أين تقف الحرب الإسرائيلية على لبنان بعد اثني عشر يومًا من البدء بها في 13 تموز 2006؟ ما هي التداعيات التي تثيرها بالنسبة للوضع الداخلي في إسرائيل وأداء الحكومة الجديدة برئاسة إيهود أولمرت؟ ما هو مآلها، وكيف سيتراءى جوهر الإسقاطات التي ستترتب على هذا المآل على مستوى إسرائيل والمنطقة برمتها؟.
هذه الأسئلة وغيرها كانت في صلب العديد من الآراء والتقارير والمقابلات والتحليلات، وبالتأكيد ستكون في صلب العديد منها في المستقبل المنظور. إنما سنحاول أن نقدّم بعضًا من العناوين الرئيسة التي تمخضت عن الخوض فيها، لئلا يعيقنا الشجر الكثيف عن رؤية الغابة.
المرحلة الحالية
في رأي زئيف شيف، المعلق العسكري في صحيفة "هآرتس"، فإنه منذ بداية الأسبوع الحالي قررت إسرائيل "توسيع الحرب ضد حزب الله". هذا القرار اتخذته قيادة هيئة أركان الجيش وصودق عليه من قبل وزير الدفاع ورئيس الحكومة. الآن يجري الحديث- وفقًا لما يقول شيف- عن حرب ستستمر أسابيع، وعن الحاجة إلى وقت إضافي لعمليات برية مختلفة. من جهة ثانية فإن هذا القرار يعطي حزب الله وقتًا إضافيًا لإدارة "حرب استنزاف ضد السكان المدنيين" في إسرائيل، "إلا إذا تمكنت القوة البرية للجيش الإسرائيلي وسلاح الجو من تدمير منظومة الصواريخ في جنوب لبنان ومن تقصير أمد حرب الاستنزاف".
ويشير شيف، علاوة على ذلك، إلى أن هناك موقفًا لدى الإدارة الأميركية مفاده أن "الوقت العملياتي السانح لإسرائيل أقصر (مما تعتقد) ولا يتجاوز عشرة أيام حتى أسبوعين".
ويتابع: حتى الآن امتنعت إسرائيل عن تفعيل قوات برية كبيرة واعتمدت بالأساس على سلاح الجو. لكن رغم نجاح سلاح الجو يتضح مرة أخرى أن إنجازاته محدودة في كل ما يتعلق بالصواريخ القصيرة المدى. وينبغي توقّع أن يقوم الجيش الإسرائيلي بتوغلات في مناطق جنوب لبنان، في محاولة لتدمير أجزاء من منظومة صواريخ حزب الله. وإذا ما أفلحت الخطة فإن ذلك سيؤدي بالتأكيد إلى تقصير أجل حرب الاستنزاف ضد مواطني إسرائيل في شمال البلاد.
أما المعلق العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، فيرى أن الهدف المركزي للعملية البرية الحالية في جنوب لبنان هو: القتل، أي المسّ بأكثر ما يمكن من أفراد (مقاتلي) حزب الله. ويؤكد فيشمان أنه على رغم مرور حوالي أسبوعين على الحرب لا يزال الجيش الإسرائيلي "غير ناضج لأن يقدّم إلى المستوى السياسي الظروف التي تتيح إمكانية البدء بإجراء سياسي جدي. ليست هناك أية إشارة- لا سياسية ولا عسكرية- بمقدورها التدليل على أن شيئًا ما في مواقف مثلث حزب الله- إيران- سوريا قد تعرّض للصدع. ولا تزال هناك قيادة مركزية لحزب الله تدير القتال. صحيح أن جزءًا من منظومات القيادة والسيطرة قد تعرّض للمسّ، لكن تم إيجاد بدائل له".
من ناحية موازية، مكملة، يرى فيشمان أن المستوى السياسي الإسرائيلي يسعى بكل ما أوتي من قوة لإظهار تواضع العملية البرية، وهو ما يعتبره غير جيد سياسيًا ومعنويًا. وهو يعتقد أن ذلك عائد إلى كون الوحل اللبناني ما زال طازجًا في الذاكرة الإسرائيلية الجمعية، في جهة وإلى الخوف من اندلاع أزمة حقيقية مع سوريا، في جهة أخرى.
