شكّلت الحروب الإسرائيلية على مدار العقود السبعة الماضية، بما في ذلك الحروب المتلاحقة التي شنّتها على قطاع غزة منذ العام 2006، فرصة من أجل تطوير وابتكار تقنيات ووسائل عسكرية وتكنولوجية بالنسبة للشركات الإسرائيلية العاملة في مجال الصناعات العسكرية والأمنية على اختلاف أنواعها. وليس مبالغة القول إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي حوّل التجمّعات الفلسطينية المحتلّة إلى مختبر حيّ للتجارب والاختبارات لمختلف الأسلحة والتقنيات حيث يتم تحديد كفاءتها وفعاليتها والترويج لها على مستوى الدول والجيوش حول العالم. وعلاوةً على المكاسب الأمنية والعسكرية المترتبة على هذه العملية، فإن هناك فوائد اقتصادية ضخمة وهو ما يُفسّر التحالف الوثيق بين هذه الشركات والمستثمرين والنخب العسكرية في كثير من الأحيان.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية الإبادية الحاليّة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام المنصرم، وخلافاً لبعض المعطيات التي تُشير إلى تراجع حضور إسرائيل حول العالم في مجال الأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية بسبب الفشل في السابع من أكتوبر، فإن العديد من المعطيات تُشير بوضوح إلى أن هناك ارتفاعاً ملحوظاً في الطلب على الأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وهو ما يُفسّر الصفقات الضخمة التي أبرمتها الشركات الإسرائيلية العاملة في هذا المجال منذ بداية الحرب. في مساهمات سابقة، سلّطنا الضوء على بعض التقنيات والوسائل التكنولوجية العسكرية والأمنية مثل "معطف الريح"، "السهم 3" والأدوات والوسائل العسكرية غير المأهولة التي يتم الترويج لها كثيراً في الحرب الحالية لأهداف عديدة تتراوح بين نسب الفضل لها في تقليل الخسائر في صفوف الجيش، وبين إعادة الترويج للصناعات والتقنيات العسكرية الإسرائيلية التي تعرّضت لضربة كبيرة في هجوم طوفان الأقصى. في هذه المساهمة، نُسلّط الضوء على الانتعاش الكبير الذي شهده سوق الأسلحة والتقنيات الإسرائيلية وأهم الشركات الرائدة في هذا المجال، وسط توقّعات إسرائيلية وعالمية بأن تشهد هذه المبيعات صعوداً إضافياً خلال العام الحالي بسبب استمرار الحرب.
شكّل العام 2023 عاماً قياسياً لصادرات الصناعات الدفاعية الإسرائيلية، فقد شهد العام الماضي أكبر صفقة أمنية في تاريخ الصناعات العسكرية الإسرائيلية تمثّلت في شراء الجيش الألماني منظومة الدفاع الجوي المتقدّم الإسرائيلية "السهم 3" بصفقة بلغت قيمتها 13 مليار شيكل. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى للحرب الإبادية على غزة، أبرمت الصناعات الجوية الإسرائيلية صفقة جديدة لبيع صواريخ الدفاع الجوي الإسرائيلية من نوع "براك- MX" للحكومة الأذربيجانية بقيمة 1.2 مليار دولار، بالإضافة إلى التوقيع على صفقة جديدة لبيع "صواريخ مُجنّحة" لدولة لم يتم الكشف عن اسمها حتى تاريخ كتابة هذه المساهمة بقيمة 154 مليون دولار أيضاً. هذه المعطيات وغيرها تُشير إلى الانتعاش الذي يشهده هذا المجال، وسط تأكيد العديد من المشرفين على مجال تطوير الأسلحة والتقنيات الإسرائيلية أن هجوم السابع من أكتوبر، وبعكس العديد من التحليلات، لم يتسبّب في الإضرار بسمعة هذه الشركات ولا التقنيات والوسائل التي يتم تطويرها إسرائيلياً في المجال الدولي.
يُشير تقرير استقصائي أعدّته صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن مجال الصناعات الأمنية، وليس فقط الصناعات الجوية الدفاعية، الذي تقوده شركات إسرائيلية رائدة مثل "رفائيل" و"إلبيت"، يعمل على مدار الساعة منذ اندلاع الحرب لتزويد الجيش الإسرائيلي بالوسائل والتقنيات الحربية، إلى جانب العمل على تطوير وسائل وآليات قديمة، وابتكار وتطوير وسائل جديدة عملاً بمبدأ "استخلاص العبر من التجارب والاختبارات الميدانية". علاوةً على ذلك، تنشغل أيضاً هذه الشركات في تأمين احتياجات قسم الصادرات الذي شهد ارتفاعاً عالياً في الطلب خلال، وقبل، الحرب الحالية بسبب لجوء العديد من الدول لشراء الأسلحة والوسائل والتقنيات العسكرية والأمنية الهجومية والدفاعية في أعقاب الحرب الروسية- الأوكرانية، وهو المجال الذي تُعد إسرائيل وشركاتها رائدةً فيه على المستوى الدولي، مثلاً قرابة 75% من عائدات الصناعات الجوية الإسرائيلية، و50% من عائدات "رفائيل"، و75% من عائدات "إلبيت" هي من التصدير للدول والجيوش حول العالم.
مثلاً هنا بعض المعطيات لهذه الشركات خلال الأشهر الثلاثة الأولى للحرب الإبادية على قطاع غزة: أفادت التقارير الإسرائيلية نهاية العام المنصرم أن الجيش الأميركي اشترى من شركة "إلبيت" أنظمة الرؤية الليلية بصفقة بلغت قيمتها نصف مليار دولار، كذلك، فازت الشركة في مناقصة طرحها الجيش السويدي لتوريد نظام مراقبة وتحكّم بقيمة بلغت 170 مليون دولار، ناهيك عن شراء الحكومة الهولندية قاذفات الصواريخ من طراز "Puls" من الشركة نفسها في صفقة بلغت قيمتها 305 ملايين دولار أواخر العام الماضي. كما عقدت شركة "رفائيل" صفقة ضخمة لبيع منظومة الاعتراض الدفاعية الإسرائيلية "مقلاع داود" للحكومة الفنلدنية بلغت قيمتها 317 مليون يورو (1.3 مليار شيكل).
نائب الرئيس التنفيذي لقسم السوق والتطوير في شركة "رفائيل" أريئيل قارو يُشير إلى أن الشركة استطاعت خلال الحرب الحالية إثبات نفسها، وتحديداً في صناعات منظومتي الدفاع الجوي "القبة الحديدية" و"مقلاع داود"، بالإضافة إلى منظومة الدفاع الخاصة بسلاح المدرعات "معطف الريح" التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي فقط من بين كل الجيوش حول العالم، والتي أظهرت بحسبه فعالية عالية جداً خلال الحرب الحالية نظراً لكون غزة هي "المنطقة الأكثر اكتظاظاً وكثافة قتالية في العالم، حيث تُفعّل حماس في مواجهة سلاح المدرعات العديد من التدابير والوسائل المختلفة المضادة في حيز معين"، مُشيراً في الوقت ذاته إلى أن الشركة خصّصت 5 مليارات شيكل سنوياً لتطوير الجيل الجديد من منظومة الليزر لاعتراض الصواريخ بتكلفة أقل بكثير مقارنةً بتكلفة الاعتراض الحالية لمنظومات الدفاع الصاروخي. قارو يُشير إلى أن بعض "الأصوات الشعبوية" تُلقي باللوم على الوسائل التكنولوجية وتعزو لها الفشل الإسرائيلي في السابع من أكتوبر، مؤكداً أنه "ثبت خلال الحرب أنه عندما يستخدم الجيش ترسانته الكاملة من القدرات فإنهم يجبون ثمناً باهظاً للغاية من حماس، إذ يُمكن قياس ذلك من خلال عدد الضحايا منهم مقارنةً بحجم الضرر في قواتنا، وهذا يثبت قوتنا التي تعود في جزء منها للميزة التكنولوجية"! مؤكداً أن إدخال الشركة لمنظومات الذكاء الاصطناعي في صناعاتها وتقنياتها لا يهدف "لاستبدال العنصر البشري، وإنما السماح له بمعالجة أكبر قدر ممكن من البيانات في وقت محدد لاتخاذ القرارات".
أما بالنسبة للمنتج الأكثر مبيعاً في الشركة، فيُشير قارو إلى صاروخ سبايك، وهو الصاروخ الأكثر رواجاً في العالم من نوعه، ومن الفصيل نفسه يستخدم سلاح البرّ الإسرائيلي في غزة صاروخ "جيل" والنسخة المتطورة منه "جيل 2"، ويُعد الصاروخ الأكثر دقّة في العالم حيث يتم إطلاقه من البرّ والبحر والجو من مسافة عشرات الكيلومترات. كذلك الأمر، يستخدم الجيش الإسرائيلي للمرة الأولى الصاروخ المُجنّح "ماعوز" الذي يبدو كالطائرة المسيرة لكنه ليس كذلك بالفعل، حيث يقوم الجندي بإطلاقه باستخدام "الآيباد"، بالإضافة إلى صاروخ "مفتسيح أجوزيم" المخصّص لتدمير المباني، وجميعها من طراز الصاروخ سبايك وهي تدخل للمرة الأولى في الخدمة خلال هذه الحرب، ما دفع الجيش الأميركي إلى تزويد مروحيات الجيش العسكرية "الأباتشي" بهذا الصاروخ بصفقة بلغت قيمتها 370 مليون يورو، إلى جانب إقدام 42 دولة حول العالم على شرائه نظراً لكونه يجمع بين قدرات خاصة من حيث مسافة الإطلاق ودقته، وبين سهولة الاستعمال.
في مقابل هذا الاستعراض، يُشير بحث أعدّته صوفيا غود فريند لمجلة +972 مطلع العام الجاري، إلى أن الحرب الحالية شكّلت فرصة للمستثمرين والرؤساء التنفيذيين لشركات تطوير الأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية (تصفهم بالمنتصرين الوحيدين في هذه الحرب) من أجل زيادة استثماراتهم وأرباحهم من خلال تضخيم الحديث عن "إنجازات" الأسلحة والصناعات التي يتم اختبارها في هذه الحرب التي تُستخدم كوسيلة إلهاء مريحة عن أزمة الحرب التي لا تنتهي. غود فريند تُشير إلى أن الذاكرة القصيرة تساعد هؤلاء لمحاولة إبعاد النظر عن حقيقة تعرّض التوجه، الذي حاول تحالف رأس المال والتطوير العسكري الأمني الترويج له بأن الاستثمار في هذا المجال على حساب الاستثمار في القوات البرية (العنصر البشري) وضخ الأموال في الوسائل التكنولوجية والرقابية وغيرها سيجلب الأمن لإسرائيل، لضربة شديدة في السابع من أكتوبر، الذي تبيّن أنه مجرّد فقاعة، حيث لم يجلب ذلك الأمن لإسرائيل ولم يحمها من هذا الهجوم، وهو ما يحاول اليوم هذا التحالف القفز عنه من خلال تضخيم فعالية الأسلحة والتقنيات القديمة المطوّرة والجديدة، وتُشكّل الحرب على غزة فرصة ذهبية لهؤلاء. في مقابل ذلك، تؤكّد غود فريند أن الفلسطينيين هم من سيتحمّلون وطأة العنف المتولّد عن ذلك كله. كما أن تضخيم الحديث عن نجاعة ودقة بعض الأسلحة والصواريخ والوسائل لم توفّر الحماية للأطفال والمدنيين، مؤكّدةً أن هناك عزماً إسرائيلياً على الانتقام وأنها لا تفعل الكثير من أجل ضمان حماية الأمن القومي لإسرائيل على المدى البعيد، ما يجعل تفاؤل المستثمرين في السوق وشركائهم العسكريين وفي شركات التطوير عبارة عن وهم، ويُشير إلى أنهم لم يستفيدوا من الدروس السابقة.