كتب: سعيد عيّاش
في ظل ارتفاع وتيرة الحديث و"التحضيرات" الرسمية الاسرائيلية لتنفيذ الخطة الشارونية الاحادية الجانب لـ "فك الارتباط" والانسحاب، راحت العديد من الاوساط الرسمية والاعلامية الاسرائيلية في الاونة الاخيرة، تسهب وتبالغ كعادتها في مناقشة واستعراض تقديرات "الكلفة والثمن" الاقتصاديين المتوقعين لتنفيذ هذه الخطة المثيرة للجدل، ولا سيما خطة الانسحاب واخلاء المستوطنين اليهود من قطاع غزة.
وتساوقاً مع هذا التوجه، فقد غصت الصحف العبرية خلال الايام الاخيرة بالعديد من التقارير والمعالجات المنصّبة على هذا الموضوع، موضوع "الثمن الاقتصادي" الذي سيترتب على تنفيذ خطة الانسحاب واخلاء المستوطنات من قطاع غزة، والتي لن يكتمل تنفيذها، حسب ما اكده غير مسؤول اسرائيلي كبير، الا بعد اكثر من عام من الآن، على اقل تقدير، هذا ان "صدقت النوايا" الاسرائيلية المعلنة، ولم تظهر "مستجدات او تطورات تعيقها او تؤخرها، او حتى ربما تشطبها كليا" من جدول الاعمال الرسمي و تحيلها الى الجوارير الحكومية الاسرائيلية المكدسة بالخطط والمشاريع "المشطوبة" او المؤجلة؟!
واللافت للنظر ان الجهات "المهندسة" لخطة الانسحاب الاحادية الجانب، وكذلك تقارير الصحف العبرية ذاتها والتي راحت تنفخ وتضخم، لأغراض ومقاصد معروفة، في التقديرات والارقام المتعلقة بـ "الثمن"، لا تزال تتحاشى، او تتجاهل بصورة متعمدة، تناول احدى المسائل الاكثر جوهرية في كل هذا الموضوع، وهي مسألة "الاماكن" التي سيعاد توطين المستوطنين اليهود الذين سيتم اخلاؤهم من قطاع غزة، فيها، وهي مسألة تنطوي بلا شك على أهمية بالغة، بل وقد تكون لها أبعاد في منتهى الخطورة سواء بالنسبة للفلسطينيين ومشروعهم الوطني في الاراضي المحتلة منذ العام 1967، او بالنسبة لاكثر من مليون فلسطيني في الجليل والمثلث والنقب، خاصة وأن التقديرات والتوجهات المبدئية التي ترددها الأوساط الإسرائيلية في هذه الأيام ترجح إعادة توطين القسم الأكبر من عائلات مستوطني القطاع، البالغ تعدادها ما بين 1500 إلى 2000 عائلة يهودية، في مستوطنات في الجليل والنقب. وبالفعل فإن استشعار بعض الأوساط والقوى السياسية الوطنية في صفوف الجماهير الفلسطينية داخل الخط الأخضر، لهذا الخطر، دفعها أخيراً إلى توجيه مذكرات إلى رئيس الولايات المتحدة تنبه فيها من انعكاسات وعواقب ما يمكن أن ينجم عن نقل مستوطني القطاع للإستيطان في مناطق الجليل والنقب، من مصادرة المزيد من مساحات الأراضي القليلة المتبقية للمواطنين العرب لإقامة مستوطنات جديدة عليها، وهو ما يعني بالتالي المضي قدماً بل وإعطاء دفعة جديدة لإكمال حلقات مخطط السلطات الرسمية الإسرائيلية الهادف إلى تهويد الجليل والنقب بصورة تامة.
حسابات التكلفة ومصادر التمويل...
تتفاوت التقديرات الإسرائيلية بشأن تكلفة الإنسحاب وإخلاء المستوطنين من قطاع غزة، تبعاً لإختلاف الجهات التي تقوم بإعداد وإشاعة هذه التقديرات، ولكل منها أغراض ومآرب.
تقارير الصحف العبرية، التي تناولت هذا الموضوع بإسهاب، ساقت في البداية خلفية عامة جاء فيها أنه ووفقاً لمعطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، وحسب الأرقام التي ينشرها المستوطنون أنفسهم، فإن عدد المستوطنين اليهود في قطاع غزة يبلغ اليوم حوالي سبعة آلاف مستوطن يعيشون في 21 مستوطنة بعضها مستوطنات صغيرة جداً لا تتوفر فيها أية قاعدة أو بنية اقتصادية.
ويتضح من المعطيات أن ربع عائلات المستوطنين في القطاع، والبالغ مجموعها نحو 1450 عائلة، تعتمد في معيشتها على الزراعة، فيما تعتمد الأغلبية العظمى على العمل في مؤسسات القطاع العام كالمدارس والسلطات المحلية والمؤسسات الدينية ... الخ. وتتوجه نسبة كبيرة من المستوطنين العاملين يومياً إلى أماكن عمل تقع خارج قطاع غزة. وكانت مصادر الدخل الأخرى للمستوطنين في القطاع، وخاصة السياحة، قد إنهارت كلياً في اعقاب إندلاع انتفاضة الأقصى والقدس وتصاعد عمليات المقاومة والمواجهات المسلحة بين الفلسطينيين وقوات الإحتلال الإسرائيلي في القطاع. كذلك فقد هبطت قيمة المساكن التي يقيم فيها المستوطنون في القطاع، في السوق الإسرائيلية، إلى "الصفر" تقريباً، كما يقول مخمنو العقارات، ولم يعد هناك أي طلب عليها في هذه السوق.
وكانت تقديرات إقتصادية أولية أجرتها الحكومة الإسرائيلية في وقت سابق قد أشارت إلى أن تكاليف تنفيذ خطة الإنفصال عن قطاع غزة قد تتراوح ما بين 4 إلى 5 مليارات شيكل، وتشمل التعويضات التي ستدفعها الحكومة للمستوطنين الذين سيتم إخلاؤهم وتكاليف نقلهم إلى أماكن أخرى، إضافة إلى الإستثمار في تعزيز التدابير الأمنية المحيطة بالقطاع.
وطبقاً للتقديرات التفصيلية الرائجة في أوساط الخبراء الإقتصاديين الإسرائيليين فإن التكلفة الإجمالية لإخلاء وإعادة توطين كل عائلة متوسطة من عوائل المستوطنين في القطاع يمكن أن تتراوح ما بين 1,5 إلى 1,8 مليون شيكل. في الإجمال فإن تكاليف إخلاء المستوطنين من القطاع قد تصل إلى ما مجموعه 2,5 مليار شيكل.
وأكد خبير إقتصادي كبير في اللجنة التوجيهية التي شكلتها الحكومة برئاسة الجنرال غيورا آيلند، لإعداد خطط الإخلاء، أن "سقف التكلفة الإجمالية يمكن أن يصل إلى 3 مليارات شيكل". وأضاف: إذا أردنا أن نحسب ذلك بالعملة الأمريكية (الدولار) فإن إجمالي التكلفة المقدرة للإخلاء لن يتجاوز نصف مليار دولار أو 600 مليون دولار على الأكثر، منها 300 مليون دولار ستدفع نقداً لعوائل المستوطنين (بمعدل 200 ألف دولار لكل عائلة)، وحوالي 200 مليون دولار ستستثمر في إعادة توطين وتأهيل المستوطنين في أماكن أخرى.
غير أن محافل المستوطنين اليهود في قطاع غزة، التي باتت في معظمها على الأقل تسلم بفكرة الرحيل عن قطاع غزة، أبدت تحفظها وعدم رضاها إزاء هذه التقديرات شبه الرسمية معتبرة أن مبالغ التعويضات المقترحة للمستوطنين أقل بكثير من التقديرات الحقيقية. هذه الإشكالية في فارق التقديرات ستحل بواسطة قانون خاص تعمل الحكومة الاسرائيلية على إعداده تمهيداً لطرحه خلال فترة قريبة على الكنيست للتصديق عليه.
الآمال معلقة على التمويل الأمريكي
وقد تعمدت أوساط في وزارة المالية الإسرائيلية تضخيم العديد من الأرقام والمعطيات أملاً في الحصول على مساعدات أمريكية خاصة أكثر سخاء لهذا الغرض، حيث تحدثت بعض الأرقام المفبركة عن وجود 4 آلاف عائلة يهودية كثيرة الأولاد تعيش في مستوطنات قطاع غزة، علماً أن الرقم الحقيقي لمثل هذه العائلات لايزيد عن 400 عائلة؟!
وكانت مصادر حكومية إسرائيلية قد ذكرت بأن إسرائيل حصلت قبل عدة أشهر على التزام أمريكي بتقديم مساعدات مالية بقيمة عشرة مليارات دولار لأغراض أمنية، وتشمل هذه المساعدات ضمانات قروض بقيمة تسعة مليارات دولار ومنحة بقيمة مليار دولار. وأشارت المصادر إلى أنه سيكون بإمكان إسرائيل استخدام جزء من هذه المساعدات لتمويل خطة الإنفصال عن قطاع غزة. وأكدت مصادر أمريكية أنه تمت مناقشة طلب إسرائيلي للحصول على مقابل (تعويض) لتنفيذ خطة الإنفصال الأحادية الجانب، خلال لقاءات جرت في الولايات المتحدة بين مندوبين عن الإدارة الأمريكية ووفد من ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية، مشيرة إلى أن المساعدات الأمريكية "ستقدم لغرضين وهما تطوير النقب ومكافحة الإرهاب"، على حد قول هذه المصادر.
وأكدت مصادر حكومية إسرائيلية أنها تتوقع من الولايات المتحدة وإدارة الرئيس بوش تقديم مساعدة مالية جادة لتمويل تكاليف الإنسحاب وإخلاء المستوطنين من قطاع غزة.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي أريئيل شارون، قبل زيارته الأخيرة لواشنطن، إنه يعتزم بحث هذا الموضوع مع المسؤولين الأمريكيين. إلى ذلك فإن زعيم المعارضة العمالية في الكنيست، شمعون بيريس، تجند بدوره للإسهام في جهود تجنيد التمويل لتنفيذ خطة شارون الأحادية الجانب. حيث زار بيريس في وقت سابق من بداية الشهر الجاري واشنطن وبحث مع نائب رئيس البنك الدولي ومع موظفي الإدارة الأمريكية إمكانية تقديم مساعدات لإسرائيل للغرض المذكور. وقد لبى بيريس بذلك طلب رئيس الحكومة شارون الذي دعاه للتباحث مع نائب رئيس البنك الدولي حول تقديم منحة لإسرائيل بقيمة خمسة مليارات دولار لما وصف بـ "تطوير النقب"، وذلك في ضوء نوايا البنك الدولي تقديم منحة مشابهة لتطوير قطاع غزة بعد الإنسحاب الإسرائيلي المزمع. وقال بيريس إن مسؤولي البنك الدولي الذين التقاهم لم يرفضوا الطلب الإسرائيلي بشكل مطلق، مضيفاً أن جهات أمريكية اجتمع بها تعهدت أيضاً بتقديم مساعدات لإسرائيل في هذا الخصوص.