المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: ماجد كيالي
طرحت رحلة الرئيس عرفات الاضطرارية للعلاج في فرنسا العديد من الأسئلة، عن امكان سماح إسرائيل بعودته إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، من عدم ذلك، والتداعيات التي يمكن أن تنشأ عن مغادرته، داخل البيت الفلسطيني. ولكن السؤال الذي ظل يطرح نفسه بإلحاح، هو عن أسباب هذا العداء الإسرائيلي للرئيس الفلسطيني، برغم أنه وقّع اتفاق التسوية مع إسرائيل، وأنه الرئيس الوحيد الذي تمكن من إقناع غالبية شعبه بذلك، بحكم مكانته الوطنية والرمزية.

معروف أن إسرائيل، وعبر العقود الأربعة الماضية، خاضت معارك كثيرة ضد ياسر عرفات، فهي حاولت اغتياله مرارا، جسديا وسياسيا، وهي فرضت الحصار عليه، في محاولة لعزله وإضعافه، منذ حوالي ثلاثة أعوام، كما أنها جرّبت تخليق البدائل له، لكن كل هذه المحاولات آلت إلى الفشل، بسبب من أن أبو عمار ليس مجرد قائد سياسي أو مجرد رئيس، وإنما هو أكبر وأكثر وأعقد من ذلك. بالنسبة للشعب الفلسطيني، فهو زعيم هذا الشعب ورمز كفاحه الوطني وممثل قضيته وقاسمه المشترك، وهو المعبر عن قيامة الوطن الفلسطيني، ومن كل ذلك يستمد عرفات مصادر قوته وفي كل ذلك تتجذّر شرعيته، وعبر كل ذلك تكمن أسطورته.

ومشكلة إسرائيل أنها وهي تخوض معاركها هذه، تدرك تماما بأن استهداف الرئيس عرفات يعني العودة إلى مربع الصراع الأول، أو إلى المجهول، لأنه لن يوجد بعد عرفات، وفي المدى المنظور، البديل القادر على إقناع شعبه بالتسوية مع إسرائيل، أو بالتنازل عن المبادئ التي رفض أبو عمار التنازل عنها.

في الواقع فإن الشخصية الإشكالية والبرغماتية لعرفات حيرت إسرائيل، فالرجل هو صاحب قرار الكفاح المسلح ضد إسرائيل وهو صاحب قرار التسوية والتعايش معها. وهو صانع الثورة ومهندس الدولة. وقائد المفاوضة والانتفاضة في الوقت ذاته. وهذا الرجل هو الشخص الذي وحّد الشعب الفلسطيني، بمختلف تياراته، الوطنية والقومية واليسارية والدينية، من حوله. وهو الزعيم الذي ظل الشعب الفلسطيني يجمع عليه، بمختلف المراحل والمسارات، من مسيرة الثورة إلى مسار التسوية، وفي الكفاح المسلح وفي المفاوضة. وهو الذي استطاع نقل الوعي السياسي لشعبه من الشعارات إلى أرض الواقع، ومن التوهمات إلى الممكنات، ومن المطلق إلى النسبي، من فلسطين الكبرى إلى دولة في الضفة والقطاع.

