عاد إلى البلاد في أوائل الأسبوع الحالي رئيس الحكومة الإسرائيلية، اريئيل شارون، بشعور "المنتصر"، بعد ان أمضى أياما في "أحضان" الأسرة الدولية في الأمم المتحدة، هذه الأسرة التي كان محظورا عليه أن يتحرك فيها بحرية قبل 23 عاما وحتى قبل سنوات قليلة جدا، على خلفية مجزرة صبرا وشاتيلا التي اشرف عليها ووجهها في لبنان، وأيضا بسبب دوره الإجرامي في حرب لبنان بشكل عام.
لكن شارون اليوم على الساحة الدولية هو ذلك الزعيم الذي أخلى مستوطنات قطاع غزة، وفرض، في نظر بعض الأوساط، "سابقة" إخلاء مناطق فلسطينية محتلة منذ العام 1967، بغض النظر عما يقوم به في الضفة الغربية من استيطان وبناء جدار.
من جهة أخرى فإن نائبه، زعيم حزب "العمل" شمعون بيريس، عزّز مكانته في المنافسة على زعامة الحزب، بعد ان قرر ايهود باراك التنحي عن المنافسة، داعيا باقي المتنافسين إلى التنحي وإفساح المجال أمام شمعون بيريس لمواصلة تزعمه للحزب، ليظهر الحزب بصورة أقوى أمام حالة التفكك التي يشهدها الحزب المنافس، الليكود.
شارون منتصرا أمام حزبه
قد يكون شارون سجل الكثير من النقاط على الساحة الدولية، أمام حالة "الانهراق الزائد" على إسرائيل وحكومتها، بمزاعم اخلاء مستوطنات قطاع غزة دون النظر إلى الممارسات الخطيرة للاحتلال في الضفة الغربية، لكن النقاط الأساسية التي يحتاجها شارون اليوم هي في حزبه الليكود، حيث يواجه أزمة وتفوقا لمنافسه بنيامين نتنياهو على زعامة الحزب، وهو يريد استثمار النقاط على الساحة الدولية في داخل حزبه، ولكن ليس فقط تلك النقاط، فهو يسجل نقاطا أخرى، أيضا، مع كثرة حديثه عن مشاريعه الاستيطانية الرهيبة في الضفة الغربية.
لقد غادر شارون البلاد، في الأسبوع الماضي، إلى نيويورك بعد ان نجح في تقليص الفجوة بينه وبين منافسه نتنياهو بـ 11% بين منتسبي حزب الليكود. ففي حين كان نتنياهو يحظى في التاسع من شهر آب/ اغسطس الماضي بتأييد 47% منتسبي حزب الليكود، وشارون بـ 30%، فإن آخر استطلاع ظهر قبل سفر شارون بأيام قليلة أظهر ان نتنياهو يحظى بـ 44% وشارون بـ 38% بين منتسبي الليكود.
أما على الصعيد العام، على مستوى الشارع الإسرائيلي ككل، فإن شارون يحظى بنسبة تتراوح ما بين 50% الى 54% بينما نتنياهو يحظى بتأييد أقل من 26%، وهذه الفجوة بقيت على حالها.
غير أن الانقلاب الأهم من ناحية شارون هو ذلك الحاصل في اللجنة المركزية للحزب التي تضم 2900 عضو، حيث كان يواجه غالبية تريد الإطاحة به من خلال تعيين موعد مبكر للانتخابات لزعامة الحزب، وكان الحديث يجري عن شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، وهذا عمليا تصويت حجب ثقة عن شارون، لكن هذه الغالبية تقلصت كثيرا في الأيام الأخيرة.
فقد انتهج شارون أسلوبا متوقعا، هو التركيز على استطلاعات الرأي العام وليس على استطلاعات منتسبي الليكود، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد كثرت التقارير الصحفية في مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تحدثت عن أن الليكود بزعامة نتنياهو سيفقد الكثير من قوته البرلمانية، كما أن 16 نائبا من الليكود، على الأقل، سيفقدون مقاعدهم البرلمانية في أي انتخابات برلمانية قادمة، بسبب النظام الانتخابي الجديد في الليكود، الذي يمنع أي عضو كنيست في الحزب من أن يتنافس على المقاعد الإقليمية للحزب، ويحق له التنافس فقط على المقاعد القطرية، التي خصص لها المقاعد الأربعة والعشرين الأولى في القائمة، بمعنى أن 40 نائبا سيتنافسون على 24 مقعدا. في المقابل شن الطاقم الإعلامي لشارون هجوما إعلاميا تحت سؤال: "لماذا يسارع الليكود إلى خسارة الحكم، ولإجراء انتخابات عامة مبكرة طالما أنه يقود حكومة ثابتة، حتى الآن"؟.
كل هذه العوامل مجتمعة أدت الى حدوث شبه انقلاب في رأي مركز الحزب بشأن الانتخابات المبكرة لزعامة الحزب. ففي حين كانت الأغلبية مؤيدة لذلك، فإن آخر استطلاع أظهر ان هناك مناصفة بين التوجهين، مع توقع المحللين والمراقبين بأن الغالبية سترفض في نهاية الأمر تقديم موعد الانتخابات، وهو ما سيعتبر صفعة لنتنياهو، ومكسبا لشارون. وتقول الأنباء الواردة من محيط نتنياهو إنه على ما يبدو بدأ يستعد لهزيمة في مركز الليكود في هذه المسألة العينية بالذات.
من المتوقع مع عودة شارون، حاملا صوره مع زعماء العالم الذين "تهافتوا" عليه، أن تظهر استطلاعات رأي بين منتسبي الليكود أكثر "تفاؤلية" بالنسبة لشارون، لكن حتى الآن فإن أقصى ما يستطيع شارون تحقيقه، على ضوء تركيبة المنتسبين لحزب الليكود، هو تقليص الفجوة، إنما من الصعب عليه ان يحقق الأغلبية، إلا إذا حدثت سلسلة من التطورات واهمها ابقاء الانتخابات لزعامة الحزب في موعدها المقرر مسبقا في شهر نيسان/ ابريل القادم، واجراء حملة انتسابات جديدة للحزب تحدث توازنا، خاصة وأن الأبحاث والمعطيات السابقة، التي عالجها "المشهد الإسرائيلي" في الماضي، تدل على أن قطاعا واسعا من أعضاء الحزب من اليمين المتطرف لا يصوتون له في الانتخابات العامة، وهم منتسبون له كأداة ضغط للتأثير على وجهة الحزب وتركيبة هيئاته القيادية، ولهذا فإننا نلحظ فرقا شاسعا بين رأي منتسبي الليكود وبين رأي المصوتين له حتى الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في مطلع العام 2003.
بيد أن شارون لا يهمل قطاع اليمين المتشدد في الحزب وفي الشارع الإسرائيلي، خاصة وأنه كان "الزعيم والأب" لجمهور المستوطنين على مر حوالي 30 عاما، حتى انه لقّب ببلدوزر الاستيطان. ومن يتابع تصريحات شارون في الأيام الأخيرة فإنه يكثر الحديث عن مشاريعه الاستيطانية في الضفة الغربية، وليس فقط لوسائل اعلام اسرائيلية بل أيضا عالمية. وقال لصحيفة "واشنطن بوست" بوضوح إنه يعلم "أن واشنطن لن ترضى بهذه المشاريع ولكن لا مفر من تنفيذها"، وطبعا شارون هو شارون ولم يتغير، وهو لا يدلي بهذه التصريحات لمجرد الاستهلاك الإعلامي او لتحقيق مكاسب حزبية، بل هذا ما يتم تطبيقه على أرض الواقع في الضفة الغربية.
وفي حال تم تأجيل الانتخابات الداخلية لسبعة أشهر وأكثر، فإن هذه "فرصة" لشارون كي يثبت وعوده الاستيطانية، ويثبت للمستوطنين ما أعلنه سلفا بأن انسحابه من قطاع غزة هو من أجل التشبث بالضفة الغربية، وحينها بإمكانه أن يعيد الأغلبية اليمينية له في الحزب.
بيريس حسم الجولة الأولى
أما في حزب "العمل"، الذي لا يزال يتخبط في أزمته الداخلية، فقد حدد يوم التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر، يوما لمعركة انتخاب رئيس جديد للحزب، التي سيتنافس فيها، حتى الآن، اربعة مرشحين، بعد انسحاب ايهود باراك من المنافسة، وهم شمعون بيريس زعيم الحزب، ابن الثانية والثمانين، وعمير بيرتس رئيس اتحاد النقابات العامة الهستدروت، والوزيران متان فلنائي وبنيامين بن اليعيزر.
