قبل أسر الجنديين الإسرائيليين في تموز إلى لبنان بيوم واحد، تطرّقت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني إلى مقال كتبه رئيس الحكومة الفلسطينية المنتخب، اسماعيل هنية، ونشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية الكبيرة. وفيه طالب بتسوية مع إسرائيل عبر التفاوض، تشمل كافة الملفات بما فيها 1948. ليفني ادّعت أن مضمون المقال يدل على أن "حماس لا تعترف بإسرائيل" بحجّة أنها تفتح ملفات 1948. لكن الوزيرة، في الوقت نفسه، وبفارق عدة جمل فحسب، قالت إنها تعتقد بأن حل الصراع وفقا لمعادلة 1967 وإبقاء ملفات 1948 مفتوحة هو في غير مصلحة إسرائيل بل انه ينطوي على "مخاطر إستراتيجية ويمس بشرعيتها مستقبلاً".
كيف يمكن عدم ملاحظة التناقض الصارخ في الموقفين. فالوزيرة تعلن، من جهة، عن حماس "غير شريك" لأن هنية يؤكد بأن ملفات 48 يجب ألا تُنسى. بينما هي نفسها تقول إن إهمال تلك الملفات "سيمس بإسرائيل وبشرعيتها".
فلسطينيًا، ما تطرحه حماس بالطبع ليس جديدا. وإلا فعلى ماذا وقع الانفجار الكبير في كامب ديفيد الثانية، والذي لا نزال نتعرض لشظاياه حتى اليوم؟ إن ما تطرحه "حماس" اليوم هو اقتراب من خط التسوية الوطني المركزي الذي تبنته "م. ت. ف" منذ أواسط الثمانينيات.
لكن ليفني تحاول البحث عن مبرّر جديد للهرب المستمرّ من التفاوض. على اعتبار أن أي تفاوض راهن لن يحل ملفات 48 (على طريقتها)، وبالتالي لا يبقى متاحًا سوى خطة الـ"هتكنسوت" (التجميع).
ظننتُ مرة أن ليفني، ابنة جيل القيادة الراهن لإسرائيل، ستكون وزيرة أكثر جدية، لكن قامتها السياسية تتآكل بسرعة. ومما يبدو، لن تكون في المستقبل أكثر من "وزيرة سابقة" أخرى، تعترف بعد فوات الأوان بأنها لم تقم بكل ما يجب ويمكن القيام به لإخراج شعوب المنطقة (شعبها هي على الأقل!) من كل هذه المعاناة. حاليًا، لا جديد في إسرائيل.
ما قيل أعلاه هو مجرّد مثال على تلك اللهجة الإسرائيلية المخادعة التي لم تتغيّر. بالأحرى، التي لم يكن غيرها. فهي الثابت الذي لم يكن له متغيّر. خلافًا للعديد من قوانين الحياة. لأنه في إسرائيل، أرادت كل الحكومات سلامًا بمفردات الحرب وبأدواتها. آخر الدلائل تلقيناه هذا الصيف في لبنان. وهو ما يفرض العديد من الأسئلة.
لقد اعتدنا، في اليسار التقدمي في هذه البلاد المنكوبة بتردّد المستعمِرين عليها، إطلاق شعاراتنا الداعية الى التسوية السياسية العادلة، ولو في أدنى حدود العدل، بلغة شديدة التفاؤل والاقتناع الذاتي. لكن فاتنا أن أعداء هذا التوجّه يعيشون على نِفط الخوف وبثّ التشاؤم وعلى إذكاء الأحقاد القديمة وإعادة إنتاجها بخبثٍ مخطّط. اعتقدنا أنه يكفي "تعبئة الجماهير" بالمقولات الإنسانية النظرية العموميّة حتى يحلّ المأمول. لكن طُغمة الألفية الثالثة وتوابعها دهستنا عبر انفلاتها في العراق وفي فلسطين وفي أفغانستان وفي لبنان (وربما تحاول ذلك في فنزويلا وإيران قريبًا) وهزئت من أخلاقياتنا وكسّرت بعُسفها خطابنا الساذج، حتى باتت طروحاتنا كأنها محكومة بقدَر يفرضه ذوو القوّة. ليس هذا الكلام نعيًا للطرح الإنساني. التفاؤل الثوري ضروري، صحيح، لكنه سيصبح نكتة إذا ظل التقدميون يتصرفون كالثور الذي تحدّث عنه ماركس، مع اختلاف السياق.
هل بات يتوجّب القول: "ما نيلُ المطالب بالتمني ولكن يؤخذ السّلم غلابا"؟ ففي العقدين الأخيرين ونيّف، نالت حكومات إسرائيل المتعجرفة من حظوظ الطرح والمبادرة والمقترَح والعرض لأجل سلام يحميها (من نفسها أولاً) ما لم تنله أيّ قلعة محصّنة بالخوف والكراهية في التاريخ الحديث.