مع ذلك فإن فيشمان يؤكد أيضًا أن العملية البرية ستتواصل لمدة تتراوح بين أسبوع- عشرة أيام، ليبدأ بعدها الإجراء السياسي.
المراسل العسكري لصحيفة "معاريف"، عمير ربابورت، يرى أن الحرب ستنتهي من غير أن يرفع حزب الله الرايات البيضاء. وهو يرجّح الافتراض بأن يوقف الجيش الإسرائيلي إطلاق النار قبل إعادة الجنديين الأسيرين، وسيكتفي (الجيش) بأن يعلن قادته أننا "أضعفنا حزب الله" و"نشأت ظروف لإعادة المخطوفين إلى البيت". ومع أنه يؤكد أن البنية التحتية المادية لحزب الله ستتعرض للتدمير الكبير فهو يشدّد على أن المسّ بمقاتلي المنظمة لن يكون واسع النطاق.
تغيير الأجندة الإسرائيلية
من ناحيته يرى المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس"، ألوف بن، أن الحرب على لبنان فرضت أجندة إسرائيلية جديدة في مقدمة أولوياتها "الكفاح لكبح جماح القوى المتطرفة في الشرق الأوسط، التي تمثلها إيران وسوريا وحزب الله وحماس. هذا الأمر هو ما سيشغل منذ الآن إسرائيل وأيضًا الإدارة الأميركية وعناصر أخرى تقحم نفسها في شؤون المنطقة".
وأشار بن إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلي، إيهود أولمرت، أرسل في نهاية الأسبوع الفائت رئيس جهاز المخابرات الخارجية (الموساد)، مئير داغان، إلى واشنطن "ليتحادث مع كبار مسؤولي الإدارة الأميركية حول إيقاف التهديد النووي الإيراني".
ويصف بن، من ناحية أخرى، قرار المستوى السياسي الإسرائيلي بشنّ الحرب على لبنان بـ"المتسرّع". مع ذلك فهو يؤكد أن الجيش الإسرائيلي أعدّ خطط أدراج لمحاربة حزب الله، بل وحتى تدرب عليها. لكن النقص في الاستخبارات والصعوبات العملياتية وتخفيض الجهوزية قبل عملية الأسر تشهد على أن قيادة هيئة أركان الجيش، التي كانت منشغلة حتى الثمالة في الحرب على الفلسطينيين، لم تكن جاهزة بجدية لأن تحوّل جهدها الرئيسي نحو الشمال.
لكن بن لا يحاول الخوض في الإجابة عن السؤال: ما الذي دفع المستوى السياسي إلى اتخاذ هذا "القرار المتسرع"؟. وهو سؤال لم يطرحه أصلا.
تحديد الغايات و"الشروح المتدرّجة"
لعل هناك غاية واحدة رئيسة لهذه الحرب يكاد يتفق عليها الجميع- أو على الأصح ساد بشأنها اتفاق منذ اليوم الأول- تتمثل تعميمًا في "انتهاز الفرصة لبلورة قواعد لعبة جديدة في لبنان، ليس فقط حيال حزب الله وإنما أيضًا حيال سوريا"، على ما يقول البروفيسور المستشرق ايتمار رابينوفيتش، من جامعة تل أبيب، وهو "خبير" مختص بسوريا ولبنان أشغل في السابق منصب رئيس الوفد الإسرائيلي للمفاوضات مع سوريا ومنصب سفير إسرائيل في الولايات المتحدة.
وتتعلق قواعد اللعبة بمحور أساس، هو الردع الإسرائيلي.
في هذا الخصوص يضيف رابينوفيتش: "توجد هنا أربع غايات- حزب الله، لبنان، سوريا وإيران. ليست لدينا لا الأدوات ولا الرغبة في المجابهة مع إيران، وبالتأكيد على خلفية برنامجها النووي. لكن مقابل الثلاثة الباقين لدينا بشكل أكيد حيّز معيّن من النشاط. ومن بين هؤلاء جميعًا تبرز حكومة لبنان باعتبارها العنوان الأكثر راحة، رغم أن العنوانين الجوهريين هما سوريا وحزب الله. وفي الحالات جميعًا ينبغي أن نردّ بصورة قاسية لكن فاعلة، وليس فقط أن نفرغ غضبنا".
من جهته يؤكد شلومو بروم، الباحث في "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب، أن "قوة الاستفزاز (من طرف "حزب الله") ونتائج العملية (أسر الجنديين)" لا تتيح "لإسرائيل إمكانية العودة إلى قواعد اللعبة القديمة، لأن من شأن ذلك أن يبث رسالة إلى حزب الله وأيضًا إلى عناصر أخرى تنشط ضد إسرائيل أن في مقدورهم أن يبادروا إلى استفزازات آخذة في التصاعد دون رد حاد" (من جانب إسرائيل).
وفي رأي بروم أن "الرد" الإسرائيلي الذي لم يتأخر له عدة غايات، وهي كما يكتب:
* الغاية الأولى- جباية ثمن باهظ من مهاجمة أهداف في لبنان، سواء كان ذلك الثمن مباشرًا من الخسائر اللاحقة بحزب الله أو كان ثمنا سياسيا، عن طريق تقويض مكانة حزب الله داخل لبنان بواسطة المس بأهداف لدولة لبنان، مثل مطار بيروت ومحطة توليد الطاقة وعزل جنوب لبنان عن شماله. والفرضية هنا هي أن من شأن ضربات كهذه أن تصاعد الضغط الداخلي على حزب الله من أجل كبح جماحه ومن أجل نزع سلاحه في سياق لاحق. وكل هذه الأمور يفترض بها أن تعيد ترميم ميزان الردع أمام حزب الله.
* الغاية الثانية- إيجاد ضغط دولي على حزب الله وأوصيائه في سوريا وإيران من أجل أن يعملوا هم أيضًا على كبح جماحه، من منطلق الافتراض بأن الأسرة الدولية لا ترغب في رؤية لبنان يتحطم ثانية.
* الغاية الثالثة- إلحاق ضربة قاسية بقدرات حزب الله العملياتية في سبيل خفض قدرته على المس بأهداف مدنية داخل إسرائيل.
ويضيف بروم: من المشكوك فيه أن يكون في مقدرة مستوى التصعيد الحالي في ردود إسرائيل (كتب المقال بتاريخ 13 تموز الجاري) التأدية إلى تحقيق هذه الغايات، ويجوز أن تضطر إسرائيل إلى تصعيد ردودها أكثر فأكثر. واحتمال تصعيد كهذا يزداد أيضًا لأن لدى منظمة حزب الله وسائل رد أكثر قسوة مقابل إسرائيل، لم تلتجئ إليها حتى الآن (يقصد مثالاً قصف مدينة حيفا ومحيطها، الذي أصبح الآن من ورائنا وكذلك الأمر بالنسبة لتصعيد إسرائيل لردودها).
ويختم بروم بالقول: لكن إذا كانت إسرائيل تسعى (من وراء حربها) إلى نزع سلاح حزب الله فإن ثمة شكًا كبيرًا في إمكانية تحقيق هذه الغاية، وربما ستضطر إسرائيل للاكتفاء (فقط) بالعودة إلى قواعد لعبة معقولة أكثر، من قبيل إبعاد حزب الله من منطقة الحدود، على أمل أن يساعد هذا الانفجار الحربي السيرورات السياسية داخل لبنان التي قد تسفر في المستقبل عن بلوغ هذه الغاية (نزع سلاح المقاومة).
ما الذي يمكن استشفافه من رأي هذا الخبير الاستراتيجي؟.
1. أن إسرائيل، مهما يبلغ تصعيد عدوانها، لا تملك الإمكانيات لتبديد قوة حزب الله العسكرية.
2. وهي أيضًا لا تملك المفاتيح لتبديد قوة حزب الله السياسية في المشهد اللبناني الداخلي مع استمرار عملياتها الحربية، أما المستقبل فإنه مفتوح على جميع الاحتمالات وليس على احتمال التجاوب مع ما تمهّد إسرائيل الأرضية له فحسب.
3. الرهان إذن هو أن "تزرع" هذه الحرب الإسرائيلية الواسعة والمتدحرجة بذور الفتنة اللبنانية الداخلية القادمة، التي تبقى بمثابة المعوّل الرئيس عليه لما سيسفر عنه المستقبل، على الأقل من جهة إسرائيل.
بعد خمسة أيام من مقال بروم وزّع "مركز يافه" مقالاً لزميلة أخرى له في مركز الدراسات الإستراتيجية، هي عنات كوريتس، يحمل تاريخ 18/7/2006، قالت فيه إن الأهداف الأبعد للعملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة النطاق هي ما يلي: "إضعاف البنية التحتية العسكرية لـ(منظمة) حزب الله وحملها على عدم مواصلة الاستفزازات وتشجيع المعارضة لها في الساحة اللبنانية".
لكن الجنرال في الاحتياط، البروفيسور إسحق بن يسرائيل، رئيس برنامج الدراسات الأمنية في جامعة تل أبيب، يرى أن تحليلا حذرًا وواقعيًا للوضع يؤدي إلى نتيجة مفادها أن الغاية الرئيسة التي ينبغي لإسرائيل أن تتطلع إلى تحقيقها هي وضع حدّ للوضع الذي يكون فيه مليون مواطن إسرائيلي رهينة في "يدي منظمة لا تعترف بحقنا في الوجود في الشرق الأوسط". وتبعًا لذلك فإن الحرب على الكاتيوشا تصبح وسيلة وليست هدفًا، برأي هذا الخبير العسكري. وعندما ينقشع غبار الحرب "لن يكون من الأهمية بمكان ما هو عدد صواريخ الكاتيوشا التي دمرناها وما هو مبلغ مساسنا بالبنية التحتية لحزب الله وأفراده".
أما الخبير في الشؤون الأمنية رؤوبين بدهتسور فيعتقد أنه خلافًا للغايات التي صاغها أريئيل شارون للحرب على لبنان والمقاومة الفلسطينية، التي بادر إليها في العام 1982، فإن من واجب رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، أن يقلص قائمة الغايات الإستراتيجية القابلة للتحقق في الحرب الدائرة الآن ضد لبنان. ففي حين سعى شارون إلى أن يصوغ من جديد الشرق الأوسط كله وأن يغيّر النظام في لبنان لجهة إحلال نظام دمى في بيروت وأن يطرد الفلسطينيين نحو الأردن ويستبدل نظام الملك حسين بنظام فلسطيني، فإنه يتعين على أولمرت أن يتمحور حول لبنان، وحوله فقط. وهو يرى أن الوصول إلى اتفاق برعاية دولية يتم في إطاره نزع سلاح حزب الله ويتم إبعاد مقاتلي هذه المنظمة من الحدود مع إسرائيل هو "غاية يمكن بلوغها". وفي اعتقاده أن البنية التحتية لاتفاق كهذا قائمة في قرار الأمم المتحدة رقم 1559 لكن "على إسرائيل الإصرار على تدخل فاعل لقوى دولية تطبقه" على أرض الواقع.
وبمقايسة هذه التقديرات لأهداف العملية العسكرية الإسرائيلية فقط مع ما صدر قبل ذلك وما يصدر من تقديرات يصعب حصرها نستطيع القول إن الرهان العسكري الإسرائيلي على طحن حزب الله، الذي جاءت العملية المتصاعدة لتحقيقه، قد فشل وسقط وإن بقي حاضرًا رهان آخر هو إضعاف بنيتها العسكرية التحتية، وهو أمر ليس من العسير على خبراء غير عسكريين مثلنا أن يجزموا أنه قد لا يكون بفعل فاعل محدّد الهوية وإنما بفعل المواجهة الحربية ذاتها.
بيد أن بيت القصيد فيما يقوله الباحثان من "مركز يافه" وفيما يقوله الآخرون المقبوسون أعلاه يكمن في أن الحرب الحالية على لبنان إنما جاءت تمهيدًا لفتح شهيّة التطورات الداخلية اللبنانية نحو المزيد من ممارسة الضغط على حزب الله. وتلك مسألة يظل أمر تدحرجها منوطًا بالتطورات اللبنانية الداخلية.
أمام ما تقدّم فإن النتيجة الأهم حتى الآن، التي تبدو من تلك الحرب إسرائيليًا هي إخفاقها في إصلاح ما أفسدته عملية أسر الجنديين فيما يتعلق بقدرة الردع الإسرائيلية المتآكلة، فضلا عن بروز شواهد جديدة ملموسة على قدرة الردع لدى حزب الله، سواء بالنسبة لصنّاع القرار أو بالنسبة للرأي العام في إسرائيل.
"الكلب والذيل"
الحرب على لبنان هي الحرب الإسرائيلية الأولى، على الأقل منذ ربع قرن، التي يقف فيها على رأس الحكومة الإسرائيلية وفي قيادة وزارة دفاعها شخصان دون ماضٍ عسكري أو أمني. وبالتالي فهي تعتبر اختبارًا صعبًا لكل من إيهود أولمرت وعمير بيرتس.
مهما تكن تفاصيل هذا الاختبار الصعب فإن زعامة أولمرت بالذات هي الموضوعة على المحك، باعتبار "اقتضاب القيمة الحقيقية لوظيفة وزير الدفاع في هذه المواقف"- وهي مسألة سيتم توضيحها في سياق لاحق- وذلك من زاوية مقدرته كرئيس للحكومة على الوقوف بحزم وتصميم أمام جنرالات الجيش، بحسب ما يقوله الخبير في الشؤون الأمنية رؤوبين بدهتسور.
هؤلاء الجنرالات- يضيف هذا الخبير- يتأملون العالم عبر فوهة البندقية، وسيحاولون تصعيد العمليات العسكرية أكثر فأكثر، من منطلق الفرضية التي تمسك بتلابيبهم بأن "المشاكل في لبنان يمكن حلها فقط بواسطة القوة العسكرية".
وواقع الحال أنه وفق ما ارتسمت تطورات الأمور إلى الآن فإن المستوى العسكري هو الذي يقرّر مجريات الأحداث ميدانيًا. ويومًا بعد آخر يحصل هذا المستوى على ضوء أخضر من المستوى السياسي يفوضه بتوسيع نطاق العمليات.
هنا يثار السؤال التقليدي: من الذي يهزّ الآخر- هل الكلب هو الذي يهز ذيله، أم أن الذيل يهز الكلب؟.
في ضوء تعدّد "حروب إسرائيل" وواقع عيشها على أسنة الحراب تطوّر في الآونة الأخيرة في إسرائيل أيضًا مجال البحث، الذي يتناول مسألة العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري.
ولا يتسع المجال لعرض جميع النماذج التي طاولها هذا البحث، وفيها ما يحدّد جوهر هذه العلاقة، الذي جاء عليه بعض الخائضين في مجال البحث هذا. ولذا سنتوقف عند نماذج ما بعد العام 2000، وتنطوي على ما يسعف الراغبين في فهم إشكالية الحالة الراهنة المرتبطة بهذه العلاقة.
لعل أقرب نقطة زمنية يمكن الرجوع إليها من أجل توسيع الدائرة حول موضوع العلاقة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري في إسرائيل هي أيار 2000، بالتزامن مع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان.
تقول الرواية شبه الرسمية الإسرائيلية إن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنئذ، إيهود باراك، لم يفرض على الجيش الإسرائيلي الانسحاب الأحادي الجانب من جنوب لبنان فحسب، وإنما منع الجيش كذلك من "ترميم السياج الإلكتروني للحدود الدولية". وكان تسويغه لذلك هو أن الانسحاب سيتم وفقًا لاتفاق. وقد كان قائد هيئة أركان الجيش في ذلك الوقت، شاؤول موفاز، من أشدّ المعارضين لهذا الانسحاب.
وعلى خلفية وقائع الانسحاب من لبنان وما أبرزته من خلل العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري صرف موفاز جلّ اهتمامه لتحضير الجيش لـ"المواجهة القادمة" مع الفلسطينيين، وذلك قبل حوالي عام من اندلاع الانتفاضة الثانية، رغم أن طلبه بزيادة الميزانيات المخصصة لهذا التحضير جوبه بالرفض من قبل باراك.
غير أن الانتفاضة الثانية أبرزت، بصورة جوهرية، ما يسميه المعلق الصحافي عوفر شيلح "الاقتضاب القائم في وظيفة وزير الدفاع". فإن هذه الوظيفة تكاد تكون معدومة عمليًا، برأيه. صحيح أنه كان هناك في تاريخ إسرائيل وزراء دفاع أقوياء، مثل إسحق رابين، لكن عمومًا فإن وزراء الدفاع فيها ضعفاء جدًا. وهذا الضعف يبرز لدى حصول "مواجهة منخفضة الكثافة" تكون فيها خطوط اتصال مباشرة ليس فقط بين رئيس الحكومة وقائد هيئة أركان الجيش وإنما أيضًا بين رئيس الحكومة وقائد سلاح الجو ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) ورئيس وحدة الأبحاث وحتى آخر القادة الميدانيين.
ويشير شيلح إلى أن شاؤول موفاز مرّ بتجربة انعدام أهمية وظيفة وزير الدفاع عندما انتقل إلى هذه الوظيفة من قيادة هيئة أركان الجيش وخاض مواجهة مع خليفته في الوظيفة الأخيرة الذي كان نائبه، موشيه (بوغي) يعالون، على خلفية خطة فك الارتباط. وهي المواجهة التي انتهت بعدم تمديد ولاية يعالون في رئاسة هيئة الأركان.
ولا شك منذ الآن أن الحرب الحالية ستقدّم المزيد من الشواهد على جوهر العلاقة بين المستويين، خصوصًا في ضوء ما ذكرناه عن انعدام الخبرة العسكرية لرئيس الحكومة الحالي على وجه الخصوص.
وإلى أن تتراكم هذه الشواهد لا بد من استعادة بعض التساؤلات الرئيسة التي طفت على سطح التداول الإسرائيلي الذي اطلعت عليه بشأن هذه المسألة، وذلك على النحو التالي، مع مراعاة أن الصياغة هي في الأصل لباحثين إسرائيليين، بصورة قد تبدو معها بعض المفردات غير مستساغة للأذن العربية:
1. تعيش إسرائيل، كدولة تقبع في صراع مستمر، حالة خاصة. فمن جهة، ينتخب المواطنون فيها ممثليهم للكنيست (البرلمان) الذي يشكل سلطة سيادية تخضع لها الحكومة فيما يخضع الجيش للأخيرة. ومن جهة أخرى، فإن واقع الصراع المستمر بل والعنيف أحياناً، يتطلب إعطاء الجيش حرية العمل حتى يتمكن من توفير "السلعة" أو النتيجة التي ينشدها الجميع ألا وهي الأمن القومي والشخصي. لذلك فإن مسألة الأمن تحظى غالباً بأولوية على المسائل الأخرى.
والسؤال الذي يتبادر هنا: كيف يمكن الإبقاء والمحافظة لفترة طويلة على مجتمع ديمقراطي في ظل وضع يتمتع فيه الجيش، الذي يعتبر بطبيعته وحسب تعريفه جهازاً غير ديمقراطي، بمثل هذه المكانة الرفيعة؟.
2. ثمة سؤال آخر يتعلق بإمكانية الفصل بين المستويين، المدني والعسكري: أين يمرّ ذلك الخط الرفيع، المتعرّج، الذي يفصل بين المستوى المدني والمستوى العسكري؟ هذا السؤال يكتسب، خاصة في إسرائيل التي يجري الانتقال فيها بين المستويين العسكري والمدني بشكل سريع ومتواتر، أهمية استثنائية. وتطرح أسئلة من قبيل: كيف يجب التعامل مع شخص انتقل من المستوى العسكري إلى المستوى المدني؟.
هناك توجه يقول بأن التجربة هي التي تصنع الإنسان وتصوغه، ومن هنا فإن الإنسان العسكري يبقى حتى بعد انتقاله من المستوى العسكري إلى المستوى المدني، عسكرياً في توجهه، أو كما يقال "العسكري يبقى عسكرياً طوال حياته".
إذا ما أخذ بهذا الرأي أو التوجه، فلا شك أن له مغزى بعيد الأثر فيما يتعلق بإسرائيل، وذلك لأن الانتقال المستمر والواسع النطاق لكبار ضباط الجيش إلى مواقع القيادة السياسية إنما يدل على عملية عسكرة السياسة في إسرائيل.
3. يتعلق سؤال ثالث فيما إذا كان الجيش هو الذي "يتسلل" إلى مجالات ليست من اختصاصه، سعياً إلى زيادة نفوذه، وما إذا كانت المشكلة ليست نابعة من القوة النسبية للجيش، وإنما بالذات من الضعف النسبي للمؤسسات المدنية. وهو ضعف يترك فراغاً في الساحة يشجع المستوى العسكري على التحرك لملئه. ظاهرياً يبدو برأي البعض أن الإمكانية الثانية- والسؤال يبقى مفتوحاً- تفسر الواقع في إسرائيل بصورة أفضل.
إذا كانت الأمور هي على هذا النحو بالفعل، فهذا يعني أن مفتاح تصحيح نظام العلاقات بين المستوى المدني والمستوى العسكري في إسرائيل لا يتمثل في فرض قيود على المستوى العسكري وإنما في تقوية وتعزيز المؤسسات والهيئات المدنية. ويمكن القول إن هناك حاجة إلى نوع من "التمييز التصحيحي" بغية دعم وتقوية هيئات التقويم المدنية، المتمثلة في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، ذلك لأن ضعف هذه الهيئات، وعدم وجود هيئة مدنية قادرة على تنفيذ المهام (تحليل الواقع وبلورة وتنفيذ السياسة) يجعل المهمة ملقاة على عاتق الجيش. وبالإمكان أن نجد مثالاً بارزاً على ذلك في مداولات المجلس الوزاري المصغّر (الكابينيت) التي سبقت انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان. ففي أعقاب إحدى هذه المناقشات تردد حديث بين جزء من أعضاء المجلس الوزاري، والذي سرعان ما سرّب بطبيعة الحال إلى وسائل الإعلام، مفاده أن "الجيش يسعى إلى بث الخوف والرعب بيننا". والمقصود بذلك أن الجيش مارس التخويف والترهيب على المجلس الوزاري المصغّر في تحليل الواقع، وتقدير النتائج التي ستترتب على الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. يمكن بطبيعة الحال التساؤل بشأن ما الذي جعل الجيش يتصرف على هذا النحو، بيد أن السؤال الأهم هنا هو: لماذا لم يتلق المجلس الوزاري المصغّر تقويماً آخر للوضع من طرف جهة أو هيئة أخرى، مدنية؟ أين كانت وزارة الخارجية؟ وأين كان مجلس الأمن القومي الإسرائيلي؟ وهل يوجد لدى وزارة الدفاع التي تعتبر في الواقع، خلافاً للجيش، جزءاً من المستوى المدني، هيئة تفكير قادرة على تقديم تقديرات أخرى مختلفة عن تقديرات الجيش؟.
في ظل عجز وزارة الخارجية عن تقديم بديل، واستمرار مراوحة "مجلس الأمن القومي" في ضعفه، وفي ظل عدم وجود هيئة للتفكير وإعداد التقديرات في وزارة الدفاع منذ حلّ "وحدة الأمن القومي" عقب حرب لبنان، فإنه لا عجب إذن في وجود عسكريين ضمن أطقم رسم السياسة وتنفيذها.
4. إن إثارة هذه التساؤلات يمكن أن تشكل قاعدة وأساساً لنقاش ضروري مؤجل حول موازين القوى القائمة والمرغوبة بين المستوى المدني والمستوى العسكري في إسرائيل.
أحد الأسئلة الصعبة وربما الأكثر حساسية هو: هل يستطيع المستوى المدني في إسرائيل ممارسة رقابة ناجعة على المؤسسة العسكرية؟ وفي أية مجالات؟...
بطبيعة الأمر ستكون لنا عودة، إن لم يكن أكثر، إلى هذا الموضوع الذي كلما أمكن الغوص عليه تكشفت الأفكار الحقيقية المتوارية حول صورة إسرائيل.
المصطلحات المستخدمة:
الموساد, يديعوت أحرونوت, هآرتس, مجلس الأمن القومي, باراك, الكاتيوشا, رئيس الحكومة, عوفر شيلح