على الرغم من فشل مجلس الأمن الدولي في اعتماد مشروع القرار المطالب بوقف إطلاق النار الفوري والإنساني في غزة، بعد استخدام الولايات المتحدة حق النقض "الفيتو"، فإن التحركات الشعبية والاحتجاجات في عدة عواصم خلال الفترة الأخيرة ألحقت أضراراً بصورة إسرائيل في المجتمع الدولي سيما في المجال الفني والثقافي العالمي، الذي أثارت فيه الحرب تساؤلات حول مدى التزام الاسرائيليين في هذا المجال بقيم حرية التعبير والمساواة والعدالة.
وتخشى إسرائيل أن تواجه مشاركتها في المهرجانات الدولية وضعاً مماثلاً للذي تواجهه روسيا حالياً، وذلك إذا استمرت الضغوط الشعبية في التأثير سلباً على مشاركة الإسرائيليين في هذه الفعاليات ذات الأهمية الدولية.
أزمة السينما الإسرائيلية: مخاوف من المقاطعة
بدأت المخاوف من المقاطعة ترمي بظلالها على الحقل السينمائي الإسرائيلي وفق تقرير نشرته صحيفة هآرتس الأسبوع الماضي مباشرة بعد السابع من أكتوبر، وانعكس ذلك مباشرة على عرض فيلم "غرفة له" الإسرائيلي في مهرجان وارسو السينمائي في الليلة نفسها؛ حيث واجهت منتجة الفيلم، مايا فيشر، صعوبة في عرض الفيلم في مهرجانات دولية أخرى بعد ذلك، وتم إلغاء عروض فيلمها في مهرجانات كانت قد وافقت سابقاً على عرضه؛ ولم يتم قبول عرضه حتى في مهرجانات يهودية عالمية، وجاء السبب المعلن لهذا الرفض وجود الجيش الإسرائيلي في أحد المشاهد بالفيلم. وبعد ذلك أعلنت إدارة مهرجان ستوكهولم السينمائي الدولي بشكل دبلوماسي سحب دعوة المنتجة والممثلة الاسرائيلية أليزا تشانوفيتش؛ وأوضحت الإدارة أن قرارها جاء نتيجة للأحداث المأساوية المستمرة والصراع الحالي، حيث اتخذوا قراراً بعدم حجز رحلات جوية من إسرائيل خلال ذلك الوقت وأعربت ادارة المهرجان في رسالة لها عن قلقها من وقوع إلغاءات غير متوقعة أو حوادث تجعل ضيوفهم يواجهون مواقف غير مريحة عند عودتهم إلى بلدانهم.
وفقاً لتقديرات "هآرتس" في هذا السياق، تعد عدم مشاركة إسرائيل في المهرجانات الدولية القادمة أمراً يتعدى كون المشاركين إسرائيليين فحسب. فإن التحذيرات المستمرة للمواطنين بعدم السفر إلى عدة دول تلقى تأثيراً على مشاركة فنانين إسرائيليين في تلك المناسبات بحجة إنتشار معاداة السامية في بعض دول الغرب. سبب آخر يُساهم في تراجع مشاركة إسرائيليين وعرض الرواية الإسرائيلية في هوليوود مثلاً هو خوف الشركات من تعرضها للهجوم والمقاطعة، كما حدث مع شركات عالمية أخرى مثل "ستاربكس"، حيث قد تفضل الشركات البقاء حيادية في هذا السياق.
ويخشى عدد من منتجي الأفلام الاسرائيليين من إرسال أفلامهم إلى المسابقات الرسمية في المهرجانات، على سبيل المثال مهرجان برلين للأفلام وهو أحد مهرجانات الأفلام في العالم، الذي بشكل عام يفضل الأفلام النقدية للاحتلال والأفلام الإسرائيلية المؤيدة للفلسطينيين على حساب الأفلام التي تحمل روحاً إسرائيلية. وهذا ما يدفع بعض المنتجين الإسرائيليين إلى قرار عدم إرسال أفلامهم بقرار منهم.
تتزايد المخاوف من إمكانية مقاطعة الإسرائيليين، حتى الذين لا يدعمون الحرب، والتي قد تكون مماثلة للتجربة التي عاشتها روسيا وأكاديمية الفيلم الأوروبية. ففي إطار الحرب، اتخذت الأكاديمية قراراً بمقاطعة الإنتاجات الروسية دون النظر إلى المواقف السياسية لأفرادها.
في الأيام الأخيرة، وجد مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا) نفسه في قلب الصراع بسبب احتجاج مؤيد للفلسطينيين خلال حفل افتتاح الدورة الأخيرة للمهرجان في 8 تشرين الثاني. ثلاثة نشطاء صعدوا إلى المسرح خلال كلمة المدير الفني للمهرجان، عروة نيربية، وحملوا لافتة تحمل شعار "من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرّر". هذا الاحتجاج أثار انتقادات من قبل مجموعة من السينمائيين الإسرائيليين الذين طالبوا بإقالة المدير الفني للمهرجان، وذلك بعدما صفق لهؤلاء النشطاء مع بعض الحاضرين. كما بادروا لتوقيع عريضة تندد بسلوك المدير الفني للمهرجان. وفي سياق شبيه لمنصة إدفا، فاز الفنان البريطاني جيسي دارلينغ بجائزة تيرنر للعام 2023 وهي أهم وأرفع جائزة بريطانية في الفنون المعاصرة وفي خطاب تسلم الجائزة أخرج دارلينغ العلم الفلسطيني من جيبه، وعندما سُئل لاحقاً عن السبب، قال الفنان: "لأن هناك إبادة جماعية تحدث، وأردت أن أقول شيئًا عنها على هيئة الإذاعة البريطانية"BBC.
مجالات فنية ومتاحف دولية داخل الحرب
في السنوات الأخيرة لعبت المتاحف دوراً مهماً في الاحتجاجات، حيث طالب فنانون بارزون بإغلاق المتاحف العام 2016 احتجاجاً على فوز ترامب في الانتخابات في الولايات المتحدة. لم تغلق المتاحف أبوابها لكن بعضها قام بقراءات شعرية واحتجاجات. كما لعبت المتاحف ايضاً دوراً فعلا في مظاهرات "أنا أيضاً- MeToo" ووفاة جورج فلويد مطالبة بالتعددية والمحاسبة.
أعادت الحرب التساؤلات حول دور الفن في الأزمات والحروبات وقد شهد القطاع العديد من التحديات في الأسابيع الأخيرة. كان أبرزها في 19 تشرين الأول، نشر ديفيد فيلاسكو، رئيس تحرير مجلة "Artforum" المرموقة في مجال الفن المعاصر، بيانًا مفتوحًا عبر الإنترنت يدعو فيه إلى تحرير فلسطين، وقد وقع عليه العديد من الفنانين والمثقفين، بمن في ذلك المصور نان غولدين، والباحثة النسوية جوديث بتلر، والفنان بيتر دويغ، والفنانة كارا ووكر. وبعد فترة قصيرة من نشر البيان، تم فصل فيلاسكو من منصبه، وادعى الناشرون دانييل ماكونيل وكيت كوزا أن قرار نشر البيان كان خاطئاً وغير متوافق مع معايير المجلة. تقدم نحو 6 محررين باستقالتهم احتجاجاً على هذا القرار، ووقع نحو 600 كاتب على رسائل مقاطعة للمجلة ولمنصات فنية أخرى متعلقة بالمجلة. وسحب بعض المساهمين البارزين أجزاء من العدد المقرر صدوره في كانون الثاني، مما أدى إلى تأخير إصدار العدد وتقليص حجمه بنحو ثلث العدد المعتاد. بالإضافة إلى ذلك، قامت بعض المعارض الفنية الدولية بسحب الإعلانات المخطط عرضها في المجلة. وصلت هذه الأزمة إلى المتحف الأميركي للفن الطبيعي في نيويورك، حيث قامت مجموعات مدافعة عن الفلسطينيين بالتظاهر أمام المتحف احتجاجاً على القرارات المتخذة في المجلة.
كما قام الفنانان الأميركيان نيكولاس جالانين وميريت جونسون بسحب منحوتتهما من معرض الفن الأميركي الأصلي المعاصر في المتحف الوطني للفنون بواشنطن، احتجاجاً على الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل. ويقوم المتحف حالياً بإزالة العمل الفني، الذي يتناول موضوعات تتعلق بالشعوب الأصلية في أميركا، بناءً على مطالبة الفنانين احتجاجاً على أعمال إسرائيل العسكرية في قطاع غزة.
وفي سياق الحرب الحالية، نشرت جمعية المتاحف في بريطانيا بيانًا يسلط الضوء على دور المتاحف في خلق مساحة حرة للحوار، وصياغة إرشادات مناسبة للظروف العامة والتحديات المستمرة في العالم، مما يبرز الدور الفعّال الذي تلعبه المؤسسات الثقافية في المجتمع والحوار العام.
صراع في المعارض والمهرجانات
وقع أكثر من 1000 فنان وفنانة من "فنانون من أجل فلسطين في المملكة المتحدة" على رسالة موجهة إلى المؤسسات الثقافية، احتجاجاً على القيود التي تفرضها إدارات المؤسسات على التعبيرات المؤيدة لفلسطين بعد سلسلة من الحوادث. من بين هذه الإجراءات، إلغاء معرض آي ويوي في ليسون غاليري بسبب تصريحاته حول نفوذ إسرائيل، وإزالة أنشطة من "مهرجان بريستول فلسطين السينمائي"، وإلغاء معرض كانديس بريتز في متحف ألماني بسبب انتقاداته للأعمال العسكرية الإسرائيلية. وفي سياق مشابه، استقال الكاتب والناقد الفني رانجيت هوسكوت، من أعضاء لجنة اختيار الأعمال الفنية في "دوكومنتا 16"، بسبب دعمه لحركة مقاطعة إسرائيل، تبعته استقالة زميلته الفنانة الإسرائيلية براخا إتنغر. وفي تطورات لاحقة، أعلن جميع أعضاء اللجنة استقالتهم في رسالة وجهوها إلى المسؤولين في "دوكومنتا". كما أثار معرض فرانكفورت الدولي للكتاب انتقادات واسعة بسبب قراره تأجيل حفل تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، في الوقت الذي تعهد فيه أكثر من 2000 كاتب وشاعر بمقاطعة مؤسسة الشعر الأميركية احتجاجاً على قرارها حظر نشر مراجعة نقدية لإسرائيل كتبها الشاعر جوشوا غترمان ترانن.
عزل ذاتي وإلغاء نشاطات فنية في إسرائيل
وفي إسرائيل، تشير علامات العزلة إلى التحديات التي تواجهها المهرجانات الثقافية. أوضح إيتاي مونتر، مدير مهرجان إسرائيل، في حديث لصحيفة "هآرتس"، أن النسخة الحالية من المهرجان ستركز على النطاق المحلي بسبب صعوبة دعوة الفنانين العالميين للمشاركة، بسبب وجود الجيش، مثلاً، في بعض مواقع النزاع الحساسة كمستشفى الشفاء. ويعد مهرجان إسرائيل الدولي من أهم المهرجانات الإسرائيلية للفنون المعاصرة، ويقام سنوياً في القدس، حيث يعرض مجموعة متنوعة من الفنون الأدائية، من الرقص التعبيري والموسيقى إلى المسرح والتمثيل وفن الڤيديو والأداء. وأشار مونتر إلى أن نحو 90% من المشاركين لم يستجيبوا للطلب بتعديل أعمالهم لتتناسب مع الأحداث التي جرت في 7 أكتوبر، بينما أبدى 10% رغبتهم في عدم المشاركة.
ويستعد متحف إسرائيل لاحتمال إلغاء برنامج المعرض في المستقبل القريب، حيث يعمل المتحف على خطط بديلة. قالت سوزان لانداو، القائمة بأعمال مدير متحف إسرائيل، إنه ليس من المعقول أن يتم العثور على متحف مستعد لإعارة أعماله في حالات الحروب. هناك مخاوف من تعريض أعمال فنية للخطر، وأيضاً قد يكون هناك عدم رغبة من الفنانين في الحضور والمشاركة في المعارض في إسرائيل.
هل تُخرج إسرائيل من اليوروفيجن؟
تشارك إسرائيل في مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن"منذ العام 1973، وفازت فيها 4 مرات. يعود سبب مشاركة إسرائيل إلى عضويتها في اتحاد البث الأوروبي (EBU)، وهي أول دولة غير أوروبية تشارك في هذا المهرجان. رغم ذلك، تواجه إسرائيل الآن مخاوف من محاولات مقاطعة مشاركتها في الدورة القادمة، نتيجة الضغوط التي تمارس على اتحاد البث الأوروبي. هذا يُذكّر بالضغوط التي أدت إلى طرد روسيا من المسابقة، مما سمح لأوكرانيا بالفوز بالمسابقة. وفي إطار المسابقة المقبلة المزمع إقامتها في مالمو، احتوت هذه المدينة في العام 2013 على محاولات من قبل رئيس حزب اليسار المحلي لمنع مشاركة إسرائيل. وفي الوقت نفسه، طلبت السفارة الإسرائيلية من مالمو تشديد الإجراءات الأمنية بسبب أحداث الشغب العام 2009، التي تلت مباراة تنس بين إسرائيل والسويد.. وفي العام 2019 غرّم المشارك الأيسلندي بسبب عرض لافتة تضامن مع فلسطين خلال المسابقة التي أقيمت في تل أبيب. وقد بقي اسم إسرائيل في قائمة الدول المشاركة، لكن الضغوط تتزايد يوماً بعد يوم.
ما زال من الصعب توقع تداعيات الحرب وآثارها على مشاركة إسرائيل في المهرجانات والمعارض الدولية، فقد تكون النتائج أكثر صعوبة مما هي عليه الآن. لكن بحسب المؤشرات، لن يكون العام القادم مثالياً بالنسبة لإسرائيل، ليس فقط بسبب مقاطعتها وإنما أيضاً لعزلها نفسها وخوفها من المشاركة في العديد من الفعاليات. أما على صعيد القطاع الثقافي والفني الدولي، فلن يعود إلى ما كان عليه على الأقل في المدى القريب، فقد أثّرت تداعيات الحرب الإعلامية سلباً على حرية التعبير - وهي القيمة الأساسية التي ينادي بها هذا القطاع. لذا، فإن صمت هذا القطاع تجاه انتهاكات حرية التعبير سيُعتبر انتهاكاً لرسالته أمام العالم.