".... إنّ ما حصل على "جبل الجرمق" قد حصل "خارج نطاق السيادة الإسرائيلية... في حيّز تنازلت عنه دولة إسرائيل من غير حرب"، بتعبير أحد المحللين الإسرائيليين، وهو التجسيد المأساوي لواقع "الحكم الذاتي" الذي يتمتع وينعم به جمهور المتدينين الحريديم وحقيقة تشكيلهم "دولة (الحريديم) المستقلة في داخل دولة إسرائيل". وهو الأخطر والأبعد أثراً من بين العناوين الثلاثة المذكورة آنفاً" ـ كانت هذه إحدى الجمل المركزية في التقرير الذي نُشر هنا في 10 أيار 2021 تحت عنوان "حادثة ميرون (الجرمق): التجاهل والإهمال وفقدان سيطرة الدولة على دولة الحريديم"!، وذلك عقب "حادثة الجرمق (ميرون)" التي وقعت في الليلة بين 29 و30 نيسان 2021 وأحدثت هزة قوية في داخل دولة إسرائيل بعد أن أسفرت عن مقتل 45 شخصاً وإصابة العشرات جراء الاكتظاظ والتدافع الشديدين جداً خلال "الاحتفال" بـ "زيارة قبر الحاخام شمعون بار يوحاي" على جبل الجرمق (ميرون) بمشاركة عشرات الآلاف من اليهود الحريديم.
شددت لجنة التحقيق على أنه "قد تولّد لدينا الانطباع بأن ضغوطات وخلافات سياسية قد أثرت بصورة سلبية على سيرورة اتخاذ القرارات و.... من أجل منع وقوع الكارثة، كانت ثمة حاجة إلى ثقافة سليمة... لكننا وجدنا ثقافة سيئة مترسخة في داخل أجسام وهيئات رسمية وعامة، في مؤسسات سلطوية وبين مبعوثي جمهور. وجدنا ثقافة سيئة في غياب الحوكمة وسلطة القانون وفي نمط العمل القائم على التأجيل والتسويف والامتناع عن اتخاذ القرارات الضرورية وفي وقتها المناسب. وهذا هو واقع السلوك المتأثر بصورة سلبية واضحة من المصالح السياسية والاعتبارات الغربية التي لا علاقة لها بالموضوع العيني. ثقافة سيئة في تصغير المسؤولية والتنصل منها ومن تحملها".... وخلصت اللجنة إلى القول: "هذه الثقافة السيئة أدت إلى وقوع الكارثة الفظيعة، الأقسى والأخطر على المستوى المدني منذ قيام الدولة، وقد كان العنوان واضحاً أمام الجميع، ومعروفاً لكثيرين على مدى سنوات عديدة" ـ وهذا الاقتباس مأخوذ من التقرير الذي نُشر هنا يوم 11 آذار 2021 تحت عنوان "لجنة التحقيق الإسرائيلية الرسمية في "أحداث ميرون 2021": "الثقافة السيئة السائدة في مؤسسات الحكم أدت إلى وقوع الكارثة"! واستعرض أبرز ما خلصت إليه لجنة التحقيق الرسمية في "حادثة ميرون"، من استنتاجات وتوصيات.
كلام كبير وخطير، لكن بعيد!
عُدنا الآن إلى التقريرين المذكورين وإلى ما اقتبسنا منهما هنا وما ورد فيهما من أحاديث صريحة وتحذيرات جليّة بشأن "دولة الحريديم" وفقدان السيطرة عليها، من جهة، وبشأن الثقافة السيئة السائدة والمترسخة في مؤسسات الحكم وبين مبعوثي الجمهور وغياب الحوكمة وسلطة القانون في كل ما يتصل بالعلاقة بين الدولة (الإسرائيلية) و"دولة الحريديم"، من جهة أخرى، والقائمة أساساً على "المصالح السياسية والاعتبارات الغريبة التي لا علاقة لها بالموضوع العيني"، كما سجلت لجنة التحقيق الرسمية في حينه.
وما استدعى هذه العودة الآن هو أن كل الحديث، السياسي والإعلامي، الكبير والخطير، الذي كُتب وقيل آنذاك عن "دولة الحريديم" في داخل "دولة إسرائيل" وعن "الثقافة السيئة السائدة والمترسخة" في شبكة العلاقات المتبادلة بين "هاتين الدولتين" ظلّ بعيداً ولم يكن فيه ثمة ما يمكن أن يشي بـ، أو يقترب من، إماطة اللثام عن واقع كون الحريديم وأحزابهم ومحاكمهم الدينية في إسرائيل ليس "دولة في داخل دولة" على الصعيد السياسي فحسب، بل في كونهم يشكلون "إمبراطورية" على الصعيد الاقتصادي أيضاً، وهو ما يتجسد أساساً في واقع "الحكم الذاتي الذي يتمتع به الحريديم في إدارة عقارات تعادل قيمتها الإجمالية مليارات عديدة من الشواكل، من دون أية شفافية أو رقابة"، كما يُفصح عنوان التحقيق الصحافي الذي أعده شوكي ساديه ونشره (2 أيار الجاري) موقع "مركز شومريم"، الذي يعرّف نفسه بأنه "مركز للإعلام والديمقراطية" وبأنه جسم إعلامي غير سياسي غايته تعزيز أسس الديمقراطية في إسرائيل من خلال المشاريع الإعلامية والتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى.
ويوضح العنوان الثانوي ما كان قيل، سابقاً، عن "غياب الحوكمة على دولة الحريديم وفقدان السيطرة عليها"، لكن في سياق أشدّ خطورة وأثراً على المجتمع الإسرائيلي برمّته وعلى قطاعاته الاقتصادية، التجارية والتشغيلية فيقول إن نحو 1,100 "إدارة وقف ديني" تابعة في معظمها إلى "المجتمع الحريدي" تسيطر على أراضٍ، عمارات، شقق وحوانيت بقيمة هائلة وهي تعمل في إطار ما يمكن أن يُسمى "منطقة سائبة" لا حُكم فيها ولا حاكم، بين منظومتيّ قانون متعارضتين متصادمتين بالضرورة، واحدة دولتية (مدنية) والأخرى دينية، بينما تتولى الحاخامية الرئيسية ومحاكمها الدينية شؤون إدارة هذه "الأوقاف" وكذلك مراقبة التصرف بها. وغالباً ما يجري وضع هذه الأوقاف تحت تصرف جمعيات أنشِئت خصيصاً لغرض العمل على تحقيق الأهداف والغايات الأساسية من الوقف الأصلي نفسه، وهو ما يخلق شبكة معقدة من المصالح التي يُصبح أمر متابعتها ومراقبتها مستحيلاً تماماً، أو شبه مستحيل. وحين يجري الحديث عن أوقاف دينية ـ وهي الغالبية الساحقة من الحالات ـ تصبح الصورة أكثر تعقيدا بكثير، وخاصة جراء تشارك أكثر من جمعية/ مؤسسة واحدة في "مهمة إدارة الوقف" ذاته، في ظل طغيان عدم الشفافية المطلق.
ويشير تحقيق "شومريم" إلى مسألة متصلة بهذا السياق وردت في تقرير "لجنة التحقيق الرسمية" المذكورة آنفاً، لكنها هنا (في تحقيق "شومريم") المرة الأولى التي تُطرَح وتُعالَج في الإعلام؛ وهي: أن "تقرير لجنة التحقيق في كارثة ميرون (الجرمق) يفتح نافذة ضيقة ونادرة على أداء عالم الأوقاف، على مدى اتساع رقعته القضائية والإدارية وعلى علاقاته المركّبة مع الدولة". ومربط الفرس في هذا ـ بل أساس الشرور ـ هو أن الأوقاف الدينية تخضع لمراقبة المحكمة الدينية (الحاخامية). ويعود معدّ التحقيق هنا إلى التذكير بما كان كشف عنه تقرير آخر نشره موقع "شومريم" نفسه يوم 12 كانون الثاني 2023، فور إعلان وزير العدل الإسرائيلي، ياريف ليفين، عن برنامجه وبرنامج حكومته لـ "الإصلاح القضائي". فقد كشفت مُعدّة التقرير، حين شليطا، عن أن "أحد الأعمدة المركزية، لكن غير المعروفة للجمهور، في هذا البرنامج وفي الاتفاقات الائتلافية بين الليكود وأحزاب الحريديم والصهيونية الدينية ينص على ضرورة المأسسة القانونية ـ أي تشريع قانون خاص ـ لتسجيل الأوقاف الدينية في عهدة المحاكم الدينية اليهودية، الحاخامية".
المحاكم الدينية تعمل خلافاً للقانون!
ثمة في إسرائيل نحو 1,100 وقف ديني تتمثل في عقارات تُقدَّر قيمتها الإجمالية بمليارات الشواكل، الجزء الأكبر منها موجود في مدينة القدس وتشمل المباني، قسائم الأراضي، الشقق والحوانيت.
في قانون الودائع من العام 1979، هنالك نص صريح يقضي بوجوب وضع جميع الأوقاف في إسرائيل تحت مراقبة مسجّل الأوقاف في وزارة العدل. لكن فعلياً، تم إبقاء الجزء الأكبر من الأوقاف خارج نطاق التسجيل الرسمي، الأمر الذي أبقاها بالتالي خارج نطاق المراقبة المذكورة. ثم تعمق هذا الفصل واتسع حتى حسمت المحكمة الدينية اليهودية الكبرى (العليا) الأمر بقرار دراماتيكي ضمّنته أمراً صريحاً إلى جميع المؤسسات التي تدير تلك الأوقاف بعدم تسجيلها في وزارة العدل. وكان معنى ذلك أن المحاكم الدينية اليهودية، التي تمتلك الصلاحية الحصرية للنظر في المنازعات التي تدور حول هذه الأوقاف، خوّلت نفسها بنفسها الآن الصلاحية الحصرية لممارسة الرقابة عليها، أيضاً.
لكن، بالرغم من تعارض هذا القرار، والأمر الذي تضمنه بصورة عينية، مع نص القانون المذكور تعارضاً صارخاً، فإن الدولة أبقت الأمر على حاله ولم تتقدم بالتماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية لمطالبتها بإلغاء قرار المحكمة الدينية العليا إلا في أواخر العام 2022، حين تقدمت المستشارة القانونية الحالية للحكومة، غالي بهراف ميارا، بالتماس ضد قرار المحكمة الدينية العليا منع مؤسسات رعاية وإدارة الأوقاف الدينية من تسجيلها في سجلّ وزارة العدل.
وبينما توضح وزارة العدل أن التماسها يرمي إلى إعادة الرقابة على الأوقاف الدينية إلى سلطتها "بغية محاربة الفساد الواضح في إدارة شؤون هذه الأوقاف وإخضاعها لنظام معين وللشفافية"، تدّعي المحاكم الدينية في المقابل بأن الوزارة "تحاول الاستيلاء على الأوقاف الدينية والسيطرة على إدارتها" وبأنها، هي، "أكثر قدرة من وزارة العدل على ممارسة الرقابة على الأوقاف"، مشيرة إلى أنها كانت قد أفردت لهذه المهمة وظيفة خاصة أسمتها "المسؤول عن الأوقاف الدينية في المحاكم الدينية"، وذلك بالرغم من عدم وجود أي نص قانوني يخوّلها مثل هذه الصلاحية.