ونجح ايهود باراك في إحداث مفاجأة حينما أعلن في الأسبوعين الماضيين عن تنحيه عن المنافسة على زعامة الحزب، داعيا باقي المتنافسين لاتباع خطوته لصالح شمعون بيريس، والتوحد من خلفه، لإظهار لحمة الحزب أمام حالة التفكك التي يشهدها حزب الليكود بزعامة اريئيل شارون.
لكن باراك لم يلق من منافسيه سوى الهجوم الكاسح عليه معتبرين أنه هرب من منافسة خسارته فيها محسومة، لكن من المفارقات أن منتقديه وضعهم ليس أفضل منه بكثير، فقد دلّت كافة الاستطلاعات على أن بيريس سيجرف لوحده أمام كافة المتنافسين في حدود 40%، وفي حالة تعدد المرشحين فإن من يجتاز نسبة 40% يعتبر فائزا، ولا شك في أن هذه النسبة ستتعزز أكثر مع إعلان ايهود باراك عن انسحابه.
يراهن الكثير من المحللين على أنه مع اقتراب موعد الانتخابات فإن مرشحًا أو أكثر سيحذو حذو باراك لحفظ ماء الوجه، خاصة بنيامين بن اليعيزر الذي لا يحظى، وفق الاستطلاعات، بأكثر من 6%، وكذا الأمر بالنسبة لمتان فلنائي الذي تتراوح نسبة التأييد له في حدود 14%، أما عمير بيرتس فإن نسبته تتحرك بين 23% الى 26%.
لكن المنافسة في حزب "العمل" ستتأثر أيضًا بالتحقيقات البوليسية بشأن عملية تزوير وتزييف الانتسابات للحزب، خاصة بين أوساط الفلسطينيين في داخل اسرائيل، بعد أن تبين أن الآلاف منهم تم الزج بأسمائهم، وهناك من دفع "عنهم" الرسوم من دون علمهم، ويجري الحديث عن الغاء حوالي 30 ألف انتساب غالبيتهم الساحقة من العرب.
وحسب المعلومات التي رشحت لوسائل الاعلام الاسرائيلية فإن عمير بيرتس، لمتورط الأكبر في هذه التزييفات، لأن انصاره هم الذين قاموا بها، سيتعرض لتحقيق في وحدة التحقيق للغش والخداع، وطُلب منه تقديم تقارير وسجلات تمهيدا لهذا التحقيق، الذي ليس من المعروف كيف سينتهي.
على أي حال فإن الهدوء الظاهر في حزب "العمل" لا يعني أن الحزب قادر في المرحلة الحالية على استعادة "أمجاده" السابقة في سدة الحكم في إسرائيل. وإن انضواءه في حكومة شارون سيمنحه التقدم قليلا في أي انتخابات برلمانية قادمة، لكن لن يكون بمقدوره التفوق على الليكود. كما تقول الاستطلاعات انه في حال خروج شارون من حزب الليكود في أعقاب هزيمة قد يمنى بها على زعامة الحزب، وتشكيله لقائمة برلمانية تظهر وكأنها التيار "الوسطي" الصهيوني، فإن حزب العمل سيتضرر كثيرا منها. لكن هذه معادلات تدخل في إطار فرضيات لا يفضل الغرق فيها.
على أية حال فإن النظر الى شكل الحكم بعد أية انتخابات برلمانية تجري في إسرائيل لن يكون متعلقا بالنتيجة التي يحققها الحزبان الأكبران، وإنما بنتائج الأحزاب التي تدور في فلكيهما أو المستعدة للانخراط في حكومتيهما. وهذا الأمر يخدم الليكود وفق كافة المعطيات والأجواء العامة في إسرائيل، وعليه فمن الصعب تخيل انقلاب جدي في هذا المجال في الظروف الراهنة.
نتنياهو يتلقى صفعة من اليمين المتطرف
قالت وسائل إعلام إسرائيلية، في اليومين الاخيرين، إن رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق والوزير المستقيل، بنيامين نتنياهو، تلقى في الأيام الاخيرة صفعة مدوية من اليمين المتطرف، الذي يحاول نتنياهو الاعتماد عليه في اطار منافسته لأريئيل شارون على زعامة حزب الليكود.
وحتى اليوم كان يظهر وكأن اليمين المتطرف، الذي يتمثل في قادة مستوطني الضفة الغربية، سيلجأون لنتنياهو في سبيل اقصاء شارون عن زعامة الليكود، لكن رد اليمين المتطرف الذي يظهر الآن هو ما كان متوقعا حتى قبل اسابيع قليلة، وظهر الآن جليا بعد ان هدأت عاصفة اخلاء مستوطنات قطاع غزة، وعلى ما يبدو فإن هدوء العاصفة يجعل القوى والأطر السياسية تعيد حساباتها اعتمادا على تجارب الماضي.
وتجارب الماضي لنتنياهو مع اليمين المتطرف لا تخدمه في معركته الحالية، فهذه القوى اليمينية هي ذاتها التي عملت على اقصاء نتنياهو عن الحكم في العام 1999، في أعقاب اتفاقيتي واي واتفاق الخليل، اللذين بموجبيهما أخلت سلطات الاحتلال كبرى مدن الضفة الغربية.
وحساب قوى اليمين مع نتنياهو عسير جدا، فيذكر له هذا اليمين أنه نقض برنامجه الانتخابي منذ اليوم الأول لدخوله رئاسة الحكومة الاسرائيلية، فقد انتخب بفارق ضئيل عن منافسه شمعون بيريس بهدف القضاء على مسار اوسلو، وعدم التفاوض مع القيادة الفلسطينية وبشكل خاص مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي وصفه نتنياهو لاحقا بـ "الصديق"، حتى أن شارون ذكّره بهذه المقولة في الأسابيع الأخيرة.
كذلك فإن نتنياهو ظهر في عدة مواقف في العام الأخير بشأن ما يسمى "خطة فك الارتباط" والانسحاب من قطاع غزة، فقد أيد هذه الخطة وصوّت الى جانبها في الحكومة وفي الكنيست أكثر من أربع مرات، لا بل إنه كان من واضعي قانون تعويضات المستوطنين، هذه التعويضات التي دفعت وتدفع لهم مقابل خروجهم من المستوطنات، وهذه موافقة ضمنية من جهته على الخطة.
ولم يغادر نتنياهو الحكومة إلا حين بدأ يعمل حسابا لاقتراب موعد الانتخابات الداخلية لرئاسة الليكود، واعتقد أن انسحابه من الحكومة على خلفية الرفض المزعوم لإخلاء قطاع غزة سيحقق له النجاح.
لكن في المرصاد كان يقف له زعيم الجناح المتطرف عوزي لانداو، الذي قرر ان يدفع ثمن كرسيه الوزاري منذ التصويت الاول على الخطة المذكورة، وتم فصله من الحكومة مباشرة، في حين أن نتنياهو راوغ وأيد الخطة عدة مرات من أجل بقائه على كرسيه المخملي. وما سبق هو ما يجول في حسابات اليمين المتطرف، الذي يتغلغل في صفوف حزب الليكود من أجل التأثير عليه من الداخل، لكنه لا يدعمه في الشارع.
واستمرار ترشح لانداو لزعامة الليكود قد يؤثر كثيرا على سير المعركة الانتخابية في داخل الحزب، لأن لانداو لن تكفيه مهاجمة شارون، بل عليه منافسة ومهاجمة نتنياهو لكونهما يتنافسان على نفس قطاع الاصوات.
إن الموقف الجديد والمتوقع لليمين المتطرف هو عامل كبير ومؤثر جدا على ساحة المنافسة في حزب الليكود، إذا ما ثبت الأمر وقرر هذا اليمين اعلان الطلاق النهائي مع نتنياهو وقرر الجلوس في البيت، فإن شارون سيضمن لنفسه فوزا في حزب الليكود، ويبقى هذا في إطار الفرضيات الجدية.
في الأحوال جميعًا فإن هذه الخلافات الحزبية ليست مجرد اصطفافات، وانما تعكس حالة الأزمة الأيديولوجية التي يشهدها اليمين ومجمل الشارع الاسرائيلي، وهو ما عالجه "المشهد الإسرائيلي" في عدده السابق.
المصطلحات المستخدمة:
اريئيل, انقلاب, اوسلو, باراك, عوزي, الهستدروت, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو