"المشهد الإسرائيلي" – خاص، بقلم: بلال ضاهر
كان نمرود لامبرت ضابطا برتبة ملازم أول، عندما طلب منه قائد وحدة حرس الحدود الإسرائيلية أن يقف على رأس فصيل عسكري في قرية كفر برا في المثلث الجنوبي، والقريبة، حينئذ، من الحدود مع الأردن، الذي كانت الضفة الغربية ما زالت تحت حكمه. وتلقى لامبرت، في 29 تشرين الأول من العام 1956، قبيل ساعات من شن العدوان الثلاثي على مصر، أمرا بفرض حظر التجوال على كفر برا، وضبطه "من دون أية عواطف"، أي إطلاق النار على كل من يخرقه. وعندما صادف لامبرت مواطنين من القرية عائدين إلى منازلهم، رفض إطلاق النار عليهم وخرق بذلك الأمر الواضح الذي تلقاه من قائده. وكما هو معروف، فإن الوضع كان مختلفا في قرية كفر قاسم المجاورة. ففيها أطلق أفراد حرس الحدود النار على سكان القرية العائدين إلى منازلهم بعد دخول حظر التجوال حيز التنفيذ، وقتلوا، بدم بارد، 49 مواطنا في ذلك اليوم.
ونشرت صحيفة هآرتس، اليوم الأربعاء – 8.10.2008، لأول مرة، إفادات لضباط إسرائيليين رفضوا تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على كل واحد من سكان القرى العربية في المثلث الجنوبي، الذي يخرق أمر حظر التجوال أو يعود إلى قريته بعد دخول الأمر حيز التنفيذ. وتجدر الإشارة إلى أن القوات الإسرائيلية أعلنت عن حظر التجوال قبل سريان مفعوله بدقائق قليلة ومن دون علم المواطنين الذين كانوا في أعمالهم خارج قراهم.
وقال لامبرت إن سبب عدم تنفيذه الأمر بإطلاق النار على سكان كفر برا هو أنه رغم "أني تلقيت أمرا بإطلاق النار على كل من يخرق حظر التجوال ويتواجد خارج بيته، إلا أني لم أفعل ذلك لأني لم أشعر بأن هؤلاء القرويين هم عدو. ورغم أني كنت فتى، في الثانية والعشرين من عمري، فإنه كان واضحا لي أنه لا يجوز إطلاق النار على مواطنين وأن هذا كان أمرا غير قانوني".
وحول إصدار الأمر، قال لامبرت إن مقر سريته، التي كان قائدها النقيب حاييم ليفي، كان في مركز الشرطة في مدينة الرملة. وجمع قائد كتيبة حرس الحدود، شموئيل ميلينكي، الضباط الذين تحت إمرته لتوجيه مجموعة أوامر إليهم، عند الساعة الواحدة والنصف من ظهر يوم 29 تشرين الأول. وأوضح ميلينكي أن الحرب على وشك الاندلاع وأنه تم ضم الكتيبة إلى لواء بقيادة العقيد يسَسْخار شيدمي، وأن مهمة الكتيبة فرض حظر التجوال على القرى العربية بدءا من الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم نفسه. وأضاف ميلينكي إنه يتوجب إطلاق النار من أجل القتل على كل من يتواجد خارج بيته في أثناء سريان حظر التجوال.
وأضاف لامبرت أن قائد السرية، يهودا فرانكل، سأل "ماذا علينا أن نفعل بالقتلى والجرحى؟" ورد عليه ميلينكي "ممنوع معالجتهم". وسأل قائد الفصيلة أرييه منشاس "ماذا عن النساء والأولاد؟" وأجاب ميلينكي "من دون عواطف، حظر التجول يسري على الجميع". وتابع منشاس "وماذا عن العائدين من العمل (الذين لا يعرفون بأمر حظر التجوال)؟" وأجاب ميلينكي "الله يرحمهم، هكذا قال قائد اللواء" في إشارة إلى شيدمي.
