المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 1439

برغم أن الاعتراف بحق الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة لهم، في الضفة والقطاع المحتلين، بات أمرا مفروغا منه في الوعي السياسي الإسرائيلي تقريبا، من اليسار إلى اليمين، ومن يوسي بيلين إلى ايهود أولمرت (وقبله أريئيل شارون!)، بعد أن كانت هذه المسألة من المحرمات، فإن إسرائيل ما زالت مترددة أو غير قادرة على الحسم بهذه المسألة على أرض الواقع.

 

والحديث هنا لا يدور فقط عن الثمن الباهظ الذي تطالب إسرائيل الفلسطينيين بدفعه، مقابل موافقتها على تمكينهم من تجسيد حقهم في دولة مستقلة، والذي يفترض منهم هدر حقوق لهم في الحدود والقدس واللاجئين، ولا عن محاولة إسرائيل فرض املاءاتها بوسائل القوة والإرهاب، ولا حتى عن التسلّي ببدعة "إنهاء الصراع"، إذ أن الحديث هنا يدور عن انشغال الإسرائيليين بتبرير هذه "الصفقة"، المفترضة، وتجريدها ليس فقط من القيم الأخلاقية، التي تستند إلى مفاهيم الحق والعدالة، وإنما تجريدها حتى من المفاهيم السياسية المتعلقة بالمصالحة أو بالمساومة التاريخية.

فالخطاب السياسي لدى الإسرائيليين، ينظر إلى عملية التسوية، المتمثلة بقيام دولة فلسطينية، على الأغلب، وكأنها تسوية بين الإسرائيليين أنفسهم، أكثر مما ينظر إليها باعتبارها تسوية مع الفلسطينيين. وتفسير ذلك أن التسوية، بالنسبة لهم تمسّ، مباشرة أو مداورة، تعريفهم لدولتهم ولهويتهم ولحدودهم: الجغرافية والبشرية والسياسية، كما لدورهم في هذه المنطقة، من جانب؛ وهي من جانب ثان تفرض عليهم مراجعة المرتكزات التقليدية للأيديولوجية الصهيونية، التي تأسست على مقولات من نوع: "أرض الميعاد"، و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ما يمس مبررات قيام إسرائيل ويشكك في أخلاقية قيامها، وهو ما لا ترغب به ولا تقدر عليه ولم تنضج له غالبية التيارات الإسرائيلية الحاكمة.

المهم أن التعبيرات الإسرائيلية، سواء جاءت على شكل الموافقة على منح الفلسطينيين دولة، أو الانفصال عنهم (باتفاق أو من دونه)، فإن تبريراتها ليس لها علاقة بالاعتراف بحقوق الفلسطينيين ولا بمصالحهم ولا حتى بإنسانيتهم. وفي الواقع فإن الإسرائيليين، يتعاملون، في هذا الأمر، انطلاقا من اعتبارات أهمها:

أولا، إنهم يرون أن ثمة مصلحة لهم في التسوية (كما يرونها أو يملونها)، لأنه سينتج عنها التخلّص من الخطر الديمغرافي، والحفاظ على الطابع اليهودي لإسرائيل.

ثانيا، إن التسوية ستتيح لهم التخلص من العبء الأمني والسياسي والاقتصادي والأخلاقي، الذي أنتجه واقع الاحتلال وواقع صمود الفلسطينيين ومقاومتهم العنيدة له.

ثالثا، إن مصلحة إسرائيل باتت تفترض التكيف مع المتغيرات الدولية ومسارات العولمة، التي جعلت العلم والتكنولوجيا والقوة الاقتصادية والمالية، الأساس في تحديد مكانة الدول على حساب العناصر التقليدية التي تستند إلى المساحة وعدد السكان والقدرة العسكرية.

رابعا، إن الانفصال عن الفلسطينيين والتخلص من الاحتلال بات في نظر إسرائيل خطوة ضرورية للحفاظ على صدقية النظام الديمقراطي المخصص لليهود. فالعرب زائدون عن الحاجة ومجرد ديكور؛ ومن ناحية ثانية فإن هذا الأمر بات ضرورة لها لتجنيب الإسرائيليين التشويهات الأخلاقية التي يلحقها بهم "احتلالهم" وعنفهم ضد الفلسطينيين! أما التشويهات أو الدمار التي تلحق بالفلسطينيين، فهذه ليست واردة كثيرا في حسبانهم!

 

بناء على ذلك يبدو طبيعيا أن تتجاهل التسوية الإسرائيلية مصالح الشعب الفلسطيني (الآخر) وحقوقه الشرعية، وأن لا تبالي بصوغ أية عناصر مستقبلية تتعلق بالعيش المشترك معه، بحكم الجغرافيا والديمغرافيا. فالآخر، بالنسبة للإسرائيليين، لا يظهر إلا في السياق، وكأنه فائض عن الحاجة، وليس على اعتباره شعبا أو حتى شريكا؛ فإسرائيل والشعب اليهودي هما المطلق والقيمة العليا.

هكذا وإزاء رفض إسرائيل التسليم، من الناحية العملية، بإنهاء الاستيطان والاحتلال، وممانعتها تمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم، المقترن بإصرارها الحفاظ على استمرار سيطرتها على الضفة والقطاع، بدعاوي أمنية وديمغرافية ومائية وأيديولوجية، فإن الفلسطينيين معنيون بتغيير المعادلات السياسية القائمة، طالما ليس في مقدورهم تحقيق مطلبهم بالدولة المستقلة.

ولعل ذلك يكمن في توجه الفلسطينيين نحو التحول من المطالبة بدولة مستقلة لهم في الضفة والقطاع، إلى المطالبة بإقامة دولة "ثنائية القومية" (عربية ـ يهودية)، على كامل أرض فلسطين التاريخية. ويمكن لهذا التحول الفلسطيني أن يشكل تحديا سياسيا وأخلاقيا لإسرائيل، التي ما زالت تتوخى قيام دولة فلسطينية على قياسها ووفق محدداتها وقيوداتها العنصرية والاستعمارية.

أيضا، من البديهي أن الفلسطينيين سيخسرون، في هذا التحول، مرحليا، حلمهم ومطلبهم بالدولة المفترضة، لكنهم على المدى الإستراتيجي، سيتمكنون من الحفاظ على وحدة أرضهم التاريخية ويحققون وحدة شعبهم. أما من وجهة نظر الصراع ضد المشروع الصهيوني فإن هذا الأمر يمكن أن يشكل هزيمة تاريخية له، فالدولة "ثنائية القومية"، ربما، تقوّض مشروع الدولة اليهودية ـ الصهيونية، وقد تخلق المجال، لاحقا، لفتح مسارات تحول الدولة الثنائية إلى دولة لكل مواطنيها، أو إلى دولة ديمقراطية علمانية.

المهم أن الحل المتعلق بالدولة "الثنائية القومية"، يمكن اعتباره بمثابة حل وسط يتجاوب، في آن معا، مع طروحات الانفصال ومع الطموحات القومية للطرفين المتصارعين، مثلما يتجاوب مع تعقيدات الصراع بينهما، التي تجعل من الانفصال شيئا مستحيلا أو تعبيرا، ولو غير مباشر، عن استمرار الاحتلال وسيطرة شعب على شعب أخر.

أما إسرائيل، فهي إزاء هذا التحدي، ستكون معنية بتوضيح ما تريده. إذ لا يمكن لإسرائيل الحفاظ على الجغرافيا والديمغرافيا، في آن معا، لأن هذا الوضع إما سيضعها في تناقض مع حدود الديمقراطية أو مع حدود اليهودية. وعليها حينها أن تختار، إما الحفاظ على طابعها كدولة الأكثرية اليهودية، في حدود إسرائيل، أو التخلي عن هذا الطابع وأيضا عن كونها دولة ديمقراطية، بالتحول إلى دولة أبارتهايد في كل إسرائيل/ فلسطين، كونها لا بد ستقاوم، ولكن إلى حين، واقع كونها باتت دولة "ثنائية القومية".

آن الأوان لوضع إسرائيل أمام خيارات وتحديات حقيقية، سواء أمام نفسها أو أمام العالم، وآن الأوان لرسم معادلات سياسية جديدة، من شأنها توسيع الخيارات التفاوضية للفلسطينيين، بعد هذا الانسداد الحاصل في مسيرة التسوية.

________________________

 

* ماجد كيالي- صحافي فلسطيني مقيم في سوريا

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات