يتعاظم القلق في الأوساط الاقتصادية الإسرائيلية، على المستويين الرسمي والخاص، من مستقبل الصادرات الإسرائيلية في الفترة القريبة، وذلك على ضوء التقارير العالمية التي تتحدث عن تراجع في تقديرات النمو الاقتصادي العالمي، ما يعني تراجع حركة التجارة العالمية، التي تتأثر أيضا في "حرب فرض الجمارك" بين الدول الكبرى. وما يزيد الطين بلة، هو انخفاض قيمة الدولار أمام الشيكل، بقرابة 10% منذ مطلع العام 2018، ما أدى إلى فصل آلاف العاملين في قطاعات الصناعة، وبضمنها قطاع "الهايتك".
ومنذ عقدين من الزمن، حينما بدأت الصادرات الإسرائيلية تسجل قفزات ضخمة، وارتفاع حجمها بنحو 350% خلال الفترة السابقة، بات وزن الصادرات في احتساب النمو الاقتصادي الإسرائيلي أكبر من ذي قبل، ولذا فإن كل تراجع في الصادرات ينعكس بقدر أكبر على النمو. وهذا يأتي في الوقت الذي تُظهر فيه التقارير الإسرائيلية أن صادرات البضائع في حالة جمود منذ ست سنوات تقريبا، وأن ما يرفع الصادرات سنويا صادرات الخدمات، التي تحتاج إلى أيد عاملة أقل بما لا يقاس عن صادرات البضائع.
قيمة الشيكل وفصل العاملين
قال تقرير جديد لاتحاد الصناعيين، صدر في الأيام الأخيرة، إنه منذ مطلع العام 2018، جرى فصل 3230 عاملا في قطاع الصناعة، التي تصدّر للخارج. وقد ألقى التقرير باللوم على انخفاض قيمة الدولار أمام الشيكل، بنسبة تقارب 10% منذ مطلع العام 2018، ما جعل المردود المالي بالشيكل للصادرات أقل، وهذا يقلل بالربحية، وجدوى الإنتاج، لأن كلفة العمل تُدفع بالشيكل.
وحسب التقرير، فإنه فقط في قطاع المنتجات المعدنية تم فصل 605 عاملين، وفي صناعة الغزل والنسيج تم فصل 270 عاملا، وهو ما يمثل 1ر3% من الصناعة. ويقول اتحاد الصناعيين في تقريره إن "الاقتصاد يدفع ثمن عدم مبالاة بنك إسرائيل المركزي. فقد أصبح الركود قاب قوسين أو أدنى، ولكن نظام الحكم مشلول، في حين يتخلى محافظ بنك إسرائيل أمير يارون عن المسؤولية، فبدلا من التصرف كشخص مسؤول، فإنه ينثر البيانات الصحافية التي ليس لها أفعال ولا نتائج".
وكان تراجع قيمة الدولار أمام الشيكل قد وقع في مرحلتين، الأولى حينما تراجع في نهاية العام 2004، من مستوى 8ر4 شيكل للدولار، واستقر بين العامين 2005 و2007 في محيط 3ر4 شيكل للدولار. وفي اعقاب الأزمة المالية العالمية، انهار الدولار من ربيع العام 2007، وحتى النصف الثاني من العام 2009، إلى مستوى تراوح ما بين 4ر3 وحتى 2ر3 شيكل للدولار، ولاحقا عاد إلى محيط تراوح ما بين 7ر3 وحتى 9ر3 شيكل للدولار، حتى نهاية 2017، ليبدأ مسيرة تراجع من مطلع العام 2018، وحتى الآن، إذ يتم التداول به في محيط 5ر3 شيكل للدولار.
وعلى مر السنين، تدخل بنك إسرائيل بقوة في سعر الدولار، من خلال شراء الدولارات من السوق. إلا أن محافظ بنك إسرائيل المركزي الحالي أمير يارون، الذي تولى منصبه في خريف العام الماضي 2018، ينتهج سياسة محافظة جدا، ويمتنع عن تدخل البنك المركزي في سعر الدولار، وباقي العملات العالمية.
وقالت صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية إنه حتى الآن تجنب اتحاد الصناعيين التعليق على سياسة يارون. إلا أن تراجع أرباح المصدرين، وحتى تكبد خسائر، فرض على اتحاد الصناعيين المطالبة بتغيير سياسة البنك المركزي الحالية. وحسب الصحيفة، فقد انتقد العديد من المستثمرين في القطاع الصناعي هذه السياسة، التي تتسبب بخسائرهم.
وفي المجمل يطالب المستثمرون بتدخل بنك إسرائيل المركزي، بموجب السياسة التي كانت قائمة منذ سنوات، إذ اشترى البنك على مر السنين عشرات المليارات من الدولارات، ليرفع احتياطي العملة الأجنبية من 28 مليار دولار حتى نهاية آذار 2008، إلى أكثر من 105 مليارات دولار حاليا. ولكن الخبراء يقولون إن رفع قيمة الاحتياط لم يكن هدفه فقط رفع قيمة الدولار، وإنما بالأساس ملاءمة الاحتياط مع حجم الصادرات الإسرائيلية.
تراجع النمو العالمي
بموازاة ذلك، أصدرت منظمة التعاون والتنمية بين الدول المتطورة OECD تقريرا، خفضت فيه توقعاتها للنمو الاقتصادي العالمي في العام الجاري، من 2ر3% حسب التقديرات السابقة، إلى 9ر2%. وقالت المنظمة إن النمو سيتدهور أكثر في العام المقبل 2020، إذ هبطت التوقعات من 4ر3% سابقا، إلى 3% في التقديرات الجديدة. وهذا ما يزيد القلق لدى الأوساط الاقتصادية الإسرائيلية، الرسمية وفي القطاع الخاص، لأن هذا مؤشر لحركة التجارة العالمية.
وما يزيد قلق إسرائيل أن تراجع النمو يبرز في الدول الغنية المتطورة، ومن بينها أولى الدول المستوردة من إسرائيل، مثل الولايات المتحدة الأميركية، التي تحتل المركز الثاني بعد الاتحاد الأوروبي في استيراد البضائع الإسرائيلية، وتستورد حوالي 25% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية. وحسب OECD، فقد هبطت تقديرات النمو للعام الجاري في الاقتصاد الأميركي من 8ر2% إلى 4ر2%. وكذا بالنسبة لتقديرات النمو في دول الاتحاد الأوروبي، إذ تراجعت بالمعدل بنحو 5ر0%.
ويقول المحلل الاقتصادي أدريان بايلوت، في مقال له في صحيفة "كالكاليست"، إن من أبرز مسببات تراجع الحركة التجارية العالمية، وبالتالي تراجع النمو العالمي، هو الحرب التجارية القائمة بين الدول الكبرى، في العامين الأخيرين، ما خلق حالة من عدم اليقين بالنسبة للمستقبل.
وحذرتOECD من أن التوترات في التجارة الدولية لا تؤذي الطلب على المدى القصير فحسب، بل يمكنها أيضا أن تؤذي الإنتاجية والحوافز طويلة الأجل. كما حذرت OECD من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، سيؤدي إلى هبوط في النمو الاقتصادي في المملكة، وتصبح معرضة بصورة أكبر للركود، ويجري الحديث أيضا عن دول من أبرز الدول المستوردة من إسرائيل.
وقد حذر محافظ بنك إسرائيل المركزي أمير يارون في الأيام الأخيرة، من أنه "في حال وصول التباطؤ العالمي إلى قطاعات التكنولوجيا، فسيؤثر ذلك أيضا على صناعة الهايتك الإسرائيلية". ويقول مسؤولون في بنك إسرائيل إن الحالة التجارية العالمية، التي ستنعكس لا محالة على الصادرات الإسرائيلية، تأتي في وقت تشهد فيه إسرائيل عجزا كبيرا في الموازنة العامة، يلامس 4%، وعلى الحكومة اتخاذ تدابير اقتصادية للجم العجز واعادته إلى المستوى المحدد للعام الجاري- 9ر2%.
ولكن ما يطرحه المسؤولون بات صعبا، إذ أن إسرائيل تنهي العام الجاري في ظل حكومة موقتة، صلاحياتها ليست إلى الحد الذي يسمح لها باتخاذ إجراءات اقتصادية قاسية، خاصة وأن مسألة اجراء انتخابات ثالثة ما تزال مطروحة على جدول الأعمال، ولن تقبل الحكومة الحالية الإقدام على ضربات اقتصادية في ظل احتمالات الانتخابات.
وانتقد المحلل الاقتصادي في صحيفة "يديعوت أحرونوت" سيفر بلوتسكر السياسة الاقتصادية التي يعتمدها محافظ البنك المركزي يارون، وقال إنها ضعيفة، وليست قادرة على السيطرة على أجواء الدورة الاقتصادية، في ظل تعثر تشكيل حكومة جديدة. وقال إن تقديرات البنك المركزي تبعد عمليا مخاطر حالة التباطؤ الاقتصادي العالمي عن الاقتصاد الإسرائيلي، وكأن إسرائيل معزولة عن العالم، حسب وصفه.
وسيكون على الحكومة، حسب بلوتسكر، فرض إجراءات متشعبة من أجل توفير مبلغ 14 مليار إلى 15 مليار شيكل، هو العجز القائم في ميزانية العام الجاري، وكما يبدو فهذه ستكون على حساب ميزانية العام المقبل 2020، التي من المؤكد سيتأخر إقرارها، طالما لا توجد حكومة ثابتة. ويقول بلوتسكر إنه لأول مرة منذ فترة طويلة، سيتم تخفيض الإنفاق الحكومي الحقيقي بنسبة 1% تقريبا في العام المقبل، مع توفير أموال أقل مقابل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والنقل والخدمات الاجتماعية.
ويؤكد بلوتسكر أن توفير المبلغ المطلوب لا يمكن تحقيقه من دون فرض ضرائب جديدة على المواطنين، ما يعني جمود استهلاك الفرد، في أفضل الأحوال، بعد أن حقق الاستهلاك الفردي زيادات متواصلة في السنوات الأخيرة. ويضيف أن "هذه حزمة من التقليصات والضرائب الثقيلة والمؤلمة، حتى لو لم تكن الأثقل في تاريخ الاقتصاد الإسرائيلي".
واعترض بلوتسكر على تقديرات بنك إسرائيل، بأنه في حال شهد الاقتصاد الإسرائيلي ركودا، فإن ارتفاع البطالة سيكون ضئيلا جدا، وقال إنها تقديرات متفائلة بشكل مفرط، حسب وصفه.
وحذر وزير المالية الأسبق، وزير الطاقة الحالي، يوفال شتاينيتس، من أن استمرار عدم تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل، سيجعل شركات ومعاهد تقديرات الاعتمادات المالية العالمية، تخفض مستوى الاعتماد لإسرائيل، ما سيكلفها فوائد أكثر على القروض، ما يعني ارتفاع مستوى الدين العام.
وقد شهد الدين الإسرائيلي العام في الأعوام الثلاثة الأخيرة هبوطا حادا، ولأول مرّة هبط عن مستوى 60% من الحجم الإجمالي للناتج العام، إلا أن العجز الحاصل في الموازنة العامة، من شأنه أن يرفع حجم الدين مجددا، أيضا من حيث نسبته من إجمالي الناتج العام.