المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ارتفعت، مؤخرا، الأصوات الإسرائيلية الداعية إلى شن حرب على لبنان وسورية، وتحديدا على حزب الله. وألمحت تقارير استخبارية بأن القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية لا تستبعد اندلاع حرب جديدة في المنطقة خلال الصيف القادم، علما بأن إسرائيل تشهد حاليا استعدادات ومناورات عسكرية مكثفة. وفي أواخر شباط الماضي، هدد عمير بيرتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، بضرب حزب الله عسكريا، لوقف تسلحه (يديعوت أحرونوت، 2007/2/28). ويعد بنيامين بن إليعازر من أبرز الرموز الإسرائيلية الداعية إلى شن حرب جديدة، وهو من أقطاب حزب العمل الإسرائيلي ووزير البنى التحتية في حكومة أولمرت. فمنذ الأيام الأولى لوقف إطلاق النار في آب الماضي، لم يتوقف بن إليعازر المقرب من بيرتس عن إطلاق تصريحاته القائلة بأنه يتوقع تجدد الحرب ضد حزب الله، خلال بضعة أشهر.

ومن المفيد الإشارة هنا، إلى أن بن إليعازر اشتهر بالمجزرة البشرية التي أشرف على تنفيذها في أواخر حرب حزيران 1967، والتي راح ضحيتها مئات الأسرى المصريين، كما كشف عن ذلك مؤخرا الفيلم الوثائقي الإسرائيلي الذي بث في القناة الأولى الإسرائيلية (معاريف، 2007/3/4). والمثير أن بن إليعازر يعتبر أحد الإسرائيليين المقربين من قيادة النظام المصري.

السؤال المطروح هنا: ما دامت إسرائيل، ومنذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار الذي أعلن عنه في 14 آب الماضي (قرار مجلس الأمن 1701)، لم تتوقف للحظة واحدة عن استعدادها للجولة العسكرية القادمة ضد حزب الله، فلماذا وافقت الحكومة الإسرائيلية ،إذن، وبالإجماع، على وقف إطلاق النار؟

في الحقيقة، شكلت الهُدَن (جمع هدنة)، تاريخيا، بين الصهاينة، من ناحية، والعرب، من ناحية أخرى، مطلبا دائما للصهاينة والقوى الغربية الداعمة لهم، وذلك في المرحلة التي تأخذ فيها ضربات المقاومة العربية بالنيل من نقطة الضعف المركزية في المجتمع الإسرائيلي والمتمثلة بالعنصر البشري، علما بأن المجتمع الإسرائيلي لا يستطيع تحمل عمليات الاستنزاف المتواصلة في بنيته البشرية. بمعنى، أن إسرائيل هدفت في الماضي، وتهدف في الحاضر، إلى انتزاع ما يسمى وقف إطلاق النار لتكسب الفرصة والوقت اللازمين لإعادة تنظيم قواتها وبنيتها العسكرية والأمنية، استعدادا لمواصلة تحديها الدموي ضد العرب، لتحقيق الأهداف الإستراتيجية التي لم تتمكن من تحقيقها في الجولة العسكرية السابقة، أو من خلال التحركات والضغوط السياسية في الفترة التالية لوقف إطلاق النار (هذا ما سأبينه لاحقا).

فما هي، إذن، الأهداف الأمنية والعسكرية الإستراتيجية التي لم تتمكن إسرائيل من تحقيقها في حرب تموز- آب الماضية؟ لقد أعلنت إسرائيل، عندما شنت هجومها العسكري الواسع ضد لبنان بأن الحرب تهدف إلى تحقيق الأهداف الأساسية التالية- أولا: تحرير الجنديين الإسرائيليين المأسورين لدى حزب الله. ثانيا: إحراز وقف إطلاق نار مطلق. ثالثا: نشر قوات الجيش اللبناني في كل أنحاء الجنوب اللبناني. رابعا: إخراج مقاتلي حزب الله من الجنوب. خامسا: إزالة نهائية لتهديد الصواريخ والقذائف المنهمرة على الإسرائيليين. وفي أوائل شهر آب، أي بعد مرور أكثر من أسبوعين على اندلاع الحرب، عندما عجز الجيش الإسرائيلي عن منع حزب الله من مواصلة إطلاق مئات الصواريخ يوميا على المدن الإسرائيلية الشمالية، قررت الحكومة الإسرائيلية شن هجوم بري واسع في الجنوب اللبناني، وبالتالي أعلن عن هدف إسرائيلي إضافي تمثل في احتلال الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني. وبالرغم عن أن الولايات المتحدة الأميركية مددت لإسرائيل، مرارا وتكرارا، الفترات الزمنية اللازمة لإنجاز الهدف الإستراتيجي الأساسي المتمثل بسحق المقاومة، وضغطت عليها بهذا الاتجاه، وبالرغم عن مراهنات بعض الأنظمة العربية بأن تنجح إسرائيل في تخليصهم من المقاومة، إلا أن مقاتلي حزب الله تمكنوا من تصعيد وتيرة القصف الصاروخي اليومي، وأبلوا بلاء عسكريا وأمنيا ومخابراتيا مهنيا ذكيا وشجاعا.

من الواضح إذن أن الأهداف الإسرائيلية السابقة، ليس فقط أنها لم تتحقق فعليا على الأرض حتى يومنا هذا، بل إن حزب الله احتفظ بقدرته على إغراق الشمال الإسرائيلي يوميا، وحتى جنوبي مدينة الخضيرة، وربما أبعد من ذلك، بمئات الصواريخ المتوسطة المدى. بل أثبت الحزب بأن له قدرة على قصف أهداف اقتصادية وعسكرية إستراتيجية، برية وبحرية، في العمق الإسرائيلي. وتبين أيضا بأن لدى مقاتلي الحزب القدرة على استهداف أهداف عسكرية بحرية متحركة، كما حدث حين قصف مقاتلوه سفينة "حَنيت" التي كانت تتحرك مقابل ساحل بيروت، واعترفت إسرائيل، آنذاك، بمقتل أربعة من جنودها، كانوا على متن السفينة.

إذن، الهدف الإسرائيلي الإستراتيجي الرئيسي في لبنان، والمتمثل في تجريد مقاتلي حزب الله من سلاحهم وتحويل الأخير إلى مجرد حزب سياسي عادي، لم يتحقق. وهذا ما يفسر معارضة إسرائيل غير المعلنة، لأن يستند قرار مجلس الأمن على الفصل السابع (الذي يسمح باستخدام القوة العسكرية الدولية لتنفيذ القرار)، وذلك كي لا يشكل مثل هذا القرار سابقة قد تمنع الجيش الإسرائيلي من "معالجة" حزب الله بحرية، في اللحظة التي يراها مناسبة (أمنون لورد، "مَكور ريشون"، 2006/10/5). من هنا، وإثر موافقة الحكومة الإسرائيلية على قرار وقف إطلاق النار، تركت الأخيرة الباب مفتوحا لمواصلة حربها في أية لحظة، وذلك من خلال إعلانها بأنها ستتعامل مع إعادة تزويد حزب الله بالسلاح والعتاد، عبر الحدود السورية- اللبنانية، باعتباره انتهاكا لوقف إطلاق النار، ما يعني احتمال تجدّد المواجهة العسكرية (غِرْشون إكْشْتَيْن، "مأْمَريم"، نوفمبر 2006).

وكما أشرت للتو، درجت إسرائيل، تاريخيا، على العمل لتحقيق أهدافها الإستراتيجية بالوسائل العسكرية، وإذا تعذر عليها ذلك، فتلجأ إلى تكثيف الضغوط السياسية. وهذا ما حصل ويحصل حاليا، بشكل واضح، منذ اتفاق وقف إطلاق النار. وتتجسد أبشع تلك الضغوط في تحريك إسرائيل لحلفائها اللبنانيين القدامى، للقيام بعملية تحريض وتشويه ضد المقاومة اللبنانية ورمزها سماحة السيد حسن نصر الله. ويقف حزب الكتائب والقوات اللبنانية (سمير جعجع) في طليعة لاعبي هذا الدور، علما بأن الحزب الأخير يعد من أصدقاء بنيامين بن إليعازر القدامى (منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية في أواسط السبعينيات). ويتواءم هذا النشاط مع تحرك زعيم الحزب الاشتراكي اللبناني (وليد جنبلاط) العدائي ضد حزب الله وروح المقاومة التي يجسدها. وبهدف التمهيد لتجديد الحرب العسكرية، كان لا بد أيضا من افتعال صراع طائفي مصطنع بين الشيعة والسنة اللبنانيين، على غرار العراق، بهدف عزل المقاومة اللبنانية وتصويرها بأنها مجرد أداة شيعية إيرانية- سورية في لبنان، وبالتالي إحداث عملية تآكل كبير في التأييد الشعبي العربي الإسلامي (السني!) الجارف للمقاومة، فضلا عن التسبب في تراجع شعبية رمز المقاومة اللبنانية (نصر الله). وتأمل إسرائيل، ومن خلفها الإدارة الأميركية، في أن تسهل هذه الضغوط اللبنانية الداخلية والعربية الخارجية، في المستقبل غير البعيد، من عملية محاصرة وضرب المقاومة عسكريا، بعد أن تتم محاصرتها سياسيا وفكريا وطائفيا.

اتفاقات وقف إطلاق النار: مقدمة لحروب جديدة

من خلال تحليل تاريخي- سياسي مقارن لبعض أبرز "الهُدَن" التي أُبْرِمَت بين إسرائيل والقيادات العربية (منذ حرب العام 1948 وحتى اتفاق وقف إطلاق النار في صيف العام 2006)، سأدلل على صحة زعمي الأساسي في هذه المقالة، والمتمثل في أن اتفاقات وقف إطلاق النار لا تعني بالنسبة لإسرائيل سوى اكتسابها المتنفس اللازم لإعادة ترتيب وتسليح قواتها، وترسيخ تحالفاتها، وتقوية مواقعها الإعلامية عالميا، تمهيدا للقيام بعمليات هجومية جديدة.

لعلنا جميعا يذكر ما عرف بحرب الكاتيوشا، في تموز العام 1981، والتي استمرت نحو أسبوعين، حيث عملت المقاومة الفلسطينية من الجنوب اللبناني، على قصف المستعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين، قصفا يوميا مكثفا بصواريخ الكاتيوشا، الأمر الذي دفع آلاف الإسرائيليين إلى الهروب من مستعمراتهم إلى مدن وسط فلسطين، وذلك بالرغم عن القصف الإسرائيلي المكثف برا وبحرا وجوا ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان. وعلى أثر الطلب الإسرائيلي "بوقف إطلاق النار" والضغط الأميركي والعربي الرسمي، تم فجأة، ومن خلال الوساطة الأميركية، إبرام اتفاقية "وقف إطلاق النار" بين حكومة بيغن والقيادة الفلسطينية. وقد تفرغت إسرائيل، إثر ذلك، وفي نفس الشهر (تموز من نفس العام)، لقصف المفاعل النووي العراقي وتدميره. وقد تلا ذلك، في أيلول من نفس العام، الإعلان عن "التعاون الاستراتيجي" بين إسرائيل والولايات المتحدة، علما بأن ذلك الإعلان لم يغير في جوهر العلاقات بين الطرفين، وإنما جاء للتأكيد على موقع إسرائيل المتميز في التشكيل السياسي- العسكري الجديد الذي كان الأميركيون يعملون على تأسيسه في المنطقة العربية، ذلك الموقع الذي يعد ركنا أساسيا في ما يسمى "الأمن القومي" لإسرائيل. وقد أكد ذلك الإعلان على العلاقة الطردية التصاعدية بين نجاعة العدوان الإسرائيلي ورفع مستوى "التعاون الاستراتيجي" بين تل أبيب وواشنطن، حيث كلما زادت هذه النجاعة توطد أكثر مستوى "التعاون الاستراتيجي" وبالعكس. وبالفعل، بعد أقل من عام على "وقف إطلاق النار" الذي عملت أثناءه إسرائيل على إعادة تنظيم بنيتها وقوتها العسكرية، احتلت الأخيرة لبنان وحاصرت بيروت في حزيران 1982.

ولو قارنا "الهدن" الإسرائيلية- الفلسطينية في لبنان مع الهدنتين الأولى والثانية بين الأنظمة العربية والصهاينة في العام 1948، سنلاحظ بأن الهدف الصهيوني في كل الحالات كان واحدا: كسب الفرصة لإعادة تنظيم الأوضاع الصهيونية استعدادا للعمليات الهجومية اللاحقة ضد العرب. إذ في الوقت الذي كانت تسود فلسطين مواجهات مسلحة بين سكانها العرب والمستوطنين الصهاينة المسلحين والمنظمين عسكريا، وعلى أثر مغادرة "المندوب السامي" البريطاني ميناء حيفا في 15 أيار 1948، تقدمت "الجيوش العربية" إلى فلسطين من الشمال والجنوب والشرق، وضربت حصارا بحريا وسيطرت، خلال أسبوعين، على المناطق الفلسطينية المخصصة للعرب حسب قرار التقسيم (باستثناء مدينة يافا)، بل أصبحت تلك الجيوش على مشارف تل أبيب التي تسبب سلاح الجو المصري في دمار مينائها. وإزاء ذلك، استنجد الصهاينة بالولايات المتحدة الأميركية التي مارست، إلى جانب بريطانيا، ضغوطا كبيرة على العرب لقبول المشروع البريطاني الذي أقره مجلس الأمن والذي يدعو الطرفين إلى وقف القتال لمدة أربعة أسابيع "مع التعهد بعدم إرسال مقاتلين ومواد حربية" أثناء فترة وقف إطلاق النار و"تطبيق العقوبات العسكرية والمدنية على من يخالف". وفي أوائل حزيران 1948 قبلت الجامعة العربية قرار مجلس الأمن (الذي عرف لاحقا بالهدنة الأولى)، كما قبله الصهاينة الذين ربطوا قبولهم له بادعائهم أن الدولة اليهودية أصبحت أمرا واقعا.

ماذا حدث أثناء الهدنة الأولى؟ أخلى البريطانيون ميناء حيفا (بدلا من شهر آب كما كان مقررا) فاستخدمه الصهاينة لأهدافهم الحربية (بعد أن دمر العرب ميناء يافا) وتمكنوا من إدخال كميات ضخمة من السلاح الثقيل والخفيف وعملوا على تموين مستعمراتهم بهدف الصمود لفترة أطول، كما قاموا بتصفية المقاومة العربية في المناطق التي يحتلونها واقتراف المزيد من المجازر واقتلاع آلاف العرب وطردهم إلى خارج فلسطين. وفي نفس الوقت، استغل الصهاينة الهدنة لجلب أعداد كبيرة من المستوطنين اليهود إلى فلسطين. وأمام هذه التطورات استؤنف القتال على كافة الجبهات، إلا أن الوقت كان متأخرا، والفجوة العسكرية والتنظيمية بين الطرفين كانت قد تضخمت كثيرا، الأمر الذي أدى إلى انسحاب القوات الأردنية من اللد والرملة اللتين احتلهما الصهاينة الذين واصلوا عملياتهم الحربية ضد القوات المصرية التي انسحبت من النقب وضد القوات السورية واللبنانية التي تراجعت إلى خارج فلسطين. وإثر ذلك فقط، وبعد أن احتل الصهاينة 78% من مساحة فلسطين التاريخية، صدر قرار مجلس الأمن بالهدنة الثانية (أواخر تموز 1948).

الانتفاضة السابقة والانتفاضة الحالية

لدى مواصلتنا عملية التشريح التحليلي المقارن واقترابنا من الانتفاضة الفلسطينية السابقة (1987- 1991) ماذا نلاحظ؟ من الملفت للنظر أن المشاريع السياسية الإسرائيلية (المدعومة أميركيا) يرافقها دائما التهديد بأنه "إذا لم يقبل الفلسطينيون" المشروع فإن "الجيش سيزيد من فعالياته" لتصفية الانتفاضة، كما قال في حينه إسحق رابين (العام 1989)، أثناء الانتفاضة الأولى، حين كان وزيرا للدفاع في حكومة إسحق شامير. كما، وفي نفس العام، اشترط مشروع شامير- رابين حول الانتخابات واختيار الوفد الفلسطيني المفاوض والحكم الذاتي "توفير جو خال من العنف أو التهديد أو الإرهاب"، بمعنى ضرورة إنهاء الانتفاضة.

وكما في الانتفاضة السابقة، سعت وتسعى المؤسسة الإسرائيلية في الانتفاضة الحالية إلى نزع المزيد من التنازلات الفلسطينية وإرغام الطرف الفلسطيني الرسمي على الرضوخ لها، حتى لو لبى هذا الطرف كل المطالب الإسرائيلية. وما المشاريع السياسية- الأمنية التي دأب الطرف الإسرائيلي - الأميركي على طرحها (مثل خطة رئيس المخابرات الأميركية جورج تينيت، وتقرير السناتور الأميركي ميتشيل وخطة خريطة الطريق)، بالتوازي مع الإجماع الإسرائيلي على ضرورة احتواء الانتفاضة وقمعها دمويا، إلا بهدف تطويع الانتفاضة سياسيا بعد الفشل في تطويعها عسكريا، علما بأن البند الأول والأساسي في كل هذه الخطط والمشاريع ثابت، ويتمثل في جوهره بالتخلي عن "العنف والإرهاب" وتجريد المقاومين من سلاحهم، واعتقال ومحاكمة وسجن "الإرهابيين" أو "المشتبه" بكونهم كذلك. وفي الانتفاضة الحالية، نجد السلوك الإسرائيلي شديد التطابق مع الانتفاضة السابقة. إذ نجد أريئيل شارون، إثر إعلان السلطة الفلسطينية موافقتها على "وقف إطلاق النار"، في حزيران 2001، يهدد قائلا: "سنواصل التهديد بالقوة العسكرية واستخدامها إذا لزم الأمر.. حتى تقتنع السلطة بأن لا خيار أمامها سوى العملية السياسية" (يديعوت أحرونوت، 2001/6/17). كما أكد شارون بأن إسرائيل "لا تطالب بتخفيف أعمال العنف أو الحد منها بل بوقفها تماما" والمطلوب إسرائيليا "التوقف الكامل للإرهاب والعنف والتحريض" و"ليس فقط جهود بنسبة مائة بالمائة ولكن نتائج بنسبة مائة بالمائة" (المصدر السابق). وكلنا يذكر ماذا فعل الجيش الإسرائيلي بعد أسابيع قليلة من الإعلان عن "وقف إطلاق النار" (في حزيران 2001)، وتحديدا، منذ أواخر آذار 2002 وفي الأشهر التالية، من تصعيد عسكري إسرائيلي واجتياحات شاملة لجميع مدن ومخيمات الضفة الغربية، وقتل جماعي بالجملة، وتدمير أحياء بأكملها في المدن والمخيمات الفلسطينية واعتقالات جماعية واسعة. وينسحب هذا الأمر أيضا على التهدئة أو الهدنة الأخيرة (في تشرين الثاني 2006)، حيث تلتها عمليات واجتياحات عسكرية واسعة واغتيالات واعتقالات بالجملة في مختلف أنحاء الضفة الغربية، بالإضافة إلى التهديد المتواصل والمتصاعد بشن هجوم عسكري واسع على قطاع غزة.

الفلسفة الإسرائيلية خلف اتفاقات "وقف إطلاق النار" وحتمية الحرب القادمة

تتلخص الفلسفة السياسية - العسكرية الإسرائيلية من وراء قبولها أو فرضها لاتفاقات "وقف إطلاق النار"، وما قد يتبعها من مشاريع واتفاقات سياسية، في تكريس تفوق العنف العسكري الكولونيالي الإسرائيلي الذي يمارس ضد العرب والفلسطينيين، والذي (أي العنف الإسرائيلي) يحرم العرب من حقهم المشروع في الكفاح لتطوير قدراتهم العسكرية. وغاية اتفاقات "وقف إطلاق النار" والتحركات والمشاريع السياسية الإسرائيلية التي تليها، في نهاية المطاف، كَنْسْ بؤر المقاومة العربية والإسلامية وما ترمز إليه. وهذا ما يفسر، على سبيل المثال لا الحصر، التهويل الإسرائيلي لصفقة السلاح الأخيرة بين روسيا وسورية، بقيمة مليار دولار، والتي تشمل، حسب الإدعاء الإسرائيلي، صواريخ متطورة جدا ضد الطائرات، ما يجعل جميع الطائرات الإسرائيلية التي تتحرك شمال الدولة اليهودية في مرمى تلك الصواريخ، وهذا ما يحتم على الصناعات العسكرية الإسرائيلية أن تجد "حلا" لهذا "التهديد" (التلفزيون الإسرائيلي، القناة الثانية، 2007/2/28). ويعكف الإعلام الإسرائيلي هذه الأيام، على الترويج بقوة بأن الإيرانيين تمكنوا، منذ توقف الحرب الثانية على لبنان، من تهريب آلاف الصواريخ إلى لبنان، وخاصة تلك التي يتراوح مداها بين 170 و250 كم، وهي قادرة على الوصول إلى مدينة بئر السبع في أقصى الجنوب، ومدينة تل أبيب في الوسط، وهي بمثابة تهديد إستراتيجي للدولة اليهودية (يديعوت أحرونوت، 2007/2/28).

واستنادا إلى الفلسفة الإسرائيلية التي تقف وراء اتفاقات "وقف إطلاق النار"، وتماشيا مع ترك إسرائيل الباب مفتوحا لمواصلة حربها في آية لحظة، إثر موافقتها على قرار وقف إطلاق النار في آب الماضي، كما أشرنا سابقا، صرح شمعون بيريس (نائب أولمرت) بأن تزويد سوريا بالسلاح الروسي سيشجعها على اختيار طريق الحرب، لذا، على إسرائيل أن تمارس ضغوطا لإفشال الصفقة ("غالي تساهَل"، 2007/3/2). وينسجم هذا التوجه مع ما أشرنا إليه للتو، بأن لإسرائيل وحدها حق الحفاظ على تفوقها العسكري الكولونيالي، ولن تسمح لأي طرف عربي أو إسلامي الإخلال بهذه المعادلة.

إذن، المناخ الإعلامي والنفسي والسياسي الإسرائيلي والعربي واللبناني الداخلي (بدعم إسرائيلي- أميركي)، والاستعدادات والمناورات الإسرائيلية، كلها تصب في اتجاه شن حرب جديدة. وتعد هذه الحرب ضرورة إسرائيلية لرد الاعتبار لقوة الردع الإسرائيلية التي ثبت تآكلها في حرب الصيف الماضي، ولإعادة التوازن النفسي الداخلي للجنود الإسرائيليين الذين فقد العديد منهم ثقتهم بقياداتهم العسكرية والسياسية. فلا بد إذن من ضربة عسكرية "نوعية" وخاطفة، ضد حزب الله، وربما سورية، لترميم هيبة و"كرامة" القوات الإسرائيلية والأجهزة الأمنية والمخابراتية، بعد أن كشفت الحرب ضد حزب الله الواقع البنيوي والعملياتي العسكري المتدني للجيش الإسرائيلي، والتشوهات التي ميزت المنظور الحربي للقيادات العسكرية والسياسية، وضعف جاهزية الوحدات العسكرية التي زج بها في المعركة، وبالتالي الأخطاء الفادحة التي ميزت المنظور الحربي، ومحدودية القوة العسكرية والمخابراتية الإسرائيلية وزيف الأساطير التي حيكت حولها. وفي الواقع، كانت نوايا الاقتصاص من حزب الله و"تصفية الحساب" التاريخي معه بسبب تسببه في هزيمة الجيش الإسرائيلي شر هزيمة من الجنوب اللبناني في أيار العام 2000، دون اتفاقيات سرية أو علنية ودون مفاوضات، كانت هذه النوايا قائمة لدى القيادة الإسرائيلية قبل شن حربها في الصيف الماضي، وذلك تحديدا منذ شهر آذار 2006، أي قبل نحو خمسة أشهر من موعد الحرب التي شنت في تموز 2006. ففي شهادته أمام لجنة "فينوغراد" المكلفة بالتحقيق في الحرب، أفاد إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الإسرائيلية، بأنه قرر في آذار 2006 شن حرب عسكرية كبيرة ضد حزب الله ("هآرتس"، 2007/3/8). وأوضح أولمرت في شهادته لنفس اللجنة، بأن شارون، ومنذ تشرين الثاني 2005، أصدر أوامره للجيش الإسرائيلي بأن يجهز "بنك أهداف" في لبنان لقصفها. وقد شمل "بنك الأهداف" قصفا جويا لتدمير صواريخ "فجر" و"زلزال" البعيدة المدى (المصدر السابق).

وكي لا تتورط إسرائيل في حرب عسكرية واسعة وطويلة وغير مضمونة النتائج، خاصة على صعيد الجبهة الإسرائيلية الخلفية المكشوفة لصواريخ حزب الله، فإن بعض العسكريين الإسرائيليين، وفي مقدمتهم "جادي أَيْزِنكوط"، القائد الجديد "للجبهة الشمالية"، يؤيدون تبني إستراتيجية حرب ضيقة النطاق ضد حزب الله، وذلك لمنع التورط الإسرائيلي في جولة حربية جديدة بنفس حجم حرب الصيف الماضي، وبالتالي تفادي التبذير في الموارد والقوات الإسرائيلية، خاصة وأن على إسرائيل أن تعد قواتها وخططها العملياتية لمواجهة أعداء أشد خطرا عليها، مثل إيران وسورية، فضلا عن الاستعداد لمواجهة مستقبلية محتملة على "الجبهة الجنوبية" (أمنون لورد، مصدر سابق).

وخلاصة القول، شكل اتفاق "وقف إطلاق النار" في آب الماضي، تماما كما الاتفاقات التي سبقته وتلته مع العرب والفلسطينيين، مطلبا إسرائيليا هدفه الأساسي منح إسرائيل متنفسا زمنيا وإعلاميا ونفسيا يمكنها من الاستعداد لتنفيذ ضربات عسكرية جديدة حاسمة ضد بؤر المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وبالتالي تطويع العرب عامة، واللبنانيين والفلسطينيين خاصة، عبر فرض اتفاقيات تكرس تفوّق العنف الاستعماري الصهيوني.

(حيفا- 10/3/2007)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات