المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • ارشيف الاخبار
  • 698

نظم "إعلام"- مركز إعلامي للمجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، في الناصرة،  ندوة تحت عنوان "حرية التعبير والخطاب الأمني في إسرائيل" حضرها مجموعة من الصحافيين والعاملين في جمعيات حقوق الإنسان. وحاضر فيها كل من د. فانيا عوز، المحاضرة في كلية الحقوق- جامعة حيفا، الناقد أنطوان شلحت، عضو إدارة "إعلام"، والمحامي مروان دلال من مركز "عدالة". وأدارها الصحافي برنارد طنوس.

 

 

تمت في هذه الندوة إثارة إشكاليتين كبريين في مجال حرية التعبير في إسرائيل. الأولى هي تلك الناتجة عن كونها قيمة قبلية، أي قيمة لا تمارس بكرم على من هم خارج المجتمع/ القبيلة اليهودي. وفي هذا الشأن شدّدت د. عوز على أن جميع حالات الرقابة التي مورست في إسرائيل ضد العرب كانت بسبب أنهم شككوا في الطابع اليهودي للدولة وأرادوا تغييره، وليس بسبب أنهم شكلوا خطرا على مجرد وجود الدولة.     

أما الإشكالية الثانية التي أثارتها د. عوز فهي تلك الناتجة عن التوتر بين احترام حرية التعبير كقيمة وحق إنساني وبين سوء استعمالها بشكل يقوي العنصرية الإسرائيلية ضد العرب سكان هذه البلاد وضد العرب عمومًا. وعللت د. عوز سبب وجود هذا التوتر بين احترام حرية التعبير وبين طريقة استعمالها من قبل اليهود تجاه المجتمع العربي بأنه يعود إلى فقدان القيم الكونية مثل المساواة واحترام كرامة الإنسان وحرياته، في الثقافة الإسرائيلية. أي أن الثقافات التي تحترم الآخرين وتحترم التعددية كقيمة كونية، خالية من الاشتراط الجنسي أو العرقي أو القومي، هي شرط للانسجام بين حرية التعبير وبين "كرامة الإنسان". أما في الثقافات المغلقة فيتم التعامل مع التعددية كقيمة "قبائلية" أي لها مصداقية داخل القبيلة، ويتم استعمال حرية التعبير باتجاه المس بـ"كرامة الإنسان". وبما أن الثقافة الإسرائيلية هي ثقافة مغلقة فاقدة للقيم الكونية، فإننا نصل لنتيجة مفادها أن حرية التعبير في إسرائيل فيما يتعلق بالعرب تمارس فقط في اتجاه وصفهم كسرطان، أو وصفهم كخطر ديمغرافي، أو المطالبة العلنية بموتهم أو ترحيلهم أو التنكيل بهم .

هذا التوتر والتناقض بين حرية التعبير وبين "كرامة الإنسان" في السياق الإسرائيلي يحتم، حسب د. عوز، ضرورة إعطاء أولوية لـ"كرامة الإنسان" على حرية التعبير.

وحول أهمية سياق الثقافة السياسية في التعامل مع حرية التعبير ومع حدودها، قالت د. عوز إنه في الوقت الذي يجب أن يتم فيه السماح بمظاهرة للنازيين الجدد في قلب حي يهودي في الولايات المتحدة (الأمر الذي حصل فعلا)، علينا أن نمنع أفيغدور ليبرمان من الحديث حول العرب، لأن مظاهرة النازيين الجدد تستبطن في الثقافة الأميركية كسلوك خارج تلك الثقافة ومناقض لقيمها، أما تصريحات ليبرمان فتستبطن في إسرائيل كجزء من الثقافة الإسرائيلية وكعامل مكون لها. أي أنه في الوقت الذي لا تغير فيه مظاهرة النازيين الجدد في قلب حي يهودي الثقافة الأميركية، تقوم تصريحات ليبرمان بتعزيز شرعنة العنصرية وقيمها في المجتمع الإسرائيلي.

وأضافت د. عوز أن أولوية "كرامة الإنسان" على "حرية التعبير" هي فقط التي تجعلنا نفرق بين تصريحات شخص متطرف كليبرمان وبين تصريحات عدد من النواب العرب، في الوقت الذي تحاول فيه الثقافة الإسرائيلية المساواة بين هذين النوعين من التصريحات- ونحن في اتجاه أن تصبح تصريحات ليبرمان أكثر شرعية- وتجعلنا نضع تصريحات العرب في قلب قيمة كرامة الإنسان، وتصريحات ليبرمان خارجها وبشكل يتناقض معها كليا. 

ولخصت د. عوز محاضرتها قائلة إن القيمة الكبرى التي تعطى لحرية التعبير- ضمن مجموعة الأغلبية- تكمن في جهل النخبة في إسرائيل لضعف التعددية الإسرائيلي. المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع غير تعددي بالمفهوم الكوني، وبالتالي فهو غير ناضج لحرية تعبير دون تقييدات.

هذا ولم تتطرق د. عوز في كلامها إلى أن إشكالية تقليص حرية التعبير تكمن في أنها لا تمس الأغلبية فقط، إنما تمس وبشكل أكبر مجموعة الأقلية العربية في البلاد.     

وفي محاولة لتفادي تلك الإشكالية طرح المحامي مروان دلال حلا مغايرا لا يناقض تماما مبدأ تقييد حرية التعبير، بل يقصر هذا التقييد على المسؤولين ومتخذي القرار، في الهيئات التنفيذية المختلفة، مثل الوزارات، الجيش، الشرطة وغيرها من أذرع الهيئة التنفيذية، بوصفها الهيئات المحتكرة لشرعية العنف في المجتمعات المختلفة. وأشار دلال إلى عدة أمثلة منها: تصريح إيهود باراك الشهير إلى صحيفة أميركية بأن ثقافة العرب هي ثقافة كذب، وتصريح بنيامين نتنياهو وهو في الحكم حول الخطر الديمغرافي للعرب، وتصريح تساحي هنغبي عندما كان وزيرا للأمن الداخلي لأفراد الشرطة بأن يمسكوا العصي ويضربوا العرب في النقب، مثل تلك التصريحات الصادرة من وزراء ورؤساء حكومة أخطر من تصريحات ليبرمان وهو مجرد عضو برلمان.

هذا التقييد لحرية التعبير، حسب دلال، لا يمس بالأفراد وباقي فئات الشعب، أو أعضاء برلمان منتخبين، حتى لو كان ذلك ليبرمان ومن يحذو حذوه.

عبر هذا "الحل" أخرج المحامي دلال الأقلية من دائرة الضرر تلك- الضرر الناجم عن تقييد حرية التعبير- لكن دون أن يحل التوتر والإشكالية القائمة بين حرية التعبير وبين تعزيز ثقافة عنصرية، كون جميع فئات الشعب اليهودي، وجميع مؤسساته- وليس فقط التنفيذية- من ثقافية وتربوية وإعلامية وحتى قضائية تسهم في إنتاج وتعزيز تلك الثقافة العنصرية.

وفي خضم مداخلته، اعترض دلال على المكانة التي أعطتها د. عوز للثقافة القانونية لدى النخب الإسرائيلية، قائلا إنه حتى النخب الإسرائيلية ليس لديها ثقافة أو تقليد قانوني، وأن الجامعات الإسرائيلية لا تدرس قضية إغلاق صحيفة الاتحاد، أي أن الوعي الأكاديمي لا يحوي ما يتعلق بالعرب وقضايا الحريات. وأضاف أن أول من أدخل قرار كول هعام إلى الثقافة القانونية الإسرائيلية كان أهارون باراك، وفقط بعد أكثر من 20 سنة لصدور القرار، أي أنه تم إعطاء أهمية لهذا القرار بأثر رجعي. كما انتقد دلال التأسيس النظري الليبرالي للحرية، أو بالأحرى لـ"السوق الحرة للآراء" الذي اعتمدت عليه الليبرالية في تثبيتها لأهمية مفهوم حرية التعبير، حيث الصحيح يطرد الخطأ، مشيرا إلى النقد الماركسي الذي أشار إلى عدم تكافؤ فرص الظهور في السوق، بين "الصحيح" وبين "الخطأ"، أو بالأحرى بين الآراء المختلفة. 

وأوضح الانتهاك الذي مورس على حرية التعبير في الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية، وفي الحرب الباردة، وضد السود في الولايات المتحدة، وأشار إلى أن النظام اليوم في الولايات المتحدة يعتبر نظاما معاديا لحرية التعبير وللحقوق المدنية، إذ يتم التجسس على المواطنين.      

وأنهى دلال قائلا بأن نظرة جافة للقانون الإسرائيلي لا تظهر دائما بأن تقييد حرية التعبير في إسرائيل يقتصر على العرب، بل على العكس، فقد برأت محكمة العدل العليا بعض الحالات العربية (ميعاري مثلا)، فيما أدانت بعض الحالات اليهودية (كهانا). لكن علينا أن ننتبه إلى أن جميع الإجراءات القانونية الوسيطة (الصلح والمركزية) برأت اليهود بينما أدانت العرب، بينما برأت العدل العليا العرب وأدانت اليهود. هذا يعني أن الثقافة القانونية العامة هي ثقافة معادية للعرب، حتى لو تمت في النهاية تبرئتهم.  

كما أشار دلال إلى أهمية دراسة المضامين القانونية للأحكام الصادرة في هذه القضايا حيث أنه حتى لو برأت ملفات عربية، فإنها تنتقد دائما المضمون، مثلا عندما سمحت بعرض فيلم "جنين.. جنين" فإنها وصفت المخرج بأنه "كذاب"، ويوصف المضمون العربي الإشكالي بأنه رأي على هامش المجتمع العربي، في الوقت الذي يقع فيه هذا المضمون في صلب الإجماع العربي.        

 

أما مداخلة أنطوان شلحت فقد اتخذت منحى آخر بوصفه ناقدا أدبيا وصحافيا، وبوصفه عمل في الصحافة وشغل مناصب مسؤولة في  تحرير صحيفة الاتحاد، ومن ثم في صحيفة فصل المقال، مشددا على الثقافة الإعلامية- وليس على الثقافة القانونية- وعلى ضرورة عدم السكوت عن أي من عناصر تلك الثقافة، خوف أن يتحول المسكوت عنه إلى "مفهوم ضمنا"،  بما يحمله المصطلح الأخير من شرعية وتطبيع. وأشار شلحت إلى مراحل الرقابة التي مرت بها الصحافة العربية، مبتدئا من الرقابة العسكرية، مرورا بالرقابة الذاتية، وانتهاء برقابة الممول.

وأشار أن السؤال الرئيسي الذي يطرح تبعًا لذلك هو "هل وسائل إعلامنا التجارية هي وسائل إعلام أقلية مكافحة تعاني من تمييز واضطهاد أم أن الأمر مختلف؟".   

وربط شلحت دور وسائل الإعلام هذه بحرية التعبير التي يؤمن بها ويمارسها المالك، والتي يمارسها الصحافي الفرد منطلقا من الحرية المعطاة له، ومن تعريفه لدوره.

وحول مرحلة الرقابة العسكرية- التي على ما يبدو استبدلت برقابة من أنواع أخرى- أشار شلحت مؤكدا على طرح د. عوز بأن مفهوم حرية التعبير هو مفهوم قوي لكنه قبلي (داخل القبيلة اليهودية) ويخلق وضعية من ازدواج المعايير، إلى أن المواد التي كانت تمنع الاتحاد من نشرها مثلاً في فترة الانتفاضة الأولى، كان صحافيو الاتحاد يتحايلون على الرقابة بإرسال المواد إلى صحيفة حداشوت التي كانت تنشرها بعد أن تجيزها الرقابة، ثم يتم نشرها في الاتحاد على أنها اقتباس من حداشوت.    

وأشار شلحت إلى أن الرقابة لم تقتصر على المواد، بل كانت تسعى لتتدخل في المفاهيم السياسية، مثل عدم استعمال مصطلح انتفاضة (في بداية الانتفاضة الأولى)، عدم استعمال مصطلح فدائي، استشهادي وغيرهما، ما يؤكد أن هدف الرقابة العسكرية لم يكن فقط منع معلومات "أمنية"، بل تصميم الوعي العربي في البلاد.  مضيفا أن انتهاء مرحلة الحكم العسكري لا يعني أنه تم استنفادها، إذ أن استنفاد أية مرحلة لا يتم إلا بعد استخلاص العبر، وبالتالي علينا أن ندرس إلى أي مدى أسهمت تلك الرقابة في سيادة ثقافة إعلامية معينة، وكيف انعكس هذا في الصحافة التجارية، كون الصحافة الحزبية ملتزمة صراحة بسياسة وأيديولوجية معينة.    

وحذر شلحت من أن قمع الإعلام العربي استخدم كذريعة لعدم إخضاعه لبحث معمق، الأمر الذي علينا أن نتحرر منه لنتخلص ما استطعنا من آثار تلك التجربة.    

وأضاف أن انتهاء فترة الحكم العسكري لا تعني انتهاء محاولة رسم الخطوط الحمر، "هناك عودة دائمة لرسم الخطوط الحمراء، وما حدث في السنة الأخيرة للصحافيين العرب هو محاولة كتلك، هناك انزعاج في المؤسسة الإسرائيلية من علاقات التفاعل الثقافي والإعلامي بين الصحافيين العرب وبين الصحافيين العرب في الخارج، تراكم هذه الحالات يؤكد محاولة المؤسسة لإعادة رسم الخطوط".

وانتقد شلحت دور وسائل الإعلام العبرية في عدم التصدي لحملات قمع حرية التعبير، ودورها في المساهمة في كم أفواه العرب، وإعطاء العنان لحملات قمع تمارس ضدهم. ووضع شلحت السياق الأمني أو الخطاب الأمني كجزء من أسباب عدم مناصرة الإعلام العبري لقيم حرية التعبير وحريات الصحافة، ما يعني أن هذه المعركة تبقى مؤجلة إنما لا بدّ أن تنفجر في وقت من الأوقات.        

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات