رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية، يوم الخامس من تشرين الثاني الحالي، طلباً قدمته إليها "جمعية حقوق المواطن" في إسرائيل بإصدار أمر قضائي يلزم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، بالكشف عن عدد التصاريح التي أصدرها وخوّل بموجبها "الأجهزة الأمنية المختصة" (وخاصة "الشاباك") صلاحية التنصت السري "لدواعٍ أمنية"!
وبرفضها هذا الطلب، رفضت المحكمة العليا (بهيئة تكونت من ثلاث قاضيات: رئيسة المحكمة العليا، مريام ناؤور، عنات بارون وإستير حيوت)، عمليا، الاستئناف الذي تقدمت به إليها "جمعية حقوق المواطن" ضد قرار "محكمة الشؤون الإدارية" (المحكمة المركزية) في القدس، والتي كانت رفضت الطلب ذاته، أيضا، في شهر أيار من العام الماضي، 2014.
وتبنت هيئة المحكمة العليا، في قرارها هذا، موقف مكتب رئيس الحكومة القائل بأن "لا مكان لإلزام رئيس الحكومة بالكشف عن معلومات يحتفظ بها الشاباك، نيابة عنه"!
حق الجمهور في المعرفة والرقابة الجماهيرية
وكانت "جمعية حقوق المواطن"، واستنادا إلى نصوص وأحكام "قانون حرية المعلومات" (من العام 1998)، قد وجهت، بداية، في 3 أيار 2012، رسالة خاصة إلى مكتب رئيس الحكومة، القيّم على إصدار التصاريح بتنفيذ عمليات التنصت السري. وطلبت الجمعية، في تلك الرسالة، تزويدها بمعطيات رسمية حول عدد "تصاريح التنصت السري الأمنية" التي أصدرها مكتب رئيس الحكومة بموجب البند 4(أ) من "قانون التنصت السري" (من العام 1979) وذلك خلال خمس سنوات إلى الوراء، مع تحديد عددها في كل واحدة من تلك السنوات.
كما طلبت الجمعية، أيضا، تزويدها بمعلومات عن عدد "تصاريح التنصت السري الأمنية" التي استهدفت مواطنين إسرائيليين خلال السنوات الخمس السابقة، مع تحديد عددها في كل واحدة من تلك السنوات. وإضافة إلى ذلك، طلبت الجمعية في رسالتها، كذلك، تزويدها بالمعلومات المتعلقة بـ"الإجراءات، الأنظمة والتعليمات التي يستخدمها رئيس الحكومة في ممارسة صلاحيته القانونية بشأن إصدار تصاريح التنصت السري الأمنية، بما في ذلك المعايير الموجِّهة في ممارسة هذه الصلاحية".
ولفتت الجمعية، في رسالتها تلك، إلى حقيقة أن "قانون حرية المعلومات" يستثني "جهاز الأمن العام" (الشاباك)، المسؤول المباشر عن إجراء عمليات التنصت، متابعتها ومعالجة نتائجها، من الأذرع والهيئات السلطوية المختلفة التي يسري عليها هذا القانون ويلزمها بتقديم معلومات كافية حول أنشطتها، قراراتها وإجراءاتها، لكنها أضافت: "ومع ذلك، ونظرا لأن القانون يسري على مكتب رئيس الحكومة، أيضا، فلزام عليه إذن تزويد المعلومات اللازمة لتجنب المس بحق الجمهور في المعرفة"، علماً بأن مكتب رئيس الحكومة هو المسؤول المباشر، قانونيا، عن هذا الجهاز (الشاباك).
وأشارت الجمعية، أيضا، إلى أن معطيات كثيرة ووافية تُنشر في وسائل الإعلام (الإسرائيلية) المختلفة، سنويا، حول عدد "تصاريح التنصت السري الجنائية" (أي: التصاريح التي تسمح بالتنصت السري لدواع جنائية)، وهو ما يتيح للجمهور الواسع "ممارسة الرقابة (ولو كانت غير كافية) حول مدى استخدام هذه الوسيلة المؤذية والمسيئة". وخلافا لتصاريح التنصت السري بدواعٍ جنائية، التي تحتاج إلى أمر قضائي (تصدره محكمة)، يخوّل القانون رئيس الحكومة وحده صلاحية إصدار التصاريح لتنفيذ التنصت السري لدواع أمنية.
وأضافت الجمعية: "ونظرا لكون أعمال التنصت الأمني غير خاضعة للرقابة القضائية، فإن نشر المعطيات حولها، سوية مع المعايير المعتمدة لإجازتها وتنفيذها، هو أمر حيوي جدا لإتاحة رقابة جماهيرية على هذه الظاهرة ومدى انتشارها، ولو في الحد الأدنى"!
وبعد أكثر من عام كامل (!)، وفي يوم 6 حزيران 2013 تحديدا، ردّ مكتب رئيس الحكومة على رسالة جمعية حقوق المواطن هذه فرفض الاستجابة لطلبها متذرعاً بأن "المعطيات بشأن عدد تصاريح التنصت السري، الصادرة بموجب "قانون التنصت السري" ينبغي أن تظل سرّيّة"!
