تشهد الساحة الأكاديمية الإسرائيلية جدلاً يتكشّف ببطء للجمهور العام، خصوصاً ما يرتبط فيها بدراسات تقوم على مواد الأرشيف، بعد تعرض أرشيف الدولة الإسرائيلي لهجوم سيبراني في تشرين الثاني الأخير. وقالت إدارة الأرشيف على موقعها: "تعرضت الشركة المضيفة للموقع الإلكتروني لأرشيف دولة إسرائيل لهجوم إلكتروني. لسوء الحظ، أدى الهجوم إلى تعطيل الخدمات التي تتيح البحث في الموقع وعرض المواد الأرشيفية".
في حينه، قالت القناة التلفزيونية "12" العبرية، إن "قاعدة بيانات الاستفسارات العامة تم اختراقها وتم حذف كثير من المعلومات من الموقع" مضيفة أنه "لم تتضرر أية مواد سرية ولم يتم تسريب أية مواد سرية". روت أبراموفيتش، مسؤولة أرشيف الدولة، قالت لوسائل إعلام: "كجزء من الهجوم السيبراني حدث اختراقان: في الأول تم اختراق قاعدة بيانات تفاصيل التحقيقات العامة لأرشيف الدولة، وفي الثاني تم اختراق الكثير من المعلومات وحذفها من الموقع. على حد علمنا، تم اختراق المعلومات من العام 2020 فصاعداً، والتي قد تكون في أيدي المهاجم".
لكن مصادر أخرى تصف مؤخراً الضرر بصورة أكبر. وكما كتب الصحافي عوفر أديرت في جريدة "هآرتس"، فقد حذرت "المنظومة السيبرانية الوطنية" الإسرائيلية مؤخراً أرشيف الدولة من وجود خطر محو جميع المواد الأرشيفية إلى الأبد. ونقل عن القائم بأعمال رئيس وحدة الحماية السيبرانية في الحكومة، نير بار يوسف، خلال جلسة في الكنيست، أنه حذر من أن الموقع الإلكتروني الحالي للأرشيف يعتمد على "بنية تحتية قديمة" وأن هناك خطرا على "جميع المواد المحمية".
ونظرت لجنة العلوم والتكنولوجيا في الكنيست برئاسة عضو الكنيست أيمن عودة، في إغلاق موقع أرشيف الدولة في أعقاب الهجوم السيبراني الذي تعرض له في تشرين الثاني الماضي. وقال بار يوسف في جلسة الاستماع: "وقع هجوم متطور ومدمر للغاية، تسبب في أضرار للبنية التحتية للعمل بأكملها". وأضاف أنه بعد إسقاط الموقع في هجوم إلكتروني من قبل عناصر مؤيدة للفلسطينيين، أوصى أرشيف الدولة بعدم ترميم الموقع، بل إقامة موقع جديد. وقال "لم نتمكن من الاقتناع بأن الشيفرة المتبقية خالية من البرمجيات الضارة. وكان رأينا أن الموقع يضع المواد المحمية في الأرشيف تحت خطر غير معقول". وقالت ممثلة أخرى لوحدة الحماية السيبرانية إنه "كان هناك انتهاك نوعي هنا وتم حذف عدد لا بأس به من قواعد البيانات".
لن يتسنى للباحثين والمعنيين الاطلاع على المواد حتى نهاية 2024
تبيّن من نقاشات لجنة العلوم والتكنولوجيا أنه منذ ذلك الهجوم السيبراني يعمل موقع أرشيف الدولة بشكل محدود، مما يضر بعمل المؤرخين والباحثين. وقال رئيس اللجنة عودة: "أجرينا جلسة حول هذا الموضوع قبل عام تقريباً، وقررت أن أدعو لعقد اللجنة الآن لأنني أفهم أن الوضع لم يتحسن منذ الجلسة السابقة، بل تفاقم. في تشرين الثاني الماضي، تعرض موقع أرشيف الدولة لهجوم سيبراني، ومنذ ذلك الحين توقف الموقع عن العمل. وكما كانت الحال في زمن الجلسة السابقة، فإن قاعة القراءة مغلقة. أي لا يمكن الوصول على الإطلاق إلى المواد الأرشيفية الموجودة في أرشيف الدولة. هذا وضع خطير للغاية ويجب توفير الرد عليه بشكل فوري. حق الجمهور في المعرفة هو أمر أساس وإلزامي، شئنا أم أبينا. كلّي أمل أن تتغير الأمور بعد الجلسة. إذا لم يكن من الممكن الاطلاع على المواد حتى نهاية العام 2024 بسبب حالة موقع الأرشيف، فيجب أن تكون هناك كحد أدنى ساعات منتظمة للاستقبال وسد احتياجات جميع الباحثين".
الباحث في معهد "عكيفوت" لدراسة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني آدم راز عرض خلال الجلسة مجموعة من الشكاوى نيابة عن باحثين كثيرين أجمعت على أنهم لا يحصلون على أية أجوبة وردود منذ الهجوم السيبراني. حيث أنهم يبعثون برسائل عبر البريد الإلكتروني إلى الأرشيف ولكن لا يتم الحصول على أي رد. كما قال إنه أجرى فحصا هاتفيا بخصوص الطلبات التي تم إرسالها عبر البريد الإلكتروني والتي لم يتم منح الإجوبة عليها، وكان الجواب الذي تلقاه أن ثمة مشكلة في أرشيف منظومة البريد الإلكتروني.
وكما قال الباحث، فإن "الوضع خطير بالتحديد في أرشيف الجيش الإسرائيلي، وهو أكبر أرشيف حكومي. فالغالبية العظمى من المواد مغلقة مما يؤدي إلى معدل إتاحة منخفض للغاية: فمن بين حوالى 17 مليون ملف، هناك 2.8% فقط من هذه الملفات مفتوحة أمام الجمهور لقراءتها". ويضيف راز: "لسنوات عديدة كنت أسمع عن خطة لإنشاء موقع جديد في أرشيف الدولة وترسيخ الذكاء الاصطناعي. في هذه الأثناء، لم يحدث ذلك ولم يبدأ العمل أيضاً من أجل إنجاز ذلك. صحيح أنه يجب على كل مؤرخ معرفة فهرس المواد الموجودة في الأرشيف وهذا أمر أساس، ولكن حين لا يكون هناك فهرس كهذا، فمن المستحيل العمل. هناك ثمة أضرار في البنية التحتية المطلوبة لإجراء البحث. إن التوثيق الأرشيفي ملك لمواطني دولة إسرائيل وليس ملكية خاصة لأرشيف الدولة ومسؤولة أرشيف الدولة. وعدم كشف المواد يعد انتهاكاً للقانون".
14 مليون مستند في أرشيف الجيش والجهاز الأمني، 1 بالمائة فقط منها مُتاح
قانونياً، تتراوح فترة التقادم التي يفترض أن تكون إلى حين فتح الوثائق من 15 إلى 90 عاماً من تاريخ كتابة الوثيقة، وأحياناً تختلف حسب "نوع وحساسية المادة". ولكن الأرشيف اعترف مراراً في ردوده الرسمية بأن حوالي ثلث الملفات المحفوظة فيه لم يتم الكشف عنها للجمهور على الرغم من انتهاء فترة التقادم عليها، والتي كان من المفترض أن يقوم الأرشيف بالكشف عنها. كذلك، هناك تقرير تناول سياسات الأرشفة الرسمية، صدر عن أرشيف الدولة نفسه، ونُشر في كانون الثاني 2018، وكشف عن حيازة أرشيف الدولة على نحو 300 ألف ملف لمواد ووثائق سرية حان تاريخ نشرها بالفعل، لكن بالرغم من ذلك لم يكشف عنها في الوقت القانوني.
راز كان قال في أيار الماضي خلال جلسة للجنة نفسها: "لا يمكن تقريبا إجراء بحث ودراسة أكاديميين في البلاد إذا لم تكن مؤرخاً يعمل في وزارة الدفاع – خلاف ذلك لا توجد طريقة وإتاحة للأرشيف. كذلك الأمر أرشيف الشاباك، فهو مغلق تماما، وهناك مجالات كاملة غير قائمة ببساطة. ويجب عليك لغرض الحصول على معلومات، أن تتوجه للمحكمة وهذا الأمر يستغرق الكثير من الوقت. إلى جانب ذلك فإنهم يوجهون الطلاب الجامعيين إلى مواضيع ليست في لب الاهتمام. والأرشيفات لا تحترم ولا عمل وفقاً لما ينص عليه القانون".
مدير عام معهد "عكيفوت"، ليئور يفني، فصّل بقوله: "يتضمن أرشيف الجيش الإسرائيلي والجهاز الأمني 14 مليون مستند ومن بينها نحو 51 ألف ملف متاحة للجمهور وهي تشكل ما نسبته 1% من الملفات فقط. هناك كمية مهولة من المواد التي انتهت مدة التقييدات التي فرضت عليها بموجب القانون، لكن الملفات ما زالت مغلقة بسبب لوائح القراءة التي تلزم بفحص المواد قبل فتحها للقراءة. يجب تحضير إجراءات واضحة وعلنية للكشف عن الملفات ونحن نقترح الكشف بشكل فوري عن المواد التي انتهت فترة التقييدات الخاصة بها".
د. إيتمار رداي، وهو مؤرخ من الجامعة المفتوحة، أفاد بأنه لا توجد قاعة قراءة دائمة للباحثين. وقال: "كانت هناك سابقا قاعة للقراءة كما هي الحال في كل دولة، وكان بالإمكان إخراج الملفات ذات التصنيف الأمني - وكانت جميع الملفات مفتوحة للاطلاع عليها. لكن مسؤول الأرشيف السابق قال إنه يجب القيام بعملية رقمنة للمواد. هذه الفكرة جيدة ورائعة، لكن لا يجوز إغلاق الأرشيف بشكل فعلي بسبب ذلك. كذلك، فقد فكر مسؤول الأرشيف أيضاً بحرق النسخ المادية... هناك ضرر جسيم يتمثل في عدم إمكانية الوصول إلى الأصول الثقافية. لقد سبق أن حذرنا أيضاً من التعرض إلى هجوم سيبراني. وها قد وقع ذلك ودمروا أجزاء من المواد التي تم ترتيبها وفهرستها في أرشيف الدولة. لن يكون بالإمكان إصلاح ما سينتج عن ذلك. الحد الأدنى هو افتتاح قاعة قراءة محترمة مثل أية دولة ديمقراطية وترميم الأرشيف والفهارس".
مسؤولة الأرشيف تقرّ بالقصورات وتعزوها إلى الكورونا والانتخابات والحرب!
مسؤولة أرشيف الدولة أبراموفيتش قالت في ردها إنه ذُكرت أشياء غير صحيحة على الإطلاق، وادّعت أن طاقم الأرشيف يمنح الإجابات على كافة الاستفسارات المرسلة عبر الموقع وعبر البريد الإلكتروني. ووفقا لها "لم يكن أرشيف الدولة أكثر شفافية ومتاحا من حيث المعلومات في أي وقت مضى مثلما هي الحال في ولايتي. يرى أرشيف الدولة أن دوره يتجسد في الشفافية التي يضعها نصب عينيه طالما لم ينص القانون على خلاف ذلك. وليس من الممكن دائما منح الرد وتقديم الخدمة بأسرع طريقة لأن الدولة لديها حد للميزانية". كذلك، عزت المصاعب إلى أزمات تمر بها البلاد بالقول: "في البداية لم نتمكن من المضي بمزيد من إتاحة الملفات بسبب تفشي كورونا، ومن ثم الحملات الانتخابية والآن الحرب. لكننا ما زلنا نتيح الوصول إلى المزيد من المواد أكثر من أي وقت مضى. اللوائح المتعلقة بموعد فتح المواد للجمهور موجودة منذ سنوات عديدة ولم يتم تغييرها منذ العام 2010 ونحن نعمل وفقاً لها".
وحول الهجوم السيبراني الذي تعرض له الموقع قالت أبراموفيتش: "لقد تم حذف كل ما تم رفعه على الموقع. يتم حفظ الأرشيف بالطبع، ولكن تم حذف ما كان لدينا على الموقع". وتابعت أنه لم تتسنّ إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وحاليا يتم العمل في أرشيف الدولة "بصورة حثيثة على إقامة موقع جديد ومنح خدمات بديلة" من خلال التوجهات التي يتم إرسالها إلى الأرشيف.
وفي ما يخص انعدام قاعة دائمة مفتوحة للقراءة في أرشيف الدولة قالت: "أول ما قمت به عندما توليت منصبي هو محاولة فتح قاعة القراءة. أعرف الفكرة التي طرحت هنا وهي أنه من المفضل التخلص من كل الورق لأن كل شيء حاليا يتم بأساليب رقمية، ولكن لن أقبل بهذه الفكرة وسيبقى كل شيء بالشكل نفسه، في نفس الحقيبة والرف والحاوية ولا توجد أية نية للتخلي عن ذلك. والسبب هو كما تم طرحه هنا، أن هذه هي أصولنا الثقافية. نحن نريد زيادة الميزانية حتى يأتي المزيد من الأشخاص إلى قاعة القراءة. لقد قيل لنا إن فترة الحرب ليست الوقت المناسب. وسنقوم بتحميل الفهرس بالكامل إلى قاعدة البيانات الحكومية وسيكون متاحاً"، وعدتْ السامعين في الجلسة.
حالياً، عندما يدخل المتصفحات والمتصفحون إلى موقع أرشيف الدولة يستقبلهم الإعلان التالي: "يعمل الموقع الإلكتروني لأرشيف الدولة بشكل مقلّص بسبب الهجوم السيبراني. يمكنك العثور على عشرات الآلاف من الملفات والمنشورات على الموقع، واستخدام خدمة جديدة تتيح لك البحث في المحتويات، وكذلك الاتصال بنا لتحديد موقع المعلومات. غرفة القراءة مفتوحة لتلقي النصائح من طاقم محتوى الأرشيف وتصفح المواد الرقمية. يتم تقديم الخدمة بين الساعة 9:00 و 15:00 بواسطة تحديد موعد"!