وقال لامبرت إن "ميلينكي كان يمينيا متطرفا. وعندما أبلغنا بمجموعة الأوامر عرفنا أن حربا على وشك الاندلاع. وهو قال إننا سنفرض حظر تجوال كامل على القرى، ويفضل أن يسقط في المساء الأول عدد من القتلى في كل قرية، لأن هذا سيسهل ضبط حظر التجوال وسيساعد على تنفيذ المهمة في الأيام المقبلة. ولا أذكر الجملة بدقة، لكن الحديث كان عن عشرة قتلى في كل قرية".
وبعد الكشف عن مجزرة كفر قاسم، تم استدعاء لامبرت للإدلاء بشهادة في محاكمة عناصر حرس الحدود الذي ارتكبوا المجزرة. وقال لامبرت في هذا السياق إنه "كان علي أن أجَمّل إفادتي قليلا وعدم مهاجمة رفاقي. لم يكن الأمر لطيفا، فهؤلاء كانوا أصدقائي وأدركت أنه بأقوالي سأمس بهم وسأدخلهم السجن. وهذا صعب علي". وأضاف أنه "عندما سألوني في المحكمة لماذا لم تطلق النار، أجبت بأنه انتابني شعور بأنهم ليسوا العدو. كان عليّ خلال المحكمة أن أبرر لماذا لم أطلق النار. قالوا لي 'في قريتك لم يُقتل أحد، كيف تفسر هذا الإخفاق؟' وضغط عليّ محامو المتهمين 'لقد تلقيت أمرا بإطلاق النار'".
وسرد لامبرت ما شاهده في كفر قاسم بعد وقوع المجزرة مباشرة: بين الساعة الثامنة والتاسعة مساء اتصل به قائد السرية ليفي عبر اللاسلكي. و"قال لي، هل سمعت بما حدث في كفر قاسم. لقد حدث أمر مرعب وفظيع. هناك الكثير من القتلى. اذهب إلى هناك وأعطني تقريرا عما يحدث. هو قائد السرية وهو يرسلني أنا لمعرفة ما حدث هناك. سافرت بسيارة الجيب إلى كفر قاسم. وعندما وصلت اسودت عيناي. لم يكن أحد هناك. فقط عشرات الجثث المنتشرة في كل مكان. والعرب المحليون خافوا من الخروج من بيوتهم لمعالجة الجرحى، الذين من الجائز أنه كان ما زال في الإمكان إنقاذهم. لقد خافوا لأنه ما زال حظر التجول ساري المفعول". وأشار لامبرت إلى أن "الجيش أخذ غابرييل داهان وشالوم عوفر وبقية الجنود (الذين نفذوا المجزرة) في المساء نفسه. وتجولت وحيدا في القرية فيما عشرات الجثث من حولي".
"تصرفت تماما على غرار الشرطي النازي في ليلة البلور"
كان بنيامين كول قائد الجنود الإسرائيليين الذي تولوا ضبط حظر التجوال في قرية جلجولية، القريبة من كفر قاسم. وولد كول لأب كاثوليكي وأم يهودية. وتعرض كول، مثل غيره من اليهود، لتنكيل النظام النازي في ألمانيا. ويتذكر أحداث "ليلة البلور" في مدينته كولون الألمانية، عندما هاجم النازيون اليهودَ ودمروا بيوتهم وكنسهم وأحرقوا كتب التوراة وغيرها، في تشرين الثاني من العام 1938. وقال "عندما وصلت إلى المدرسة، كان يقف عند المدخل شرطي ألماني، أو على الأصح نازي. لم يكن متعصبا وحتى أنه بالإمكان القول إنه كان طيبا. نظر إليّ وأمرني بنبرة صارمة، لكنها كانت ناعمة أيضا، 'يا ولد، اركض بسرعة إلى البيت'. ومنذ تلك اللحظة تشوش كل شيء في حياتي".
وانتقل كول للحديث عن مساء 29 تشرين الأول 1956، وقال إنه بدأ سريان مفعول حظر التجوال عند الخامسة، "وبدأ العمال بالعودة من الحقول. كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة. وأبلغت الجنود عبر اللاسلكي بأني سأطلق عددا من الأعيرة النارية في الهواء. كان هناك عدد كبير جدا من العمال، وأطلقت النار في الهواء وصرخت بالعربية: هيا إلى البيت، بسرعة. تماما مثلما فعل ذلك الشرطي الألماني الذي حذرني في ليلة البلور. أطلقت النار في الهواء وهم (سكان القرية) هربوا وهكذا كان طوال الوقت. وجنودي قلدوني لكن من دون إطلاق نار، لأني منعتهم من ذلك. وصرخوا على العائدين: امشي، يلا، على البيت".
بعد ذلك تلقى كول أمرا بالتوجه إلى كفر قاسم. وقال إن "أول شيء رأيته كان ولدا اختبأ بين إطارات في صندوق شاحنة. أخرجته من هناك وعانقته وقلت له بالعربية 'لا تخف'. شاهدت جثثا قرب هذه الشاحنة. شالوم عوفر وقف جانبا. وحسب ما فهمت لم يكن هناك أي جريح، وبعد وقت قصير وصلت الشرطة وتسلمت القيادة".
وأضاف كول "لقد أدركت أنه تم تنفيذ أمر غير صحيح في كفر قاسم. وحتى في مرحلة إصدار الأوامر انتابني شعور بأن شيئا ما غير سوي هنا، وأنه نزل من أعلى". لكن كول شوّه الحقائق في المحكمة من أجل عدم المس بصديقه داهان، وقال "أردت أن أشهد من خلال محبة لداهان وعدم المس به".
تذكير
29.10.56 – أفراد شرطة من حرس الحدود يقتلون 49 مواطنا عربيا بينهم نساء وأولاد، وجرح 13 آخرين في كفر قاسم
6.11.56 – أول خبر في الصحف: "تشكيل لجنة تحقيق في أحداث كفر قاسم".
23.11.56 – عضو الكنيست توفيق طوبي، من الحزب الشيوعي، يكشف لأول مرة تفاصيل حول المجزرة في بيان عممه على مئات الأشخاص.
12.12.56 – رئيس الحكومة، دافيد بن غوريون، يبلغ الكنيست لأول مرة بـ "حدث فظيع ومرعب حدث بين ظهرانينا".
15.1.57 – بدء محاكمة عسكرية ضد 11 شرطيا من حرس الحدود اتهموا باقتراف المجزرة.
16.10.57 – صدور قرارات حكم: إدانة شموئيل ميلينكي بقتل 43 مواطنا وحكم عليه بالسجن 17 عاما؛ إدانة غابريال داهان بقتل 43 مواطنا، والسجن 15 عاما؛ إدانة شالوم عوفر بقتل 41 مواطنا والسجن 15 عاما؛ إدانة مخلوف هاروش وأبراهام إلياهو بارتكاب 22 عملية قتل، 7 سنوات سجن على كل منهما؛ إدانة غابريال عوليئيل وألبرت فحيما وإدموند نحماني بارتكاب 17 عملية قتل و7 سنوات سجن لكل واحد؛ وتمت تبرئة الشرطيين إسماعيل عبد الرحمن وسعيد شعبان ودانيال سيمينتس بعد اتهامهم بقتل مواطنين.
24.12.58 – بدء محاكمة يسسخار شيدمي، المتهم بقتل 25 رجلا في كفر قاسم، بعد أن أصدر أمرا بضبط حظر التجوال في منطقته من دون اعتقالات ومن خلال إطلاق النار كوسيلة وحيدة.
26.2.59 – تبرئة شيدمي من تهمة القتل، رغم أنه الضابط الذي صدرت الأوامر باسمه. وأدين بتجاوز صلاحيته عندما قرر فرض حظر التجوال من دون أمر من الحاكم العسكري؛ العقوبة: قرش واحد.
بعد تخفيف الحكم من خلال استئناف في 12.59، خفف رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الحكم على جميع المدانين مرة ثانية وبعد ذلك أصدر الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق بن تسفي، عفوا وأطلق سراح جميع القتلة.
(*) يرجى الإشارة إلى المصدر عند الاقتباس