وقالت أييلت موشيه، المسؤولة عن تطبيق "قانون حرية المعلومات" في مكتب رئيس الحكومة، في رسالتها الجوابية إلى جمعية حقوق المواطن، إنه "بعد استيضاح الأمر مع جميع الجهات المعنية، موقفنا هو أن المعلومات المطلوبة من طرفكم يمكن أن تكشف معلومات سرية، مهام سرية، قدرات وطرق عمل سرية، أهلية عملياتية، وسائل ومصادر معلومات سرية ـ وهذه، جميعها، محظور نشرها بموجب "قانون جهاز الأمن العام" (الشاباك) وأنظمة عمل الجهاز، نظرا لما ينطوي عليه كشفها من احتمال المس بأمن الدولة"!
وادعت مندوبة مكتب رئيس الحكومة، في رسالتها الجوابية، بأن "هنالك أجهزة رقابة خاصة على إصدار هذه التصاريح، من خلال واجب تقديم تقارير عنها إلى كل من المستشار القانوني للحكومة (مرة كل ثلاثة أشهر) واللجنة المشتركة للجنتي القانون، الدستور والقضاء والأمن الخارجية التابعتين للكنيست (مرة كل سنة)"! ورأت مندوبة مكتب رئيس الحكومة أن حقيقة كون جلسات هذه اللجنة المشتركة سرّيّة "تعني أن المشرّع قد اعتبر عدد التصاريح معلومة سرّيّة"!
مكتب رئيس الحكومة لا يبحث طلبات "الشاباك" ولا يراقبها!
وفي أعقاب رسالة مكتب رئيس الحكومية الجوابية هذه، وما تضمنته من رفض الاستجابة لطلب جمعية حقوق المواطن، تقدمت الجمعية، في أيلول 2013، بالتماس إلى "محكمة الشؤون الإدارية" (المحكمة المركزية) في القدس التي أصدرت قرارها يوم 19 أيار 2014 ورفضت فيه الالتماس.
لكن الموقف الذي عرضته الدولة (مكتب رئيس الحكومة) خلال المداولات القضائية في محكمة القدس كشف عن جوانب مثيرة جدا في نوعية العلاقة ما بين مكتب رئيس الحكومة، من جهة، وجهاز "الشاباك" من جهة أخرى، وخاصة ما يتعلق بالتصاريح لتنفيذ التنصت السري "بدواع أمنية".
ففي الرد على الالتماس، الذي قدمته النيابة العامة للدولة إلى المحكمة وشمل نقضا واضحا لبعض ما جاء في رسالة مكتب رئيس الحكومة إلى الجمعية، قالت (النيابة العامة) إن "مكتب رئيس الحكومة لا يرى نفسه هيئة رقابة على الطلبات التي يقدمها جهاز الشاباك (لاستصدار تصاريح التنصت بدواع أمنية)، وإنما جزءاً من الجهاز نفسه"! وتبين من رد النيابة العامة أن "مكتب رئيس الحكومة لا يبحث طلبات الشاباك قبل المصادقة عليها" (أي: يصدر التصاريح المطلوبة من قبل هذا الجهاز، بصورة أوتوماتيكية ودون أي فحص أو بحث!) وأنه "ليست هنالك أية متابعة للأمر بعد إصدار التصاريح ولا لنتائج التحقيقات أيضا"!
وأضاف رد النيابة العامة إلى المحكمة أن "المواد المتعلقة بالتصاريح الصادرة لا تبقى في مكتب رئيس الحكومة بصورة دائمة" (!) ثم شرح الطريقة الإجرائية التي يتم بها تقديم طلبات الشاباك وإصدار التصاريح المطلوبة: "عملية إصدار التصاريح تشمل تقديم جهاز الأمن العام طلبا مُعـَلـَّلا لاستصدار التصريح. يتم تحويل هذا الطلب إلى السكرتارية العسكرية (في مكتب رئيس الحكومة) التي تعرض الطلب أمام رئيس الحكومة، لاتخاذ قرار بشأنه. وبعد اتخاذ القرار، تتم إعادة المواد إلى جهاز الأمن العام دون الاحتفاظ بنسخة عنه في مكتب رئيس الحكومة"!
ويبدو أن رد النيابة العامة هذا كان يقصد القول إن المعلومات التي طلبت جمعية حقوق المواطن الحصول عليها ليست متوفرة لدى مكتب رئيس الحكومة، بل لدى جهاز الشاباك (وحده)، وهذا الجهاز لا تسري عليه أحكام "قانون حرية المعلومات"! ومن ضمن هذه المعلومات، التي يحتفظ بها جهاز الشاباك بصورة حصرية، كما قالت النيابة العامة للدولة: المعلومات العددية بشأن الطلبات التي تمت المصادقة عليها وبشأن التصاريح التي تم إصدارها.
وخلافا لما قالته المسؤولة عن تطبيق "قانون حرية المعلومات" في مكتب رئيس الحكومة، في رسالتها الجوابية إلى الجمعية، قالت النيابة العامة للدولة إن التقارير المقدمة إلى المستشار القانوني للحكومة (كل ثلاثة أشهر) وإلى اللجنة البرلمانية المشتركة (مرة واحدة كل سنة) "لا تصدر عن مكتب رئيس الحكومة، وإنما تقدم مباشرة من جهاز الشاباك، بصفته ذراع رئيس الحكومة الطويلة"!
وتعقيبا على هذا الرد، قالت جمعية حقوق المواطن، أمام المحكمة المركزية، إن القانون خوّل رئيس الحكومة، شخصيا، صلاحية التصريح بتنفيذ التنصت السري بدواع أمنية، ونظرا لذلك ولكون القرار بهذا الشأن "قرارا شخصيا يصدر عن رئيس الحكومة"، فمن المفترض أن تكون المعلومات بشأنه "متوفرة لدى مكتب رئيس الحكومة"، خلافاً لادعاء النيابة العامة بهذا الشأن.
لكن قاضي المحكمة المركزية في القدس، موشيه سوبول، اختار تبني موقف النيابة العامة للدولة وقرر أن "المعلومات المطلوبة مستثناة من أحكام قانون حرية المعلومات"! مضيفا أنه "لا خلاف حول كون المعلومات المطلوبة (من جانب جمعية حقوق المواطن) محفوظة لدى جهاز الشاباك وحده فقط... والحديث هنا لا يجري عن معلومات تجمعت لدى الشاباك ثم خضعت لمعالجة طرف آخر تسري عليه أحكام قانون حرية المعلومات، وإنما عن معلومات متوفرة، كلها، لدى جهاز الشاباك وحده، بصورة حصرية"!! وتأسيسا على هذا، توصل القاضي إلى القول إنه "لا يمكن ممارسة رقابة قضائية (مباشرة أو غير مباشرة) على قرار رئيس الحكومة بشأن مكان الاحتفاظ بهذه المعلومات قيد البحث (أي، لدى الشاباك وليس لدى مكتب رئيس الحكومة)"!! فقرر رفض التماس الجمعية.
الالتفاف على القانون...جائز في حالات ومحظور في أخرى!
وعلى قرار محكمة الشؤون الإدارية في القدس هذا، تقدمت جمعية حقوق المواطن باستئناف إلى المحكمة العليا، التي رفضت الاستئناف بدورها هي أيضا، كما أشرنا أعلاه.
وسوّغت المحكمة العليا قرارها هذا بالقول إنه "بالإمكان قبول موقف رئيس الحكومة في الموضوع"، نظرا لأن الحديث هنا عن "معلومات أمنية في جوهرها، ليست غريبة عن مجالات عمل جهاز الشاباك وأنشطته، ولا يمكن القول إن الاحتفاظ بهذه المعلومات لدى الشاباك يتم لاعتبارات تتعلق بقانون حرية المعلومات"، بمعنى أن اختيار الاحتفاظ بهذه المعلومات لدى الشاباك حصريا لا يقصد التهرب من أحكام واستحقاقات "قانون حرية التعبير"، طبقا لرأي قاضيات المحكمة العليا الثلاث!!
ويبدو أن القاضية التي كتبت قرار الحكم، عنات بارون، تنبهت إلى الباب الواسع الذي يشرّعه هذا الرأي أمام هيئات وأذرع سلطوية مختلفة للتهرب من واجبها بكشف المعلومات طبقا لقانون حرية المعلومات، فأردفت على الفور، توضيحاً: "قراري هذا لا يعني أنه في جميع الحالات التي تتجمع فيها معلومات لدى جسم لا يستثنيه قانون حرية المعلومات، لكنها تكون محفوظة فعليا لدى جسم يستثنيه هذا القانون، يمكن عدم كشف هذه المعلومات"! في تنبيه صريح إلى احتمال لجوء هيئات سلطوية إلى "تخزين" معلومات في أماكن "محمية" (يستثنيها القانون من واجب الكشف عن معلوماتها) بغية التهرب من ضرورة كشفها.
وفي الخلاصة، يمكن القول إن المحكمة العليا، بقرارها هذا، أقرت بجواز ما يصحّ اعتباره التفافا واضحا وصريحا على "قانون حرية المعلومات" وأحكامه من طرف هيئات وأذرع حكومية معينة، بينما نبّهت إلى حظر هذا "الالتفاف" من جانب هيئات وأذرع سلطوية أخرى.
ورأت "لجنة حقوق المواطن" أن قرار المحكمة العليا هذا "يتيح لرئيس الحكومة التملص من واجب الشفافية بتبرير تقني ومتحاذق ويمنع تزويد الجمهور بمعلومات حيوية حول مدى عمليات التنصت السري التي يتعرضون لها"، مؤكدة أن التنصت السري "يشكل مساً فظاً وخطيرا بحقوق الفرد".
كما حذرت الجمعية من "تخلي رئيس الحكومة عن واجبه في مراقبة ولجم عمليات التنصت السري التي ينفذها جهاز الشاباك"، إذ أن الواقع القائم، كما تبين خلال المداولات القضائية، "لا يتيح وجود أية رقابة حقيقية على عمليات التنصت السري، بما يشكل مساً خطيرا بخصوصية المواطنين".