المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 3913

تزايد في الآونة الأخيرة الكشف عن قضايا فساد كان مسؤولون سياسيون في إسرائيل ضالعين فيها.

وطاول الأمر، ضمن من طاول، رئيس الدولة الأسبق موشيه كتساف ورئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت وغيرهما.

ووصلت فضائح الفساد حدًّا غير مسبوق، يمكن القول دون خشية الوقوع في المبالغة إنها أصبحت تشكل ظاهرة. وتكاد لا تخلو وسيلة إعلام إسرائيلية، مؤخرًا، من تقارير حول فضائح فساد سلطوية.

وقال رئيس "الحركة من أجل نزاهة الحكم في إسرائيل"، المحامي إلعاد شراغا، في معرض تعقيبه على ذلك، إن ظاهرة الفساد في إسرائيل أصبحت مقلقة جدًا، حتى أنها تهدّد استقرار الحكومات الإسرائيلية.

ويرى أكثر من خبير أن هذه الظاهرة تعكس، من باب أوليّ، التغيرات التي خضعت لها إسرائيل على مدار سنواتها القليلة. ومن هذه التغيرات أنّ المجتمع الإسرائيلي كله أصبح ماديًّا أكثر من قبل. وتنتج عن هذه النزعات الماديّة فوارق اجتماعية بين الشرائح القوية والضعيفة لا يمكن احتمالها. كما ترافق سيرورة من هذا النوع عملية فساد في القيم والأخلاق لم يعد خافيًا أنها أصبحت واجهة المجتمع الإسرائيلي، وهذه الحال لم تكن هي السائدة في الماضي.

عدا ذلك فإن جهاز فرض القانون في إسرائيل ضعف كثيرًا. ويشمل الحديث في هذا الشأن كلاً من الشرطة والنيابة العامة والمستشار القانوني للحكومة وحتى جهاز المحاكم. وحصل ذلك، ضمن أسباب أخرى، لأن الحكومة الإسرائيلية ذاتها ترغب في أن تكون هذه الأجهزة ضعيفة، وأيضا لأنه لا يتمّ رصد الميزانيات الكافية، وكذلك لأن أفراد الشرطة بدلا من الانشغال بمحاربة الفساد والجريمة ينشغلون أكثر بـ"الشؤون الأمنية الجارية". وعندما يكون هناك جهاز ضعيف لفرض القانون، وعندما تتغيّر القاعدة الأخلاقية، فإن ما يحدث هو تفجّر الفساد، كما هو حاصل في إسرائيل اليوم.

وليس سرًّا أنّه عندما يتم التحقيق مع رئيس الحكومة أو في قضايا فساد مشتبه رئيس الحكومة بالضلوع فيها، وعندما يتم التحقيق مع عدد من الوزراء، فإنّ كل هذا يهدّد استقرار الحكومة. وإذا ما تقرّر تقديم لائحة اتهام ضد رئيس حكومة فإنه لن تكون هناك حكومة أكثر، لأنّ التوقع هو أن يتمّ حلها فور ذلك.

وقبل عدة أعوام أنهى القاضي أهارون باراك دورة رئاسته للمحكمة الإسرائيلية العليا، التي ينظر إليها الإسرائيليون، بغالبيتهم الساحقة، باعتبارها "فخر الديمقراطية ونزاهة الحكم" في إسرائيل. وبمحاذاة ذلك جرى التركيز على أن الدرس الرئيس في ما يمكن تسميته بـ"إرث باراك" هو الحزم في تقصّي واستنفاد مسؤولية كبار الشخصيات والمسؤولين، سواء إزاء مخالفات جنائية، أو شوائب أخلاقية أو بسبب تقصيرات وإخفاقات. وقد وجد هذا الأمر تعبيراً له، مثالاً لا حصرًا، في إصرار باراك- عندما كان في منصب المستشار القانوني للحكومة- على تقديم شخصيات رفيعة إلى محاكمة جنائية حتى إذا كان الأمر سيفضي إلى سقوط الحكومة (كما حدث بالفعل في "الانقلاب السياسي" الأول العام 1977، بعد أن تمّ تقديم رئيس الحكومة آنذاك إسحق رابين إلى المحاكمة بتهمة إدارة حساب بنكي، سريّ، في أحد بنوك سويسرا).

وقد تجلّى هذا التوجه في سلسلة قرارات وأحكام باراك كقاضٍ، تلك الأحكام التي قضى وأكد فيها أن على كبار الشخصيات في الزعامة أو القيادة الرسمية، بمن في ذلك السياسيون، التخلي عن مناصبهم بسبب شائبة أخلاقية، حتى وإن كانت هذه غير قابلة للإثبات في المحكمة، وذلك على اعتبار أن هؤلاء لم يعودوا مؤهلين لتجسيد "الاستقامة والنزاهة".

وقد عبّر ذلك عن نفسه عندما أكد باراك (مع رئيس المحكمة العليا في حينه، إسحق كاهان، في تقرير لجنة التحقيق الرسمية في مذابح صبرا وشاتيلا) على وجوب إقالة وإقصاء شخصيات، وبضمن ذلك مسؤولون في المستوى السياسي، إذا أخفقوا في قراراتهم وأدائهم. لم يقبل باراك الإدعاء أو الطرح القائل بأنه لا يجوز إقصاء منتخبين من قبل الجمهور بدعوى أن هذا الامتياز أو الحق يعود للناخبين فقط. وقد أعلن باراك قائلاً: "إن حكم الجمهور ليس بديلاً من حكم القضاء".

غير أنّ التنكر لهذا "الإرث القيمي" بات واضحاً وجلياً الآن.

وبرز هذا التنكر بشكل خاص في قضية رئيس الدولة الأسبق، موشيه كتساف، الذي ظل متشبثاً بمنصبه الرفيع رغم توفر أدلة وإفادات حول ارتكابه لمخالفات جنسية خطيرة، ورغم إعلان المستشار القانوني للحكومة أن الانطباع الذي كونه من إطلاعه على مجريات التحقيق معه يُشير إلى أن تلك الإفادات ليست محض افتراء.

وهكذا فقد كتساف قدرته على تجسيد الاستقامة والنزاهة، غير أنه شخصياً وكذلك الكنيست- المخوّل بإقصائه عن منصبه- لم يستخلصا العبرة المطلوبة من إرث باراك.

هذا الأمر انطبق أيضاً على سلوك القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية التي أخفقت في حرب لبنان الثانية. صحيح أن رئيس الحكومة صرّح بأنه يتحمل كامل المسؤولية عن الإخفاقات والتقصيرات، وأنه لن يشرك أحداً في تحمل هذه المسؤولية. غير أنه، كما هو معلوم، لم يستخلص أي استنتاج شخصي من تحمله لهذه المسؤولية، بل عمل على عرقلة وإحباط استنفادها (سواء تجاه نفسه أو تجاه الآخرين) برفضه إقامة لجنة تحقيق رسمية موثوق بها ذات "أسنان عاضّة" أو صلاحيات. وذهب رئيس الحكومة (أولمرت) أبعد من ذلك بادعائه أنه لو استخلص العبر وقدم استقالته لكان قد تنصل بذلك من مسؤوليته!

من هنا فإن رفض إقامة لجنة تحقيق رسمية- كان يمكن أن يترأسها القاضي المتقاعد أهارون باراك- يبدو بمثابة "إحباط موضعي" أو "اغتيال" فعلي لإرث هذا الأخير.

يؤكد الخبير القانوني الإسرائيلي موشيه نغبي أنه ليس مفاجئاً البتة، وربما ليس صدفة أيضاً، أنه لا يوجد في اللغة العبرية مصطلح قصير، مصيب وملائم لكلمة Accountability (القابلية للمحاسبة). غير أنه ثبت هذه المرة أن ثمن عدم استنفاد المسؤولية الشخصية قد يكون خطرًا وجوديًا، وأن استنفاد المسؤولية أمر حيوي، ليس فقط من أجل "معاقبة" المسؤولين و/ أو ردع آخرين عن ارتكاب أخطاء مماثلة، وإنما أيضاً من أجل الحيلولة دون استمرار المسؤولين أنفسهم في التسبب بكوارث ومآس.

وقبل هذا الخبير رأت عضو الكنيست شيلي يحيموفيتش أن إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من أن تكون "دولة تسيطر عليها الميزتان الأبرز لجمهورية الموز"، وهما: المستوى المتردي لنزاهة الحكم، والفجوات الهائلة بين الفقراء والأغنياء.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات