على أراض لا خلاف وجدال، إطلاقا، على أنها أراض تعود ملكيتها لمواطنين فلسطينيين (سواء كانت أراض خاصة أو أراض عامة تشكل جزءا طبيعيا من المسطحات الطبيعية للقرى والبلدات الفلسطينية)، ورغم ذلك، تُقام عليها مبان مختلفة أو تُشق فيها طرق وشوارع، خلافا للقانون وبدون أية تصاريح، ودون أي تدخل ـ بل بغض نظر واضح ـ من جانب السلطات الرسمية المسؤولة عن فرض القوانين وتطبيقها.
ويستمد نوع آخر من أساليب الاستيلاء على الأراضي قوته وشرعيته من ممارسات وأساليب أكثر منظومية ومأسسة، بمعنى استخدامها من قبل أجهزة ومؤسسات سلطوية عليا. ومن خلال استخدام هذه الممارسات والأساليب، تقوم إسرائيل بتغيير تصنيف الأراضي في أنحاء الضفة الغربية وأهداف تخصيصها، كما تقوم بتغيير أشكال استخدام الأرض بغية تسهيل عملية مصادرتها (مصادرة حق الحيازة/ الملكية وحق الاستخدام) من أيدي أصحابها من المواطنين الفلسطينيين ووضعها في خدمة الأهداف والمصالح الإسرائيلية.
وهكذا، تقوم إسرائيل الرسمية، بأجهزتها ومؤسساتها البيروقراطية المختلفة، بنقل المزيد والمزيد من الأراضي الفلسطينية إلى أيد إسرائيلية ووضعها تحت سيطرة إسرائيلية، وذلك بواسطة إجراءات مختلفة يكفلها القانون الإسرائيلي، مثل إصدار "أوامر وضع اليد (الاستيلاء) لأغراض عسكرية"، الإعلان عن أراض بأنها "أراض عامة"، مصادرة أراض لأغراض عامة واستخدام أدوات تخطيطية مختلفة أخرى.
أما الهدف المركزي المراد تحقيقه من خلال هذه الوسائل والأساليب كلها، فهو واحد: تقليص قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى هذه الأراضي وقدرتهم على استخدامها! وهو ما يؤدي في نهاية الأمر، في الغالبية الساحقة من الحالات، إلى فقدان الفلسطيني صلته بالأرض وحيازته لها. وهكذا، يتم نقل المزيد والمزيد من الأراضي الفلسطينية إلى أيد إسرائيلية ووضعها في خدمة مصالح وغايات إسرائيلية، وفي مقدمتها مصالح واحتياجات المستوطنات و"البؤر" الاستيطانية المنتشرة في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية.
وعلاوة على عملية النهب الفاضح هذه، ثمة لعملية الاستيلاء الإسرائيلية المتواصلة على أراض في الضفة الغربية، سراً وعلانية، إسقاطات إضافية أخرى وخطيرة، نظرا لما تنطوي عليه من مس خطير بحرية الفلسطينيين في التنقل والحركة وبقدرتهم على كسب قوتهم من استخدام أراضيهم وفلاحتها، بل وتسلبهم صلتهم بالمكان، تاريخهم وثقافتهم الجماعية.
ويلفت التقرير إلى أن الدولة (الحكومة وسلطاتها المختلفة) تسارع، عادة، إلى تلبية الطلب الذي تتضمنه الالتماسات المقدمة إلى المحكمة العليا وذلك تجنبا منها لصدور قرار قضائي ملزم، يلزمها أيضا في حالات مستقبلية مماثلة. ذلك أن لقرارات المحكمة العليا مكانة قضائية ملزمة تشكل سابقة يتحتم على الدولة الالتزام بها والتصرف بموجبها في الحالات المماثلة مستقبلاً. وفي مثل هذه الحالات، التي يتم فيها تلبية الطلب العيني قبل صدور قرار حكم قضائي، يتحقق الطلب العيني فعلا، لكنه يظل إنجازا منقوصا تماما في الجانب المبدئي ولا يحول دون تكرار الإجراءات والممارسات ذاتها، بل أشد منها قسوة وتأثيرا، في المستقبل.
أما في الحالات التي تنتهي فيها الالتماسات بصدور قرارات حكم قضائية من المحكمة العليا، فتبرز بشكل واضح محاولات الدولة "التحاذق" وتأجيل التنفيذ، بل التهرب منه، بحجج وذرائع مختلفة.
واستمرار السيطرة الاحتلالية الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية، والتي دخلت عامها الـ 50 منذ فترة غير بعيدة، إلى جانب التوسع والتوسيع الدائمين والمتواصلين لمشروع الاستيطان الكولونيالي هناك، تستدعي بذل جهود حثيثة، دائمة ومتواصلة، لزيادة احتياطي مساحات الأراضي التي يمكن لإسرائيل استغلالها لأغراض البناء والتوسع الاستيطانيين، سواء في داخل المستوطنات ذاتها، أو في شق وتعبيد الشوارع، أو إنشاء البنى التحتية اللازمة ولتوفير الخدمات المطلوبة لمئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين المقيمين هناك.
وتعرض منظمة "يش دين" في "ورقة الموقف" هذه بعضا من الممارسات والأساليب التي استخدمتها السلطات الإسرائيلية، ولا تزال تستخدمها، من أجل الاستيلاء والسيطرة على المزيد والمزيد من الأراضي في الضفة الغربية، كما تعرض نتائج الإجراءات القضائية التي اتخذها مواطنون فلسطينيون، بمساعدة "يش دين" وتمثيلها، بغية التصدي لعملية نهب أراضيهم.
وتشكل محاربة "البناء غير القانوني" على الأراضي الفلسطينية العنصر المركزي في التجربة التي اكتسبتها منظمة "يش دين" من خلال عملها في هذا المجال خلال السنوات العشر الأخيرة. ويشكل البناء الاستيطاني على أراض فلسطينية خاصة، كما يبدو، الأسلوب الأكثر فظاظة في الاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي، نظرا لـ"عدم توفر أي مبرر، قانوني أو أخلاقي، لاستيلاء شخص ما على أملاك شخص آخر والتصرف بها واستخدامها لصالحه هو"، كما يؤكد التقرير. ورغم ذلك، ورغم الشكاوى العديدة التي قدمت إلى الشرطة (الإسرائيلية) بدعوى "تجاوز الحدود" والبناء على أراض خاصة، ورغم أن سلطات الدولة المختلفة على علم تام بعمليات البناء هذه، بل إصدارها أوامر مختلفة لوقف أمال البناء أو لأخلاء المباني التي تم تشييدها، إلا أن المواطنين الفلسطينيين يضطرون ـ وقد اضطروا تباعا ـ إلى التوجه بالتماسات قضائية إلى المحكمة العليا الإسرائيلية كي تتدخل هذه وتأمر بوقف أعمال البناء وبإخلاء ما تم إقامته ثم بإعادة الأراضي المسلوبة إلى أصحابها الشرعيين.
ومن اللافت هنا أن إسرائيل الرسمية لم تنف ولم تعارض، في أي يوم من الأيام، الادعاء بعدم قانونية الاستيلاء على أراض فلسطينية خاصة وعدم قانونية البناء (الاستيطاني) عليها، وهو ما تجسد بصورة واضحة في ردودها الرسمية المقدمة إلى المحكمة العليا بشأن التماسات الفلسطينيين المقدمة إلى هذه المحكمة. وهذا ما تؤكده حقيقة أن غالبية هذه الالتماسات (12 من أصل 18) انتهت بتلبية مطالب المواطنين الفلسطينيين، جزئيا أو بالكامل، فتمت إزالة الأبنية غير القانونية، سواء بأمر من المحكمة أو بمبادرة من الدولة!
وعلى الرغم من هذا، فإن النجاح القضائي الذي تحقق في إزالة بعض الأبنية المقامة على أراض فلسطينية خاصة لم يضمن دائما وفي جميع الحالات قدرة الفلسطينيين أصحاب الأراضي على التصرف بها وفق ما يريدون، بل تم وضع قيود عديدة تحد من قدرتهم على الدخول إلى أراضيهم واستخدامها بحرية. ففي الواقع القائم في الضفة الغربية، وبسبب السياسيات الإسرائيلية الرسمية، بقيت حقوق المواطنين الفلسطينيين منقوصة ومشروطة، إلى حد سلبها التام، في العديد من الحالات. وحتى في الحالات التي تمت فيها إزالة الأبنية "غير القانونية" من الأراضي الخاصة، بما يعني فتح الطريق أمام أصحابها الشرعيين للعودة إليها والعمل فيها، ظاهريا، سارعت السلطات الإسرائيلية إلى وضع العديد من العقبات والعراقيل أمامهم لتمنعهم من ممارسة حقوقهم، بل لتفرغها من مضمونها تماما.
في شهر كانون الثاني 2016، نشر مكتب المستشار القانوني للحكومة تقريراً خصصه لسبل معالجة ما أسماه "ظاهرة البناء غير المرخص في إسرائيل". وتضمن التقرير نقدا حادا ولاذعا لنهج شرعنة البناء غير القانوني بأثر رجعي: "في هذه الحالات، ثمة مس خطير بمبدأ سيادة القانون بشكل خاص، إذ أن الرسالة الموجهة إلى الجمهور الواسع من هذه الممارسة مفادها أن المعارضة العنيدة والمثابرة لمبدأ تطبيق القانون ولإجراءات فرضه ستعود، في نهاية المطاف، بفائدة كبيرة على من يتصرف خلافا للقوانين ويخرقها". وبينما يرى تقرير المستشار القانوني للحكومة أن شرعنة البناء غير القانوني في داخل إسرائيل هي "نهج سيء ينبغي اجتثاثه"، تعتمد إسرائيل في الضفة الغربية سياسة رسمية قوامها شرعنة البؤر الاستيطانية والبناء غير القانوني فيها بأثر رجعي.