أما مصدر العداء الإسرائيلي المزمن لعرفات، فهو ينبع، أولا، من إصرار عرفات على رفض الانصياع للاملاءات الإسرائيلية المتعلقة بعملية التسوية، لا سيما بالنسبة لقضايا الحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين والتوقيع على اتفاق ينهي الصراع؛ ولا شك أن هذا الرفض حطم الصورة النمطية التي رسمتها إسرائيل، وخصوصا حزب العمل، للقيادة الفلسطينية، بظنها أنها اعتادت تقديم التنازل تلو التنازل، تفهما لحساسيات إسرائيل وتفوقها؛ ثانيا، اعتبار عرفات مسؤولا عن ضعف الاستقرار السياسي في إسرائيل، فمنذ دخوله للأراضي المحتلة، لم تستمر حكومة إسرائيلية لكامل مدتها، وسقط عدة رؤساء حكومات وتم اغتيال رئيس وزراء هو اسحق رابين (أواخر العام 1995)؛ ثالثا، اتهام عرفات بالمراوغة والتلاعب، واستخدام اتفاق "اوسلو" بمثابة "حصان طروادة" لتدمير إسرائيل على مراحل، لا سيما أنه لم يتوقف عن التصريحات التحريضية، ذات الدلالات الرمزية؛ رابعا، اعتبار عرفات مسؤولا ليس فقط عن اندلاع الانتفاضة وإنما عن تحولها نحو المقاومة المسلحة بدليل بروز كتائب الأقصى وغيرها (التابعة لحركة فتح)، التي يتزعمها عرفات ذاته، في هذه المقاومة؛ خامسا، وأساسا فإن ما يدفع إسرائيل للتخلص من عرفات هو قناعتها بأن القضاء على هذا الرجل، الذي يعتبر رمزا للوطنية الفلسطينية المعاصرة، ويحتل عدة مواقع مركزية في العمل الفلسطيني (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وزعيم حركة فتح)، من شأنه أن يربك الساحة الفلسطينية وربما من شأنه أن يصعّب من إمكانيات قيام الدولة الفلسطينية؛ ولعل هذا يشكل مخرجا لإسرائيل للتهرب من عملية التسوية التي فرضتها الظروف الدولية والإقليمية.

وبرغم الملاحظات على إدارة عرفات للوضع الفلسطيني، فإنه من الإنصاف القول أيضا إن هذا الرجل، وبرغم كل الظروف الصعبة والضغوط الهائلة التي تعرض لها، ظل صامدا مسكونا بهاجس دوره التاريخي وقيمته الرمزية ومكانته في قلوب شعبه، وهذا ما جعل منه شخصية عصية على التطويع أو التنميط.

ولعل تفسير موقف عرفات في مفاوضات كامب ديفيد ثم طابا (2000 ـ 2001)، يكمن في حقيقة أنه ما كان بإمكانه، وهو زعيم الشعب الفلسطيني وقائد كفاحه التاريخي ورمزه الوطني، أن يذهب أكثر مما ذهب في التكيف مع الاملاءات الإسرائيلية، بعد أن قدم ما يمكن تقديمه لعملية التسوية في إطارها الانتقالي، لذلك فإنه عندما آن أوان الحل النهائي تمسك أبو عمار بالحقوق التي أقرها المجتمع الدولي للشعب الفلسطيني. وبسبب من براغماتيته العالية وحسه التاريخي وولعه بالمراوغة السياسية لم يجد أبو عمار تناقضا، بين تكيفه مع المطالب الإسرائيلية في المرحلة الأولى (الانتقالية) وصده لها في المرحلة الثانية، بعد أن انتابه شعور بأنه نقل شعبه من مرحلة الشتات والضياع إلى مرحلة الدولة، وأنه بات رقما في المعادلة الإسرائيلية الداخلية، وأنه أعاد العمل الفلسطيني إلى ساحته الأساسية بنقله مؤسسات منظمة التحرير وقواتها إلى الأراضي المحتلة.

والثابت أن استهتار إسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني وكرامته، هي التي دفعت ياسر عرفات نحو التشدد، بعد أن شاهد تملص إسرائيل من استحقاقات التسوية المطلوبة منها، بدعوى أنه لا مواعيد مقدسة، وبعد أن شاهد الجرافات تدرس الأراضي الفلسطينية لمصادرتها، والمد السرطاني للمستوطنات، وبعد أن لمس تلاعب إسرائيل بمآل الحل الانتقالي، بعد انتهاء فترته المقررة، في إطار اللعبة الانتخابية بين العمل والليكود. هكذا جاء خيار الانتفاضة، واحتضان عرفات لها انطلاقا من رؤية مفادها أنه في ظل هذه الأوضاع ينبغي الضغط على إسرائيل، عبر الانتفاضة والمفاوضة في آن معا، لدفعها لتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها.

وفي هذا الوضع بلغ الحقد مبلغه عند إسرائيل، فاتهمت عرفات بأنه لم يعد مؤهلا للتسوية، وأنه لجأ إلى العنف للضغط على إسرائيل، وأنه لم يعد له صلة، وأنه لم يعد شريكا للسلام، ثم اتهموه بالإرهاب..وهكذا.

ويمكن تبين تأثير عرفات ومكانته لدى إسرائيل من مراجعة بعض التحليلات الإسرائيلية. فهذا غاي بخور، مثلا، يعتبر أن عرفات:"نقل المجتمع الفلسطيني إلى العسكرة، وحرض المجتمعات العربية ضد إسرائيل وحاول تخريب العلاقات الاستراتيجية بين إسرائيل ومصر والأردن، ومس بشرعية إسرائيل في العالم العربي وأوروبا"(يديعوت أحرونوت 17/11/2001). ويرى أوري سمحوني أن "عرفات هو الخطر الاستراتيجي الأكبر على إسرائيل..انه يتآمر علينا. عرفات يقاتلنا بنجاح في ملعبنا الداخلي، ويناور على الرأي العام بواسطة الإعلام..يتحدث معنا عن السلام ومع رجاله عن عمليات..انه يتغلب علينا وسط الرأي العام العالمي..عاش عرفات أربع حكومات إسرائيلية..انه يأكلهم بدون ملح ويؤثر على أجندة إسرائيل أكثر من أي رئيس حكومة"(معاريف، 3/8/2001). ويحلل بن كسبيت مكانه عرفات من الجانبين، فهو عند الإسرائيليين"رمز للفقدان والموت، وعند الفلسطينيين أبو النهضة والأمل..أبو الأمة الفلسطينية ومؤسسها الذي قادهم لأربعين سنة في الصحراء وأعادهم مرة أخرى إلى رام الله وغزة وبيت لحم.. وبالنسبة للشعب اليهودي هو شيطان نموذجي خطير وغول بغيض.. يمثل دافعية القتل المنفلتة والإرهاب والكراهية"(معاريف 29/10/2004).

ورغم هذه الأوصاف فإن الإسرائيليين لا يرون بديلا لعرفات، على الأقل في المدى الراهن، وبحسب زئيف شيف فإن "أحدا في القيادة الفلسطينية لن يجرؤ على اتخاذ خطوات لتغيير جوهري، كوقف العنف واستئناف المفاوضات"(هآرتس 29/10). ويحذر بن كسبيت: "نحن قد نتوق لعرفات. فرغم مساوئه (كثيرة جدا)، لا يجب أن ننسى أن الحديث يدور عن الشخصية التي قادت الشعب الفلسطيني بكل فروعه. الوحيد الذي كان بوسعه أن يتنازل عن شيء ما، أن يقود شيئا ما. وبعد ذهابه، لن يكون واحد كهذا"(معاريف -2/10). ويؤكد يوسي ساريد (زعيم حزب ميرتس سابقا) ذلك بقوله: "لا يمكن معه، ومن المشكوك جدا أن يكون ممكنا بدونه. فقط عرفات، كان قادرا على أن يأخذ على عاتقه مسؤولية تقسيم البلاد والتخلي عن حلم فلسطين الكاملة"(يديعوت أحرونوت 29/10).

ويحاول ناحوم برنياع، بشيء من الموضوعية، إجراء تقييم لمسيرة عرفات في التالي:"عرفات حقق إنجازات غير مسبوقة على المستوى السياسي فقد سيطر على شعب بلا ارض ونجح في إبقاء القضية الفلسطينية في بؤرة جدول الأعمال الشرق أوسطي والعالمي طوال يوبيل من السنين. لكن، خلافا للنصب والاحتيال كانت لدى عرفات رؤية وفلسفة وطريق. هو اعتبر نفسه تجسيدا لفلسطين. هو الأخلاقيات والقيمة العليا. هو الأسطورة. سيرته التي تصل إلى فصل الختام بهذه الطريقة أو تلك، تضمنت الكثير من المصاعد والمهابط، لكنها لا تتضمن تنازلا عما اعتبر جوهريا في نظره: حق العودة. السيطرة على الأماكن المقدسة وموطىء قدم في القدس. هذه القيمة العليا هي البنية التحتية التي يتركها عرفات للقادمين بعده، وهي أيضا الأغلال التي توثق أرجلهم.. إسرائيل والولايات المتحدة ملزمتان بالتصرف بحذر شديد. محظور عليهما أن تتبنيا أو ترعيا مرشحا محددا. إذا فعلتا ذلك فستدمران فرص هذا الشخص مسبقا"(يديعوت أحرونوت 29/10).

المصطلحات المستخدمة:

اوسلو, يديعوت أحرونوت, هآرتس, حق العودة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات