لا تزال حرب لبنان بعد أكثر من نصف عام على انتهائها، تشغل بال الإسرائيليين في الأسئلة التي تثيرها على كل الصعد السياسية والعسكرية والإدارية والاقتصادية. وبين كل هذه الانشغالات تحتل لجنة فينوغراد مكانا مميزا لأنها باتت في نظر الكثيرين مفتاح التغيير المطلوب على الأقل في المؤسسة السياسية. وليس صدفة أن يدور السجال الداخلي في إسرائيل هذه الأيام، سياسيا وقضائيا، حول نشر شهادات المسؤولين السياسيين والعسكريين أمام اللجنة التي حققت في إخفاقات حرب لبنان الثانية.
فقد ألقت الشهادات التي كُشف النقاب عنها، رغم عمليات الشطب الواسعة التي أجريت عليها بأوامر من الرقابة العسكرية، ضوءا ساطعا على طريقة تفكير القادة الإسرائيليين في ظروف الأزمة. والأهم أنها أشارت إلى طريقة تفكير هؤلاء بعد انتهاء الأزمة، وكيف يعثرون لأنفسهم، على الدوام، على المبررات والظروف المخفَّفة إذا ما فشلت مخططاتهم.
وقد رأينا ذلك في الطريقة التي تعامل بها قائد الجبهة الشمالية، الجنرال أودي أدم، وقائد فرقة الجليل، الجنرال غال هيرش، وأيضا طريقة رئيس الأركان، دان حالوتس، الذي اضطر هو الآخر لتقديم استقالته. لكن نموذج العسكريين في التعاطي وتقديم الاستقالة ليس معهودا في الحلبة السياسية. فالعسكري المستقيل يستطيع التوجه إلى العمل التجاري أو الأمني أو حتى السياسي. لكن رجال السياسة، حين يضطرون للنزول عن كراسيهم، يحكمون، في الغالب، على أنفسهم بالدفن في المجهول.
وهكذا، فإن الصراع حول الإسراع أو عدم الإسراع في نشر الشهادات صار الصراع الأبرز اليوم في الحياة السياسية الإسرائيلية لما له من أثر معنوي وقانوني على مكانة القيادات الأولى في الحكومة الإسرائيلية. بل إن الصراع على نشر الشهادات صار وسيلة للتنازع بين المستويين القضائي والسياسي في إسرائيل. فلجنة فينوغراد كانت خيار رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، لإبعاد خطر لجنة التحقيق الرسمية والمحكمة العليا. ولأن الأمر كان كذلك يدور الصراع في المحكمة العليا ذاتها التي فرضت على اللجنة نشر الشهادات، بما فيها شهادات أولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس ورئيس الأركان السابق دان حالوتس، قبل حلول عيد الفصح.
وقد تقدمت لجنة فينوغراد يوم أول من أمس (1/4/2007) بطــلب رسمـي إلى المحكمة العليا لتأجيل نشر محاضر الشهادات أمامها إلى ما بعـد نشــر التقــرير المرحلي في منتصف الشهر الجاري. وادعت اللجنة في طلبها أنها، بناء على قرار المحكمة العليا، بذلت الجهد من أجل تقديم موعد نشر الشهادات، لكنها توصلت إلى استنتاج بأنه عليها إعادة النظر في أمر النشر. وكتبت لجنة فينوغراد للمحكمة العليا أن هذه القضية تثير مشاكل ذات صلة بالوقائع، وبجوانب قانونية ودستورية غير بسيطة، وأنه "ليس بوسعها التفرغ الآن للانشغال بها، بسبب رغبتها في إتمام كتابة التقرير المرحلي في الموعد المحدد".
ومن المعروف أن إيهود أولمرت، في عمل اســتباقي، أعلن أن نشر شهادته وشهادات مسؤولين سياسيين وعسكريين فيه ما يعرض أمن إسرائيل وعلاقاتها الخارجية للخطر. وكانت اللجنة قد تعرضت لانتقادات واسعة جراء نشرها شهادتي كل من نائب رئيس الحكومة، شمعون بيريس والرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، عاموس مالكا.
غير أن معلقين سياسيين إسرائيليين أكدوا أنه ليس في نشر الشهادات أي خطر أمني أو سياسي دولي على إسرائيل بسبب أن النشر يخضع لاشتراطات الرقابة العسكرية التي تأخذ الجوانب الأمنية والعلاقات الدولية بالحسبان. لذلك، فإن الخطر الحقيقي الكامن في نشر الشهادات هو أثرها الداخلي، بما في ذلك العلاقة بين مكونات الحكومة ومختلف الأجهزة التي تقرر شؤون الحرب والسلام في إسرائيل.
وأثار طلب لجنة فينوغراد من المحكمة العليا إعادة النظر في أمر نشر الشهادات غضب سياسيين وعائلات قتلى الجيش في الحرب. ووجهت لجنة العائلات الثكلى في حرب لبنان الثانية رسالة شديدة اللهجة إلى القاضي إلياهو فينوغراد. وجاء في الرسالة "إنك عضو لجنة معينة وتابعة، وإنك بذلك تعيب أفعالك وأعمالك في كل حياتك حتى يومنا هذا". وطالبت لجنة العائلات الثكلى القاضي فينوغراد بالاستقالة من منصبه. وقالت له في الرسالة إن "شهاداتهم قد لا تكون شعبية، وفق تعبير رئيس الحكومة، لكنها بالغة الأهمية لاستعادة ثقة الجمهور بمؤسسات القضاء والدولة بأسرها، ومن المهم جدا كشف حقيقة ما جرى في الصيف".
كما أن رئيسة كتلة "ميرتس" في الكنيست، زهافا غالئون، التي كانت وراء مطالبة المحكمة العليا بنشر الشهادات قبيل نشر التقرير المرحلي، أبدت غضبها من طلب اللجنة. وقالت "يبدو أن اللجنة خضعت للضغوط التي مارسها رئيس الحكومة، وسواء كان هذا صحيحا أم لا، فإن هذا انطباع تبلور".