*معدل الأعمار في إسرائيل كما هو في الكثير من الدول في ارتفاع مستمر ويعتبر من الأعلى في العالم *خبراء ينظرون إلى هذا الأمر الإيجابي على أنه "مشكلة اقتصادية" ويطالبون باستيعاب المسنين في سوق العمل وإطالة سنوات العمل*
كتب برهوم جرايسي:
يعتبر معدل الأعمار في إسرائيل واحدا من أعلى المعدلات في العالم، إذ تجاوز معدل عمر النساء 84 عاما، وتجاوز معدل عمر الرجال 80 عاما، إلا أن هذا الأمر وبدلا من أن يسجل إنجازا في إسرائيل، تحول إلى مصدر قلق في المؤسسة الحاكمة وبأذرعها ذات الصلة، وهو ما يظهر أكثر في سلسلة حلقات حول الموضوع نشرتها صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية. وهذا يأتي أيضا بعد نشر توصيات لجنة تحقيق حكومية في مسألة مستقبل مؤسسة الضمان الاجتماعي، خاصة في ما يتعلق بمخصصات الشيخوخة، وكنا قد نشرنا عن اللجنة في عدد سابق من "المشهد الإسرائيلي".
ويقول تقرير "ذي ماركر"، الذي استند في حلقاته المتعددة إلى عدد من الخبراء في القضايا الاجتماعية، إن معدل الأعمار في العالم كله تضاعف في السنوات المئة الماضية، من حوالي 40 عاما إلى حوالي 80 عاما، خاصة في الدول المتطورة، ما جعل الكثير من دول العالم تسارع إلى وضع حلول لاستيعاب ارتفاع نسبة من تجاوزوا عمر التقاعد- 65 عاما بالمعدل بين الدول.
ففي اليابان 25% من السكان أعمارهم فوق 65 عاما، بينما هذه النسبة في الدول الأوروبية 20%، ولا تزال النسبة في إسرائيل أقل بكثير، وهي تدور حول 10%، ولكن كل المؤشرات تؤكد أن هذه النسبة سترتفع باستمرار وبوتيرة أسرع مما تتخيلها المؤسسة، نظرا إلى ارتفاع معدل الأعمار بشكل دائم في إسرائيل، وتراجع معدلات الولادة، باستثناء ولادات الأصوليين اليهود، إذ حتى بين المواطنين العرب تتراجع معدلات الولادة باستمرار.
ويؤكد التقرير أنه ليس فقط من هم في سن 65 عاما سترتفع نسبتهم في إسرائيل، بل أيضا الشريحة من عمر 75 عاما إلى 85 عاما سترتفع بوتيرة سريعة رغم ضعف نسبتها حاليا.
ويرى الخبراء أن ارتفاع معدلات الأعمار في إسرائيل يكشف أمورا أخرى، ومثلا سنوات العمل في العالم المتطور للفرد الواحد أكثر من إسرائيل، فالشاب والشابة بعد أن ينهيا التعليم المدرسي ينتقلان للخدمة العسكرية حتى عمر 21 عاما، ومن ثم ينتقلان إلى التعليم الجامعي، ويكون الشخص قد شارف على آخر سنوات العشرين من حياته حينما يدخل إلى سوق العمل بشكل ثابت، في حين أن معدل عمر الخروج من العمل في إسرائيل هو في حدود سن الستين، ما يعني أن الشخص يكون بالمعدل ما بين 20 إلى 30 عاما في جيل التقاعد.
وبالنسبة لخبراء الاقتصاد، فإن سنوات العمل لا تكفي لضمان راتب تقاعدي كاف، كما أن إطالة معدل الأعمار تهدد بخسائر وعدم قدرة على تنفيذ الالتزامات المالية للمؤمنين ضمن صناديق التقاعد، بمعنى الحال ذاتها في ما يتعلق بمخصصات الشيخوخة بموجب استنتاجات لجنة التحقيق السابق ذكرها هنا.
وحسب الإحصائيات، فإن عاملا منتظما في سوق العمل الإسرائيلية يعمل ما بين 35 إلى 40 عاما، وحينما يخرج إلى التقاعد، يعيش بالمعدل 17 عاما، يتقاضى فيها راتبا تقاعديا من توفيراته التقاعدية التي ساهم فيها مكان عمله، وهذه فترة عمل أقل بنسبة 33% مما كانت عليه حينما ظهر توفير التقاعد لأول مرة في ألمانيا قبل أكثر من 130 عاما، كما أن جيل التقاعد بات أكثر بكثير مما كان عليه قبل 13 قرنا.
وكانت لجنة تحقيق أقامتها وزارة المالية ومؤسسة الضمان الاجتماعي الحكومية قبل ثلاث سنوات، قد بحثت طوال الفترة الماضية في مستقبل مؤسسة الضمان الاجتماعي الحكومية، وقدرتها على تسديد التزاماتها في ما يتعلق خاصة بمخصصات الشيخوخة، وقد وضعت اللجنة توصياتها أمام الحكومة الإسرائيلية في الأسابيع الماضية.
ورأت اللجنة في فحصها الذي استمر نحو ثلاث سنوات أن التركيبة الديمغرافية في إسرائيل، من حيث معدل الأعمار، وتقلص نسبة المشاركين في سوق العمل، بالإضافة إلى تراجع المداخيل لعدة أسباب- كل ذلك سيؤدي إلى عجز في ميزانية مؤسسة الضمان بعد ما بين 30 إلى 40 عاما، وقضت بأن على الحكومة أن تعيد دينا لمؤسسة الضمان بقيمة 48 مليار دولار، على مدى 40 عاما.
وتقول اللجنة إنه بين العام 2038 والعام 2050 ستواجه مؤسسة الضمان عجزا في موازنتها، وأن كل من عمره اليوم 40 عاما وما دون سيتأثر من هذا العجز، وهذا العجز نابع من التغيرات في التركيبة الديمغرافية ومن أبرزها ارتفاع معدل الأعمار في إسرائيل، وارتفاع معدلات الحياة، وبموازاة ذلك ارتفاع عدد الشريحة السكانية خارج سوق العمل، وكذلك ارتفاع معدلات الولادة بين اليهود الأصوليين، في حين أنها في تراجع بين العرب، حسب ما تقر لجنة التحقيق.
وتوصلت اللجنة إلى استنتاج بأن الفجوة بين المداخيل من الأفراد وحجم مخصصات التقاعد والأطفال ستتعمق، وأصلا عملية تعمقها بدت ملموسة منذ العام 2010.
متغيرات
ويقول الباحث في شؤون الشيخوخة، الدكتور يعقوب بن شاؤول، إن هناك انطباعا خاطئا بشأن الشيخوخة، وكأنها تمتد على مدى سنوات طوال، ولكن الشيخوخة بمفهومها العلمي هي فترة زمنية محدودة، تتراوح حاليا ما بين 5 إلى 8 سنوات، وهي مرشحة للتقلص أكثر مع تطور العصر، وخاصة طالما أن معدل الأعمار مستمر في الارتفاع، بمعنى أنه حينما يتجاوز عمر الانسان 80 عاما، فإن من هم في عمر سنوات الستين والسبعين من حياتهم ليسوا ضمن الشيخوخة.
وحسب بن شاؤول، فإن الاشخاص ما بين 50 عاما و80 عاما يبدأون مرحلة جديدة في حياتهم ولها طابع خاص، وساق على هذا مثالين: الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس، الذي شارف على إنهاء العام الـ 88 من عمره، وهو لم يصل بعد إلى مرحلة الشيخوخة بمفهومها العلمي، بينما قائد أركان منظمة "الهاغاناه" الصهيونية في سنوات الأربعين من القرن الماضي كان يلقب بـ "الختيار" وهو ابن 52 عاما، وفي المقابل أيضا فإن وزير الدفاع إيهود باراك بات ابن 70 عاما، ولا يلقب بلقب "الختيار".
ويدعو بن شاؤول إلى زيادة سنوات العمل، أو عدم إلزام الشخص بالخروج إلى التقاعد في عمر التقاعد القانوني، إذا لم يطلب هو ذلك، فكثيرون يريدون الخروج إلى التقاعد، ولكنهم يؤكدون أن وضعهم الصحي يسمح لهم بالاستمرار في العمل.
ويقول تقرير "ذي ماركر" إن من أبرز متغيرات السنوات الأخيرة ارتفاع معدل الأعمار وانخفاض معدلات الولادة، ولكن أيضا مفاهيم الحياة ومستوى المعيشة. فقبل عقدين أو ثلاثة عقود كان معدل الأعمار في إسرائيل في سنوات السبعين من عمر الانسان، وكان المتقاعد يتطلع إلى حياة متواضعة يلبي فيها احتياجاته الأساسية. أما في العصر الحالي فإن المفاهيم تغيرت، فمعدل الأعمار بات في سنوات الثمانين، والمتقاعدون يعتبرون جيلهم على أنه "الجيل الذهبي" ويتطلعون إلى حياة برفاهية وقضاء فترات ممتعة في حياتهم، وهذه تكلفتها عالية، أضف إلى ذلك أن الخدمات الطبية والمساعدة الطبية البيتية باتت مكلفة، فمن سيحتاج مستقبلا لمساعدة مرافقة له في البيت، فإن التكلفة الاجمالية قد تصل شهريا إلى حوالي 4 آلاف دولار، في ظروف معينة.
وحسب تقديرات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فإذا ما بقي عمر الخروج إلى التقاعد 67 عاما، ففي العام 2050 سيكون ما بين 25% إلى 33% من السكان في جيل التقاعد، وأمام معطيات كهذه، تجد من الخبراء من يقولون لصحيفة "ذي ماركر" إن على إسرائيل أن ترفع جيل التقاعد، أكثر من 67 للرجال، وينتقدون قرار الكنيست ابقاء عمر التقاعد للنساء 62 عاما، حتى العام 2017.
ويقول تقرير دولي إن سبب 20% من ديون الدول المتطورة الأعضاء في منظمة OECD، يعود إلى ارتفاع معدل الأعمار، وارتفاع نسبة المسنين في تلك الدول.
توصيات الخبراء
ويقول خبراء في الشؤون الاجتماعية إن على إسرائيل أن تستعد وتضع مخططات في الاتجاه الاجتماعي والحقوق الاجتماعية، كي تكون قادرة على تقديم خدمات ضمان اجتماعية وصحية ومساعدات يومية للمسنين الذين يحتاجون إلى المساعدات، وهذا ليس فقط من خلال رفع القيمة الفعلية لمخصصات الشيخوخة، وإنما أن تجعل التوفير التقاعدي أمرا ملزما للجميع منذ جيل الشباب المبكر، إن كان للأجيرين أو المستقلين.
إلى ذلك يوصي الخبراء بخلق مفاهيم مجتمعية أخرى عن جيل الشيخوخة، وليس تلك السلبية القائمة، مثل النظر للمسنين وكأنهم قطاع خارج دائرة الإنتاج وخارج سوق العمل، فمثلا في دول متطورة مثل الولايات المتحدة وغيرها تم الغاء جيل التقاعد الالزامي، بمعنى أن الشخص يستطيع مواصلة العمل طالما رغب في ذلك.
ويقول خبراء إن على سوق العمل أن تبدأ باستيعاب المتقدمين في السن، وعدم إغلاق الأبواب في وجوههم، طالما هم على استعداد للانخراط في سوق العمل، علما أن سلسلة من التقارير التي صدرت في إسرائيل تحدثت عن أن صعوبة العثور على مكان عمل تبدأ حينما يتخطى الشخص عمر 40 عاما، ولكن الصعوبة تزداد بشكل كبير حينما يتخطى عمر 45 عاما، وبعد 50 عاما تكون احتمالات القبول في مكان عمل ضئيلة جدا.
وحسب الخبراء، فإن التغيير في سوق العمل يجب أن يأتي من ثلاثة اتجاهات: أصحاب العمل والعمال والحكومة، وعلى العاملين أن يفكروا بشكل دائم بأن يطوروا أنفسهم في مكان العمل وأن يسعوا دائما إلى رفع مستوى تأهيلهم المهني والعلمي، وأن يكون تأهيلهم متنوعا كي يكونوا قادرين على الانخراط في أكثر ما يمكن من فرص العمل.
ويواصل الخبراء في أحاديثهم لتقارير "ذي ماركر" بأنه كما أن إسرائيل استعدت لاستيعاب أكثر من مليون مهاجر من دول الاتحاد السوفياتي السابق في مجال سوق العمل، فإن عليها أيضا الاستعداد لضرورة توسيع سوق العمل من حيث تنوعه وطبيعته وزيادة عدد العاملين فيه، من خلال رفع سن التقاعد للنساء، والبدء في استيعاب المتقدمين في السن في سوق العمل، والتخلي عن منطق قائم منذ سنين طويلة في سوق العمل، وهو منطق رفض المتقدمين في السن في أماكن العمل.
النظرة الاستهلاكية والاقتصادية
في الخلاصة، فإن التقرير يحمل تناقضات عديدة، فهو يتعامل مع الأعمار على أنها "مشكلة اقتصادية"، ويتركز في موضوع الإنتاج من دون الالتفات إلى النظرة الإنسانية، وفي حيثيات تقارير "ذي ماركر"، وكما يظهر هنا أيضا، فإنه على الرغم من أن عمر التقاعد هو 67 عاما للرجال و62 عاما للنساء، إلا أن نسبة عالية من العاملين تختار طوعا الخروج إلى التقاعد قبل الوصول إلى عمر التقاعد الرسمي، وهؤلاء يتقاضون رواتب تقاعدية من صناديق التقاعد بموجب النسبة التي حققوها، ولاحقا يبدأون بتلقي مخصصات الشيخوخة من مؤسسة الضمان الاجتماعي الرسمية.
وهذا يعني أن إلغاء عمر التقاعد الإلزامي، أو اعتماد رفع آخر لعمر التقاعد، رغم أن إسرائيل تصل إلى السقف الأعلى بين الدول المتطورة في هذا المجال، لن يتناغما مع رغبات الجمهور الذي يسعى أيضا إلى قضاء سنوات استراحة عديدة في حياته.