من الواضح، تماماً، أن القرار القضائي "الدراماتيكي" و"التاريخي"ـ حسبما وصفته أوساط سياسية وإعلامية مختلفةـ الذي اتخذته "محكمة العدل العليا " الإسرائيلية الأسبوع الماضي (يوم 25 حزيران الماضي)، لن يغلق الباب بصورة نهائية على مسألة تجنيد الشبان اليهود الحريديم وإلزامهم بتأدية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي ولن يضع حداً نهائياً للخلافات والصراعات التي تثيرها هذه المسألة في المجتمع الإسرائيلي، اليهودي، على المستويات كافة: السياسي ـ الحزبي، الاجتماعي، الاقتصادي والقضائي.
فمن المعروف أن مسألة تجنيد الشبان الحريديم للجيش (تحت عنوان كبير: "واجب التجنيد لكل المواطنين") ترافق دولة إسرائيل منذ إقامتها. وقد كانت بدايتها بقرار رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول، دافيد بن غوريون، في العام 1949، إعفاء 400 شاب من الحريديم طلاب المدارس الدينية من واجب التجنيد للجيش وتأدية الخدمة العسكرية "ما داموا مشغولين بدراسة التوراة فقط"! وكان هدف بن غوريون الأساسي من ذلك القرار، الذي توصل إليه بالاتفاق مع قيادة الحريديم آنذاك، المحافظة على "جمرة تعلم التوراة بين المجموعات اليهودية التي كادت أن تُباد إبّان الهولوكوست"، كما ورد في وثائق ذلك القرار. غير أن أعداد هؤلاء الطلاب في سن التجنيد الإجباري للجيش، ولكن المعفيين منه، ظلت تزداد سنوياً باستمرار حتى وصل عددهم في حزيران العام الماضي، 2023، إلى نحو 63,000 طالب، وفقاً للإحصائيات الرسمية. وقد كان ازدياد هذا العدد بشكل مستمر، بما لا يتناسب مع نسبة الحريديم من بين مجموع السكان في إسرائيل (حوالي 14 بالمئة)، السبب المركزي في إعادة وضع هذه المسألة على جدول الأعمال العام في إسرائيل، وسط خلافات حادة بين مؤيدي تجنيدهم ومعارضيه. ثم استعر النقاش حول الموضوع وبلغت حدته ذرى غير مسبوقة على خلفية استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ ما يزيد عن تسعة أشهر متتالية، وما خلّفته حتى الآن من خسائر بشرية فادحة في صفوف الجنود والضباط (نحو 30,000 بين قتيل وجريح لم يعودوا قادرين على مواصلة الخدمة العسكرية)، من جهة، وحيال تصاعد احتمالات نشوب حرب أخرى، على الحدود الإسرائيلية ـ اللبنانية، بين إسرائيل وحزب الله، من جهة أخرى. ذلك أن استمرار الحرب في الحدود الإسرائيلية الجنوبية وخطر اندلاع حرب إضافية في حدودها الشمالية يضعان الجيش الإسرائيلي وقواه البشرية في مأزق جدي وعميق يصبح، إزاءه، في أمسّ الحاجة إلى رفد وحداته المختلفة بعناصر بشرية "جديدة" وغير منهكة تماماً.
رسالة شديدة الحدّة والوضوح
في قرارها القضائي، قبلت "محكمة العدل العليا" عملياً جميع الالتماسات التي قُدّمت إليها ضد قرارات وإجراءات حكومية في مسألة إعفاء الشبان الحريديم من تأدية الخدمة العسكرية، وأقرت أن الحكومة لا تستطيع إعفاء هؤلاء الشبان من الخدمة في الجيش وأنها لا تستطيع، كذلك، تمويل مدارس دينية يهودية لم يحصل طلابها على مثل هذا الإعفاء. وأوضحت المحكمة أنه في ظل عدم وجود قانون ينظم مسألة تجنيد الشبان الحريديم طلاب المدارس الدينية لتأدية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، فإن أحكام "قانون الخدمة الأمنية" للعام 1986 تسري على كل من يكون الجيش معنياً بتجنيده، ما يعني "إلزامّية تجنيد جميع أبناء الـ 18 عاماً من اليهود والدروز المُلزَمين بالتجنيد قانونياً، إلى جانب أفراد آخرين يبدون استعداداً للتجند".
تنبغي الإشارة هنا إلى أن القرار صدر بإجماع تام من جانب هيئة المحكمة المؤلفة من تسعة قضاة، وامتد على 42 صفحة فقط، لأن أياً من القضاة الثمانية الآخرين لم يكتب ولو كلمة اعتراض أو إضافة واحدة على نص القرار الذي كتبه رئيس المحكمة العليا بالوكالة، عوزي فوغلمان. وتشكل هذه حالة نادرة جداً في هذه المحكمة ـ أن يكون نص القرار مقبولاً، كلمة كلمة، على هذا العدد من القضاة. ومن هنا، يمكن اعتبار ذلك بمثابة رسالة شديدة الحدة والوضوح أرادت المحكمة توجيهها إلى الحكومة الإسرائيلية مفادها ما يلي: الحكومة، أيضاً، تخضع للقانون والقانون يسري عليها، ليس بإمكانها التصرف بما يخالف القانون ولا اتخاذ قرارات تناقض القانون حين يكون الأمر مناسباً/ نافعاً لها من الناحية السياسية ـ الحزبية. وعليه، فإن قرارات الحكومة المُتخّذة خلافاً للقانون لاغية ولا صلاحية لها. وهو ما يندرج، عملياً، في إطار محاولات هذه المحكمة التصدي لبرنامج "الإصلاح القضائي" الذي طرحته هذه الحكومة بعد فترة وجيزة من بدء دورتها الحالية.
أما القرار العيني الذي قصدته المحكمة في قرارها فهو الذي أصدرته الحكومة في أواخر حزيران 2023 وألزمت فيه الحكومة الجيش الإسرائيلي بعدم تجنيد الشبان الحريديم لتأدية الخدمة العسكرية في صفوفه. وقد اضطرت الحكومة إلى اتخاذ ذلك القرار لدى انتهاء فترة سريان قانون إعفاء الشبان الحريديم من الخدمة العسكرية، في مطلع تموز 2023. وكانت المحكمة العليا أصدرت في العام 2017 قراراً قضائياً أمرت فيه بإلغاء القانونين اللذين أتاحا آنذاك إعفاء الشبان الحريديم من واجب تأدية الخدمة العسكرية. ومنذ ذلك الحين، أعطت المحكمة الكنيست الإسرائيلي سلسلة من المُهَل لسن قانون جديد لهذا الغرض كان آخرها حتى نهاية حزيران 2023.
في الشق الثاني من قرارها، أمرت المحكمة الحكومة الإسرائيلية بالتوقف عن تحويل أموال الدعم إلى المدارس الدينية التي يدرس فيها الطلاب الحريديم الذين لا يتجندون في الجيش. وأوضحت المحكمة إن هذه الأموال غير قانونية لأنه ابتداء من 1 نيسان 2024، مع انتهاء مفعول القرار الحكومي بهذا الشأن، لم يعد هنالك أي إطار قانوني يسمح بإعفاء هؤلاء الشبان من واجب الخدمة العسكرية، كما كانت الحال في السابق. وفي ضوء ذلك، أمرت المحكمة المؤسسات الدينية الحريدية التي تلقت أموال الدعم هذه بعد التاريخ المذكور بإعادتها إلى خزينة الدولة.
وأشار قضاة المحكمة العليا في قرارهم إلى "الوضع الاستثنائي" الناشئ في واقع الحرب المستمرة في قطاع غزة منذ ما يزيد عن تسعة أشهر مؤكدين أنه "في ذروة حرب قاسية، يُصبح ثِقَل انعدام المساواة في تحمّل العبء أكبر بكثير من أي وقت آخر وهو أمر يستوجب حلاً فورياً ودائماً". وأضافوا: "إن التمييز في أغلى ما يملكه الإنسان ـ الحياة بذاتها ـ هو الأقسى من بين أنواع التمييز كافة. فالإنسان مستعد لوهب حياته دفاعاً عن وطنه بدون أن ينتظر أي مقابل لذلك. لكنه ينتظر فقط أن يتصرف الآخرون مثله". وأكدوا: "التطبيق الانتقائي للقانون هو أمر مرفوض وهو يمثّل مساً حاداً بسلطة القانون وبمبدأ مساواة جميع الأفراد أمام القانون".
وخلاصة القول في هذا السياق أن المحكمة العليا توصلت إلى قرارها القضائي هذا وما تضمنه من خلاصات عملية وأوامر قضائية بالارتكاز على مبدأين قانونيين مركزيين: المبدأ الأول ـ "قانونية الإدارة (العامة)"، القائل إن السلطة (أي واحدة من السلطات وأي من أذرعها) ليست مخوّلة صلاحية القيام بأي عمل (قرار أو إجراء) إلا إذا كانت هذه الصلاحية قد وردت في نص قانوني صريح، أو استناداً إليه. وكل ما لم يُسمح به بنص قانوني ـ يُحظَر على السلطة القيام به. وإذا ما حصل هذا، فعندئذ تكون السلطة قد تصرفت بدون صلاحية وبدون تخويل قانوني صريح، أي أنها تجاوزت صلاحياتها. والنتيجة أن ما قامت به السلطة هنا (قرار أو إجراء) هو عمل غير قانوني وحُكمُه الإلغاء. المبدأ الثاني ـ "المساواة"، القائل إن الجميع متساوون أمام القانون، ثم عززته المحكمة العليا بتفسيرها لـ "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" حين أدرجت "المساواة" في قائمة حقوق الإنسان الأساسية التي لا يمكن المس بها، إلا بنص قانوني صريح يلبي شروط "فقرة التغلب" التي يشكل إلغاؤها أحد البنود الأساسية في "برنامج الإصلاح القضائي" الذي طرحته الحكومة الحالية ولا تزال تُصارع من أجل تطبيقه.
مآلات الإعفاء/ التجنيد والتداعيات السياسية ـ الحزبية
يظل السؤال المركّب التالي مركزياً، مطروحاً بكل حدته ويشكل إحدى القضايا الأساسية التي ستشغل الساحة السياسية ـ الحزبية الإسرائيلية في قادم الأيام، القريبة والبعيدة على حد سواء: كيف سيتعامل المجتمع الحريدي وأحزابه السياسية مع هذا القرار القضائي "الدراماتيكي" وكيف ستحاول هذه كسر "هذا الكأس" وتجنب شربه، من جهة، وكيف ستكون ردة فعل الأحزاب الداعية إلى إلغاء الإعفاء وإلزام الحريديم بالتجنيد على خطوات الحريديم وأحزابهم السياسية وكيف ستكون تداعيات ذلك كله على الخارطة السياسية ـ الحزبية وعلى خارطة التحالفات المستقبلية والتشكيلات الائتلافية ـ الحكومية القادمة، من جهة ثانية، وكيف سيؤثر هذا القرار وردود أفعال الأطراف المعنية به مباشرة على مستقبل الحكومة الإسرائيلية الحالية، من جهة ثالثة؟. هذا، مع الأخذ في الاعتبار ما ظهر حتى الآن من أن الأحزاب الحريدية لن تسارع، على الأرجح، إلى الاحتجاج على هذا القرار بالانسحاب الفوري من الائتلاف الحكومي الحالي، لاعتبارات وحسابات مختلفة، لكنها ستسعى على الفور إلى تجاوز هذا القرار بطرق سياسية ـ برلمانية.
فور صدور قرار المحكمة العليا، أصدرت المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف- ميارا، تعليماتها إلى الجيش بالشروع في العمل على تجنيد 3,000 شاب حريدي بصورة فورية ثم تقديم خطة متكاملة لزيادة هذا العدد بصورة تدريجية. كما أصدرت بهراف- ميارا توجيهاتها إلى جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية بالامتناع الفوري عن تحويل أي مبالغ من أموال الدعم الحكومية للمدارس الدينية الحريدية التي لا يخدم طلابها في الجيش.
في الأثناء، لا يزال مشروع القانون الجديد لإعفاء الشبان الحريديم من واجب تأدية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي مطروحاً على طاولة لجنة شؤون الخارجية والأمن التابعة للكنيست بغية إعداده للتصويت عليه وإقراره في الهيئة العامة للكنيست بالقراءتين الأخيرتين، الثانية والثالثة، بعد إقراره بالقراءة الأولى في الكنيست السابق، الـ 24، قبل أن يعتمد هذا، في 30 حزيران 2022، قانوناً لحلّ نفسه والذهاب إلى انتخابات برلمانية عامة، وبعد أن أقرّت الهيئة العامة للكنيست، يوم 11 حزيران المنتهي، تطبيق "مبدأ الاستمرارية" على مشروع القانون الأمر الذي أرسى الأساس القانوني لاستئناف المداولات فيه من النقطة التي توقفت عندها في الكنيست السابق. و"مبدأ الاستمرارية" هذا هو إجراء قانوني منصوص عليه في قانون خاص من العام 1993 هدفه تقصير وتنجيع الإجراءات التشريعية، من خلال منح الكنيست الجديد استكمال تشريع مقترحات قوانين من الكنيست السابق، من النقطة التي وصلت إليها في المسار التشريعي.
في هذا السياق، من المهم الالتفات إلى اثنين من التعقيبات التي صدرت على قرار المحكمة العليا الأخير: الأول ـ تعقيب رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي قال إنه "من المستهجن أن المحكمة العليا التي امتنعت طوال 76 سنة عن فرض تجنيد الطلاب الحريديم بقرار قضائي، تسارع إلى فعل ذلك الآن بالذات عشية إتمام قانون التجنيد التاريخي الذي نعمل على تشريعه". وأضاف: "قرار المحكمة العليا سيكون ذا قيمة وفاعلية لفترة قصيرة فقط، إلى حين الانتهاء من سن القانون الذي أعدته الحكومة". والثاني ـ تعقيب رئيس لجنة الخارجية والأمن البرلمانية، عضو الكنيست يولي إدلشتاين (الليكود)، الذي قال إن "القول إننا سنجنّد الجميع غداً هو مجرد وهم وخداع". وأضاف: "ليس لديّ 61 إصبعاً في الكنيست ولن أعقد صفقات سياسية. فليصوّت كل حسب ما يملي عليه ضميره، وليس حسب ما تمليه كتلته أو الائتلاف". وأوضح إدلشتاين أنه لن يواصل البحث في مشروع القانون الجديد في لجنته البرلمانية لإعداده للقراءتين الثانية والثالثة طالما لم تتوفر له أغلبية متوافقة تؤيده في الهيئة العامة للكنيست (أي 61 عضواً).
لكن حتى لو نجح الائتلاف الحكومي الحالي بإنهاء عملية تشريع هذا القانون الجديد، فمن المرجح جداً أن التماسات جديدة سوف تُقدم إلى "محكمة العدل العليا" للمطالبة بإلغائه، وبذا تبقى مسألة تجنيد/ إعفاء الشبان اليهود الحريديم مطروحة على الطاولة بكل حدّتها وخطورتها على نسيج المجتمع الإسرائيلي وعلى التوازنات والتحالفات السياسية ـ الحزبية، الحكومية، في المستقبل القريب.
المصطلحات المستخدمة:
لجنة الخارجية والأمن, عوزي, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو