ليس من قبيل المبالغة القول إنه في اليوم الثامن للعدوان الإسرائيلي، الجوي والبحري، والبري كذلك (إذا ما أخذنا في الحسبان تصريحات إسرائيلية متواترة منذ البدء بالعدوان بأن "قوات كوماندو" تقوم بعمليات برية موضعية داخل الأراضي اللبنانية)، أخذت تتضح أكثر فأكثر الإشارات الإسرائيلية إلى أمرين هما في غاية الأهمية ويتصلان ببعضهما البعض في المبنى والمحتوى:
الأمر الأول- أن هذا العدوان سيخفق في تحقيق غاياته الرئيسة التي نطقت بها إسرائيل الرسمية فور البدء بشنّه، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى العسكري.
الأمر الثاني- أن منظمة "حزب الله"، التي جرى شنّ هذا العدوان بقصد واضح تحدّد في "طحنها" أو تفكيكها، ستخرج من هذه المعركة أكثر معافاةً، كي لا نقول أكثر قوة، من إسرائيل.
وحتى لا نغرق في وهج الكلام والمفردات التعميمية فسننتقل مباشرة إلى استقراء النصوص الإسرائيلية في هذا الشأن، مع مراعاة أن عملية التعاطي مع هذه النصوص لا تخلو من إشكاليات تحيل إلى دور الإعلام الإسرائيلي في أوقات الحرب، وهي إشكاليات تحتاج إلى وقفة أخرى إن لم يكن أكثر.
مهما تكن غايات العدوان الإسرائيلي على لبنان فإن غاية واحدة رئيسة منها تتمثل في "انتهاز الفرصة لبلورة قواعد لعبة جديدة في لبنان، ليس فقط حيال حزب الله وإنما أيضًا حيال سورية"، على ما يقول البروفيسور المستشرق ايتمار رابينوفيتش، من جامعة تل أبيب، وهو "خبير" مختص بسورية ولبنان أشغل في السابق منصب رئيس الوفد الإسرائيلي للمفاوضات مع سورية ومنصب سفير إسرائيل في الولايات المتحدة.
وتتعلق قواعد اللعبة بمحور الردع الإسرائيلي. في هذا الخصوص يضيف رابينوفيتش: "توجد هنا أربع غايات- حزب الله، لبنان، سورية وإيران. ليست لدينا لا الأدوات ولا الرغبة في المجابهة مع إيران، وبالتأكيد على خلفية برنامجها النووي. لكن مقابل الثلاثة الباقين لدينا بشكل أكيد حيّز معيّن من النشاط. ومن بين هؤلاء جميعًا تبرز حكومة لبنان باعتبارها العنوان الأكثر راحة، رغم أن العنوانين الجوهريين هما سورية وحزب الله. وفي الحالات جميعًا ينبغي أن نردّ بصورة قاسية لكن فاعلة، وليس فقط أن نفرغ غضبنا".
من جهته يؤكد شلومو بروم، الباحث في "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب، أن "قوة الاستفزاز (من طرف "حزب الله") ونتائج العملية (أسر الجنديين)" لا تتيح "لإسرائيل إمكانية العودة إلى قواعد اللعبة القديمة، لأن من شأن ذلك أن يبث رسالة إلى حزب الله وأيضًا إلى عناصر أخرى تنشط ضد إسرائيل أن في مقدورهم أن يبادروا إلى استفزازات آخذة في التصاعد دون رد حاد" (من جانب إسرائيل).
وفي رأي بروم أن "الرد" الإسرائيلي الذي لم يتأخر له عدة غايات، وهي كما يكتب:
الغاية الأولى- جباية ثمن باهظ من مهاجمة أهداف في لبنان، سواء كان ذلك الثمن مباشرًا من الخسائر اللاحقة بحزب الله أو كان ثمنا سياسيا، عن طريق تقويض مكانة حزب الله داخل لبنان بواسطة المس بأهداف لدولة لبنان، مثل مطار بيروت ومحطة توليد الطاقة وعزل جنوب لبنان عن شماله. والفرضية هنا هي أن من شأن ضربات كهذه أن تصاعد الضغط الداخلي على حزب الله من أجل كبح جماحه ومن أجل نزع سلاحه في سياق لاحق. وكل هذه الأمور يفترض بها أن تعيد ترميم ميزان الردع أمام حزب الله.
الغاية الثانية- إيجاد ضغط دولي على حزب الله وأوصيائه في سورية وإيران من أجل أن يعملوا هم أيضًا على كبح جماحه، من منطلق الافتراض بأن الأسرة الدولية لا ترغب في رؤية لبنان يتحطم ثانية.
الغاية الثالثة- إلحاق ضربة قاسية بقدرات حزب الله العملياتية في سبيل خفض قدرته على المس بأهداف مدنية داخل إسرائيل.
ويضيف بروم: من المشكوك فيه أن يكون في مقدرة مستوى التصعيد الحالي في ردود إسرائيل (كتب المقال بتاريخ 13 تموز الجاري) التأدية إلى تحقيق هذه الغايات، ويجوز أن تضطر إسرائيل إلى تصعيد ردودها أكثر فأكثر. واحتمال تصعيد كهذا يزداد أيضًا لأن لدى منظمة حزب الله وسائل رد أكثر قسوة مقابل إسرائيل لم تلتجئ إليها حتى الآن (يقصد مثالاً قصف حيفا، الذي أصبح الآن من ورائنا وكذلك الأمر بالنسبة لتصعيد إسرائيل لردودها).
ويختم بروم بالقول: لكن إذا كانت إسرائيل تسعى (من وراء حربها) إلى نزع سلاح حزب الله فإن ثمة شكًا كبيرًا في إمكانية تحقيق هذه الغاية، وربما ستضطر إسرائيل للاكتفاء (فقط) بالعودة إلى قواعد لعبة معقولة أكثر، من قبيل إبعاد حزب الله من منطقة الحدود، على أمل أن يساعد هذا الانفجار الحربي السيرورات السياسية داخل لبنان التي قد تسفر في المستقبل عن بلوغ هذه الغاية (نزع سلاح المقاومة).
ما الذي يمكن استشفافه من رأي هذا الخبير الاستراتيجي؟.
1. أن إسرائيل، مهما يبلغ تصعيد عدوانها، لا تملك الإمكانيات لتبديد قوة حزب الله العسكرية.
2. وهي أيضًا لا تملك المفاتيح لتبديد قوة حزب الله السياسية في المشهد اللبناني الداخلي مع استمرار عملياتها الحربية، أما المستقبل فإنه مفتوح على جميع الاحتمالات وليس على احتمال التجاوب مع ما تمهّد إسرائيل الأرضية له فحسب.
3. الرهان إذن هو أن "تزرع" هذه الحرب الإسرائيلية الواسعة والمتدحرجة بذور الفتنة اللبنانية الداخلية القادمة، التي تبقى بمثابة المعوّل الرئيس عليه لما سيسفر عنه المستقبل، على الأقل من جهة إسرائيل.
بعد خمسة أيام من مقال بروم وزّع "مركز يافه" مقالاً لزميلة أخرى له في المركز، هي عنات كوريتس، يحمل تاريخ 18/7/2006، قالت فيه إن الأهداف الأبعد للعملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة النطاق هي ما يلي: "إضعاف البنية التحتية العسكرية لـ(منظمة) حزب الله وحملها على عدم مواصلة الاستفزازات وتشجيع المعارضة لها في الساحة اللبنانية".
وبمقايسة هذا التقدير لأهداف العملية العسكرية الإسرائيلية فقط مع ما صدر قبل ذلك وما يصدر من تقديرات يصعب حصرها نستطيع القول إن الرهان العسكري الإسرائيلي على طحن حزب الله، الذي جاءت العملية المتصاعدة لتحقيقه، قد فشل وسقط وإن بقي حاضرًا رهان آخر هو إضعاف بنيتها العسكرية التحتية، وهو أمر ليس من العسير على خبراء غير عسكريين مثلنا أن يجزموا أنه قد لا يكون بفعل فاعل محدّد الهوية وإنما بفعل المواجهة الحربية ذاتها.
بيد أن بيت القصيد فيما يقوله هذان الباحثان من "مركز يافه" وفيما يقوله رابينوفيتش يكمن في أن الحرب الحالية على لبنان إنما جاءت تمهيدًا لفتح شهيّة التطورات الداخلية اللبنانية نحو المزيد من ممارسة الضغط على حزب الله. وتلك مسألة يظل أمر تدحرجها منوطًا بالتطورات اللبنانية الداخلية.
أمام ما تقدّم فإن النتيجة الأهم التي تبدو من تلك الحرب إسرائيليًا هي إخفاقها في إصلاح ما أفسدته عملية أسر الجنديين فيما يتعلق بقدرة الردع الإسرائيلية المتآكلة، فضلا عن بروز شواهد جديدة ملموسة على قدرة الردع لدى حزب الله، سواء بالنسبة لصنّاع القرار أو بالنسبة للرأي العام في إسرائيل.