لا يكاد يمر يوم واحد، تقريباً، من دون أن تنشر وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة ومعاهد الأبحاث المتخصصة في قضايا الأمن، الاستراتيجيا والسياسات الخارجية تحليلات، دراسات وتقييمات حول ما وصلت إليه العلاقات الإسرائيلية ـ الروسية وما يمكن أن تتطور إليه مستقبلاً من مآلات وانعكاسات ذلك كله، بأبعاده المختلفة، على وضع إسرائيل الجيوـ استراتيجي إقليمياً وعالمياً وما يوجبه ذلك، بالتالي، من خطوات وإجراءات فعلية ينبغي على إسرائيل اتخاذها الآن أو في المستقبل المنظور. ولا تبخل الكثير من هذه الأبحاث والتحليلات والدراسات بتقديم توصيات تُطالب الحكومة الإسرائيلية، في حالة من شبه الإجماع، بالتوقف عن سياسة "ضبط النفس" حيال روسيا والانتقال إلى اتخاذ خطوات عملية للردّ على ما تسميه "العِداء الروسي" الذي كان قد بدأ يظهر في السياسات الروسية الخارجية خلال السنوات الأخيرة ثم صار يُترجَم فعلياً بصورة واضحة مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، لكنه تصاعد واستفحل "بصورة مقلقة"، كما تصفه معاهد الأبحاث والأوساط السياسية إياها، في الفترة الأخيرة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بوجه خاص.
ويلفت أصحاب التوصيات والمُطالَبات إلى أنّ "العدِاء الروسي" يتجسد في ممارسات، إجراءات وتصريحات روسية عديدة ومتلاحقة، رسمية أساساً لكن غير رسمية أيضاً، الأمر الذي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها لا يمكن إلا أن تكون ترجمة فعلية لتوجيهات سياسية من المستوى الأعلى في البلاد، مشيرين بإصبع الاتهام إلى الكرملين مباشرة وإلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً. لكن يتضح، من رصد التطورات على الأرض في هذا الشأن ومن مختلف التحليلات والتقديرات، أن العلاقات الإسرائيلية ـ الروسية قد وُضِعت على مسار تصادميّ، شبه حتميّ وغير قابل للردّ، بسبب الموقف الإسرائيلي الرسمي، المنخرط في الموقف الأميركي ـ الغربي من الحرب الروسية ـ الأوكرانية، بشكل أساس.
"انتصار روسيا سيدمّر النظام العالمي"!
كان من اللافت أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع أحد أبرز المفكرين الإسرائيليين، المؤرخ يوفال نوح هراري، لكونه من خارج دائرة معاهد الدراسات والأبحاث المذكورة ومن خارج الأوساط السياسية والإعلامية أيضاً، وذلك بمقال مطوّل نشرته صحيفة "هآرتس" الأسبوع الأخير (5 حزيران) تحت عنوان مثير: "هذه ليست قضية أوكرانيا. إن انتصر بوتين، فسنُعاني كّلنا". ورغم أن نوح هراري يخصص مقالته هذه للتنبيه والتحذير من آثار الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على النظام العالمي وما سيجرّه ذلك من إسقاطات كارثية على العالم كله وشعوبه أجمع، وبخاصة الشعوب الضعيفة، إلا أن الموقف يظهر بوضوح تام من خلال الاتهامات التي يوجهها إلى روسيا ورئيسها. فهو يوضح في مقدمة المقال أن "انتصار روسيا في هذه الحرب يعني انهيار النظام العالمي. وحين ينهار النظام العالمي، سيكون الضعفاء أكثر المتضررين"، ثم يشير إلى أن "سكان إسرائيل نسوا هذه الحرب، بطبيعة الحال، ويركّزون على الحرب الفظيعة التي تجري في حارتنا. إلا أن المعركة الأكثر أهمية في العالم هي تلك التي تدور اليوم في أوروبا الشرقية، حيث توضع في الامتحان القواعد الأساسية للنظام العالمي. وإن لم يتحقق السلام في أوكرانيا، فسيشعر العالم كله، بما فيه الشرق الأوسط، بنتائجها الكارثية". ويضيف: "إن لم يتحقق السلام في أوكرانيا، فمن المتوقع أن تطاول المعاناة مليارات من بني البشر، حتى لو كانوا يسكنون على بعد آلاف الكيلومترات من كييف ويعتقدون بأن لا علاقة لهم بهذه المعركة".
لكن نوح هراري سرعان ما ينتقل إلى توزيع المسؤوليات وتوجيه الاتهامات فيقول: "لم يكن ثمة أي تهديد فوري أو غزو لروسيا، لا في العام 2014 ولا في العام 2022، لا من جانب أوكرانيا ولا من جانب أية دولة أخرى. ولكن، ربما كانت الأحاديث الضبابية المتكررة عن "إمبريالية غربية" كافية لتغذية الأبحاث والمداولات في الأبراج العاجية، إلا أنه لم يكن فيها شيء يمكنه تبرير، ثم شرعنة، المذبحة ضد سكان بوتشا أو غارات القصف المدمّر التي سوّت ماريوبول بالأرض". ويتهم نوح هراري بوتين بأنه "لا كلف نفسه حتى عناء إخفاء نواياه وغاياته الإمبريالية" المتمثلة في "إعادة بناء الإمبراطورية السوفياتية من جديد".
ويُسهب نوح هراري في شرح وتحليل هذه "الغايات الإمبريالية"، ثم يخلص إلى ضرورة تجند قادة العالم أجمع و"اتخاذ إجراءات عملية حازمة من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا باتفاقية مُنصفة تكون قادرة على الصمود لمدى طويل".
محطات على طريق التصادم
يذهب بعض الباحثين والمحللين الإسرائيليين إلى وضع العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية وما حصل فيها من تدهور ضمن إطار "حرب روسيا ضد أوكرانيا والغرب"، والذي تقسم روسيا فيه العالم إلى مجموعتين: "ضحايا مُدافِعون" مقابل "معتدون وحشيون". ويرى هؤلاء أن "القاعدة الأيديولوجية ـ التاريخية لهذا التقسيم تقوم على تاريخ مواجهة الاتحاد السوفياتي لألمانيا النازية. وخلال السنوات الأخيرة، تعمدت روسيا طمس الرابطة المباشرة بين إسرائيل واليهود في أوروبا، الذين يشكلون نموذجاً واضحاً للضحية، فأصبحت القدس هي "المعتدي المتوحش" مقابل "ضحية مُدافعة" جديدة هي الفلسطينيون... وهذا ما يفسر جيداً السياسة الروسية المعادية لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر الأخير"! لكنّ هذه الرواية هي مجرد أداة صقل للوعي تستخدَمها روسيا لأغراض سياسية، وفي مقدمتها تبرير حربها في أوكرانيا وتجنيد "الجنوب العولمي" ضد الغرب. وفي هذه الرؤية، "تستخدم روسيا إسرائيل استخداماً أداتياً تماماً، ليس أكثر"، كما يقول أحد باحثي "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي الذي يرى في ذلك "تفسيراً جيداً لواقع أن دولة كانت قد نقشت على رايتها ذات مرة حفظ وتكريس ذكرى الهولوكوست، تأتي الآن وتستغلّ هذه الذكرى ذاتها بصورة كلبيّة لإدانة إسرائيل وتشويه صورتها".
غير أن الحقيقة هي أن بوادر التدهور في العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية كانت قد ظهرت في الأيام الأولى من الحرب الروسية ـ الأوكرانية. ففي اليوم العاشر على اندلاع تلك الحرب، الخامس من آذار 2022، زار رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، نفتالي بينيت، العاصمة الروسية موسكو واجتمع في الكرملين مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في "لقاء خُصص للبحث في الغزو الروسي لأوكرانيا"، كما أفاد بيان رسمي صدر عن ديوان رئاسة الوزراء الإسرائيلية في ذلك اليوم. وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، انتقل بينيت من موسكو إلى برلين حيث التقى المستشار الألماني، أولف شولتس، و"عَبّر الجانبان عن موقف دولتيهما المبدئي المعارض للغزو"!! لكنّ الإسرائيليين عادوا وفرملوا محاولين عدم الدخول في صِدام مباشر مع القيادة الروسية "بسبب الوجود الروسي في سورية، حيث تشن إسرائيل غارات هدفها منع التثبّت الإيراني هناك". إلا أن الأحداث في مجريات الحرب أجهضت محاولات المسؤولين الإسرائيليين المذكورة. ففي نيسان 2022 وفي أعقاب المذبحة في مدينة بوتشا، أصدر وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، يائير لبيد، بياناً ندد فيه بشدة بروسيا ووصف المذبحة بأنها "جريمة حرب".
وفي أيار 2022 سُجّلت الأزمة الأولى في العلاقات بين الدولتين بعد تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن أن أدولف هتلر كان ذا أصول يهودية وساوى بينه وبين الرئيس الأوكراني (اليهودي أيضاً)، فولوديمير زيلينسكي، الأمر الذي استدعى تنديداً إسرائيلياً رسمياً ثم استدعاء السفير الإسرائيلي "لمحادثة توضيحية". وفي وقت لاحق، اعتذر الرئيس الروسي، بوتين، عن ذلك التصريح ثم في "يوم استقلال" إسرائيل أرسل برقية تهنئة تمنى فيها لإسرائيل "الازدهار وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين".
في تموز 2022 سُجّلت أزمة خطيرة أخرى في العلاقات الثنائية بين الدولتين عندما هددت روسيا بوقف الوكالة اليهودية في روسيا وإغلاق مكاتبها هناك، وذلك في أعقاب الموقف الإسرائيلي الصريح الداعم لأوكرانيا في الحرب بينها وبين روسيا. وفي تصريح لوسائل الإعلام هاجمت المتحدثة بلسان وزارة الخارجية الروسية "القيادة الإسرائيلية والسياسة الداعمة لأوكرانيا التي تعتمدها إسرائيل". ورداً على ذلك، طلبت إسرائيل توضيحات من روسيا حول الإجراء القضائي بحق الوكالة اليهودية.
وفي مقابلة مع وسائل إعلام إيطالية في آذار 2023، سُئل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن "سبب اتخاذ إسرائيل بقيادته موقفاً حيادياً حيال الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا"، فردّ قائلاً إن "إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يحلق طيّاروها فوق هضبة الجولان قريباً جداً من الطائرات الروسية في سورية... إن منظومة العلاقات بيننا وبين روسيا مركّبة جداً".
في 16 حزيران 2023 نُشر عن اتفاق جرى التوقيع عليه بين إسرائيل وروسيا يقضي، من بين ما يقضيه، بأن تفتح روسيا في مدينة القدس ممثلية لسفارتها في تل أبيب.
لكن في تشرين الأول/ أكتوبر 2013 جاء هجوم المقاومة الفلسطينية المباغت في عمق الأراضي الإسرائيلية، وهو ما لم تقم روسيا بإدانته أو استنكاره بصورة رسمية صريحة، حتى الآن، لا بل انتقلت على الفور إلى دعم الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في قطاع غزة، بُعَيد شنّ إسرائيل حربها الوحشية التدميرية ضده. وقال السفير الروسي في الأمم المتحدة، فاسيلي نفنزيا، إن إسرائيل "لا تمتلك حق الدفاع عن النفس لأنها دولة عُظمى مُحتلة". وفي أعقاب ذلك، توقفت إسرائيل عن إبلاغ روسيا وتحيينها بشأن غاراتها في سورية، الأمر الذي كان معمولاً به بغية منع أية احتكاكات بين الجيشين الإسرائيلي والروسي.
ومنذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ساقت روسيا عدداً من الاتهامات ضد إسرائيل، اعتبرتها هذه الأخيرة "خطوة غير مسبوقة"، من بينها المساواة بين ممارسات إسرائيل في قطاع غزة وممارسات النازيين في الحرب العالمية الثانية وفي الهولوكوست. وفي 18 كانون الثاني الماضي، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي، إن "إسرائيل لا تستطيع استغلال الهولوكوست ذريعة لتبرير قتلها المدنيين الفلسطينيين". بل عاد لافروف وأكد على أن "اليهود في الحرب العالمية الثانية تحديداً لا تمثلهم دولة إسرائيل الحديثة، الراهنة، التي تتصرف كقوة معتدية على الفلسطينيين وعلى سورية"!
في المقابل، تحرص روسيا، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، على تقديم الجناح السياسي لحركة حماس كلاعب سياسي شرعي، مساوٍ للطرف الإسرائيلي تقريباً. كما تحرص على إقامة علاقات علنية معه على نحو يؤكد صورة الفلسطينيين كممثلين لـ"الطرف الضعيف/ الضحية المُدافِعة عن نفسها" في هذه الحرب.
المصطلحات المستخدمة:
هآرتس, الوكالة اليهودية, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, يائير لبيد, نفتالي بينيت