من الصعب، حتى الآن، التكهّن بكيفية وقف الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان، والتي طاولت البشر والشجر والحجر، كما من السابق لأوانه توقّّع التداعيات الناجمة عنها، على الصعيدين المحلي والإقليمي، وبالنسبة لمستقبل إسرائيل في المنطقة، ومكانتها في إطار الإستراتيجية الأميركية إزاء العالم العربي.
واضح أن هذه الحرب تختلف كثيرا عن الحروب التي سبقتها، من نواح عدة، أهمها: أولاً، أن طرفيها الفاعلين مباشرة (إسرائيل وحزب الله) يبدوان خارج السيطرة، وهما يخوضان نوعا من معركة كسر عظام، أو كسر إرادات، في معركة تبدو وكأنها بمثابة صراع على الوجود، بالنسبة لهما. ثانيا، في سابقة فريدة وغريبة، يقوم المجتمع الدولي، ممثلا بمجلس الأمن، بإعطاء بعض الشرعية أو التغطية لهذه الحرب، بدلاً من القيام بدعوة الأطراف المعنية للتهدئة الفورية ووقف إطلاق النار وإيجاد حل سياسي للأزمة. ثالثاً، هذه هي المرة الأولى التي تخوض فيها إسرائيل حربا، خارج أراضيها، ضد قوة غير نظامية في أرضها؛ فالحرب التي كانت خاضتها إسرائيل في لبنان (العام 1982)، كانت ضد قوات منظمة التحرير الفلسطينية. رابعاً، هذه هي المرة الأولى التي لا تتحكّم فيها إسرائيل بالسيطرة على المعركة، مكانها وزمانها وأسلحتها وأهدافها، في كسر للإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، في ثلاثة مرتكزات أساسية، من مرتكزاتها، أولها، إبقاء المعركة خارج حدود إسرائيل وهذا لم يحصل، بانتقال الحرب مباشرة إلى المدن الإسرائيلية ذاتها؛ وثانيها، في إبقاء المبادرة والمباغتة والهجوم في يد إسرائيل، إذ تمكن حزب الله، في هذه الحرب، من إبقاء هذه العناصر بين يديه، في بعض الأحيان، ما شكّل مفاجأة كبيرة لإسرائيل؛ وثالثها، حسم المعركة بأسرع ما يمكن، وهذا ما لم تتمكن إسرائيل من تحقيقه البتّة، حتى بعد عشرة أيام من الشروع في حربها ضد لبنان.
لكن على الرغم من كل ذلك فثمة حقائق دامغة أكدتها هذه الحرب، بوقائعها ومعطياتها، لعل أهمها يكمن في الجوانب الآتية:
1 ـ إن إسرائيل، وعلى الرغم من مرور حوالي ستة عقود على قيامها، وتفوقها في مجال القوة العسكرية، والدعم الكبير الذي تلقاه من أقوى دولة في العالم (الولايات المتحدة الأميركية)، ما زالت تعيش عقدة الوجود، أو هاجس البقاء، في هذه المنطقة من العالم؛ وهذا ما يفسّر حساسية إسرائيل تجاه أي تهديد لوجودها، ولو كان بحجم أسر جندي، أو بمستوى إطلاق بضعة صواريخ محلية الصنع على بعض مناطقها، يفاقم من ذلك، أيضا، قلقها الشديد تجاه أية محاولة لاستضعاف قوتها العسكرية. وفي الواقع فإن إسرائيل تحاول التغطية على مخاوفها تلك باستخدامها المفرط للقوة العسكرية الطاغية، في محاولة لإرضاء الذات، وسعيا لتطمين مجتمعها، وخلق حالة من الخوف والهلع عند الآخرين.
2 ـ بيّنت هذه الحرب حجم العنصرية والكراهية والعدوانية المتجسّدة في إسرائيل، إزاء العالم العربي، وخصوصا إزاء لبنان (والفلسطينيين) ولعل هذا ما يفسّر طبيعة الأهداف التي تقصّدتها آلة الحرب الإسرائيلية العمياء، بالتخريب والتدمير، في لبنان (وفلسطين أيضا). ومن الواضح أن أسر بضعة جنود، في حال من الحرب أو السلام (أو بين بين)، لا يستدعي البتّة المبادرة لشنّ هكذا حرب، إلا إذا كان ثمة نيّة مسبقة لخوضها، لأسباب أخرى، كما لا يستدعي ذلك تقطيع شرايين بلد بكامله، وتدمير مقوماته، وتشريد معظم سكانه، فهذه الأعمال لا تقوم بها إلا دولة عنصرية منفلتة من عقالها، وخارجة عن الشرائع والأعراف الإنسانية والدولية، دولة متغطرسة وعنصرية، تجعل من ناسها ومن ذاتها قيمة عليا على جميع الناس والقيم.
3 ـ تؤكد هذه الحرب بأن إسرائيل لا تريد أن تتعلم من تجاربها، فهي لا تريد أن تدرك بأن ثمة حدودا لقوتها وغطرستها، في إصرارها على انتهاج سياسة القوة والعنجهية والبلطجة، للتعبير عن وجودها وفرض سياساتها، بغضّ النظر عن التداعيات السلبية والعكسية التي يمكن أن تنتج عن ذلك في المنطقة، كما عليها مستقبلا. وقد أثبتت التجربة التاريخية بأن إسرائيل تملك قوة هائلة، تمكنها من التقتيل والتخريب والتدمير، ولكن هذه القوة لا تستطيع أن تمنحها الأمان ولا الاطمئنان، لأنه لا يوجد قوة، مهما كانت، تستطيع مصادرة إرادة شعب، ولا تكبيل حريته إلى الأبد. كما أن هذه القوة العاتية تخلق بذاتها أضدادها، عاجلا أم آجلا، وهكذا فإن إسرائيل بعنفها الأعمى والمدمّر، هي المسؤولة عن تفشي نزعة العنف والتطرف في المنطقة. فهي المسؤولة، مثلا، عن إجهاض انتفاضة الحجارة (1987ـ 1993)، التي اعتمدت وسائل العصيان المدني، بوسائل القوة وبالضغط السياسي والاقتصادي، ما أدى فيما بعد إلى اندلاع انتفاضة أكثر عنفاً (أواخر أيلول 2000)، وذلك عندما حاولت إسرائيل استخدام آلتها العسكرية، لوأد هذه الانتفاضة. وقد أدى ذلك بدوره إلى تصاعد عمليات المقاومة، وضمنها العمليات التفجيرية (الاستشهادية) كردة فعل على الجبروت الإسرائيلي، وفي محاولة من الفلسطينيين للتحايل على التفوق العسكري لإسرائيل، وعلى الإرهاب المنظم الذي انتهجته ضدهم، كما على انسداد أفق العملية السياسية، بسبب الصلف الإسرائيلي.
4 ـ كشفت هذه الحرب هشاشة النظام الرسمي العربي، من نواح عدة، أهمها: أولاً، لجهة أن حزبا، مثل حزب الله، وفي بلد صغير بحجمه وإمكانياته، مثل لبنان، استطاع أن يحطّ، وبقدراته المتواضعة، من جبروت إسرائيل، وأن يغيّر قواعد إستراتيجيتها العسكرية، وأن يثخن فيها الجراح، في حين أن الجيوش العربية المدججة بالسلاح، والمدعّمة بموازنة تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وبمئات الألوف من الجنود، لم تستطع أن تشكل تهديدا كالذي شكّله هذا الحزب، الذي تأسّس بعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان (حزيران 1982). ثانياً، أن المجتمعات العربية غير المقيّدة، والتي تتمتع بهامش واسع من الحرية والديمقراطية، يمكن لها أن تكون أقدر على الصمود، بل وأكثر قوة في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وأكثر صلابة في مواجهة التحديات التي تشكّلها إسرائيل في المنطقة. ثالثا، أنه من الخطأ بمكان التعويل على خيار معيّن بحد ذاته، وسدّ الطريق عن الخيارات الأخرى، أو إعدامها، ذلك أن تعويل النظام العربي على خيار التسوية، لم يفد شيئا، في ظل تملص إسرائيل من هذه العملية، بل إن إسرائيل اعتبرت جنوح العرب نحو هذا الخيار، نوعا من التسليم بإملاءاتها، أو نوعا من الإذعان والخضوع والخنوع لإرادتها ولغطرستها العسكرية. والواقع فإن المشكلة لم تكن في خيار التسوية، بحد ذاته، بقدر ما كانت في غياب قدرة العرب، على فرض هذا الخيار أو حمايته، أو التلويح ببدائل عنه.
على ذلك، وكما قدمت، من الصعب الحديث عن استنتاجات نهائية للحرب الدائرة، في لبنان، فهذه حرب مختلفة عن الحروب السابقة، وهي غير مسيطرة عليها، ويخشى أن تتوسّع رقعتها، لتأخذ بعداً إقليمياً، لا يمكن التكهّن بعواقبه، على مستقبل إسرائيل والمنطقة.
ولكن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن أهداف هذه الحرب من جهة إسرائيل، على الأقل، تبدو مستعصية جداً، فهذه، عبر هذه الحرب، لن تستطيع القضاء على المقاومة، لأن احتلالاتها وعنجهيتها وعدوانيتها، هي التي تؤدي إلى توليد وتعزيز المقاومة والممانعة في المجتمعات العربية، ومن دون اقتناع إسرائيل بالتخلي عن وسائل القوة، واعتماد الطرق السياسية، لإيجاد حلول مناسبة وعادلة لمختلف تجليات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ستبقى المنطقة مهددة بالنزاعات والاضطرابات والحروب والمقاومات أيضا.