لكنها مع ذلك ظلّت تختار التمادي العسكري وحماقة الغيّ إستراتيجيّةً وتكتيكًا لها معًا. رفست بحوافرها العسكرية كل مقترح عربيّ ودوليّ للتسوية. أطلقت آلة حربها المتوحّشة حتى حين أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي أجرأ مبادراتها/ أكثرها تنازلا/ واقعية والتي قبلت فيها بتقسيم فلسطين كمبدأ للتسوية. قمعت انتفاضة أولى وثانية، دون أن تحقّق نصرًا أو بعض نصر. داست دومًا كل محاولات محاصرة النيران عبر توسيعٍ مخططٍ لدوائر النار. رفضت بصلافة استعلائية بشعة أية محاولة للحوار المتكافئ بل دأبت على اغتيالها بالحديد والنار. اغتالت مغازي اغتيال اسحق رابين - على تواضع طروحاته - لتستحكم مجددًا في خندق الحرب، الذي تبيّن لاحقًا أنها لم تبرحه أصلا. (وهنا سقط أوسلو). فصار حال شعبنا كحال مثـَله القائل: "رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا".
عاشت إسرائيل الرسمية على حرابها دومًا. منذ أن نفذ مؤسسوها حربهم التطهيرية الأولى العام 1948، وحتى ثملت مؤسستهم بقوّتها الاحتلالية بعد 1967. وعنها قال الراحل اليهودي الكبير يشعياهو ليبوفيتش مرة: "في اليوم السابع، اللاحق لسادس أيام تلك الحرب، ستبدأ نهاية إسرائيل إذا لم تستيقظ". وها هي حتى اليوم، بعد مرور آلاف الأيام لم تستيقظ بعد، بل تواصل ابتلاع جرعات سمّ وهم القوّة. لسان حال الشعوب العربية ("الجيران"!) يقول: لا نريد النهاية لأحد، لكننا نرفض أن يصنع أيٌّ كان نهاية لنا ولحقوقنا ولكرامتنا! إن حضارة الشعوب العربية وعمق فضائها التاريخي/ الزمانيّ/ المكاني قادر على استيعاب ومواجهة أشدّ النوائب، حتى لو جاءته بصيغ ايديولوجيّة عميلة للاستعمار، البائد منه والباقي. حالة الاحتقان الغاضبة التي غذّاها العدوان الإجرامي والمؤلم والفاشل الأخير على لبنان تكاد تصرخ من حناجر الشعوب: للصبر حدود. فلا يمكن مطالبة هذه الشعوب بتجرّع الذلّ ككؤوس الشاي المعطّر باسم أية عقلانيّة تأنف "المغامرات". ولا يملك أحد، أيًّا كان، مهما بلغت قوّته وغرائز غروره وجنون أوهامه، إمكانيّة مواصلة دوس كرامات عشرات ملايين الشباب العربيّ وأهله تحت سطوة تعجرفه العرقي العنصري. لا يمكن لإسرائيل أن تسلَم فيما هي تأخذ على نفسها مهمّة القيام بدور طليعة قوّة الكوماندو التي تحارب أكذوبة "خطر الإسلام"، حتى لو كان الأحمق بوش "في ظهرها". لا يمكن لها مواصلة النجاح في إقناع أحد بضحويّتها فيما هي تشارك في رقصة الموت حول طوطم "محور الشر". لا يمكن لها أن تُبقي لنفسها أي أفق آمِن طالما بقي تصوّرها الذاتي كـ "فيللا وسط الأدغال". لأن الفضاء الحضاري العربي ليس أدغالا. بل إنه، مهما تردّت الأحوال، سيظلّ أعرق وأعمق وأرقى وأسمى من كل ما أنتجته إمبراطوريّة الإرهاب الأميركية ومعها كل عملائها.
هناك من يجب عليه أن يفهم بأننا جميعًا نقف على حافّة حادّة شديدة الخطورة، فإما استعادة الرّشد والخروج من الوهم والعودة إلى الواقع، وإمّا مواصلة الترنّح الثّمل قبل السقوط الكبير.
يجب تذكير المتبجّحين الإسرائيليين بأخلاقيّاتهم الفارغة بأن تاريخ هذه الشعوب في هذه المنطقة لم يسجّل موبقات إبادة. فتلك موبقات مدوّنة في تاريخ أصدقاء إسرائيل، المحافظين الغربيين؛ أولئك الذين تصرّ إسرائيل على الانتماء لهم بالتبعيّة (حتى بالأورفزيون وكرة السلة) خلافًا لمنطق حلولها في فضاء من تتكبّر عليهم وتستعلي هنا، هربًا ممن أبادوا الشعب الذي تزعم الحديث باسمه. يجب على قباطنة السفينة الإسرائيلية الضالّة أن يفهموا بأنه ليس أمامهم مفرّ من وجه القرار: فإمّا التعامل المتكافئ الذي يحفظ الاحترام ويصون الحقوق والكرامة مع الجيران، وإمّا البقاء في فخّ الغرور الذاتي الانتحاريّ القاتل. آن الأوان للخروج من فخ وأسطورة متسادا. لأن الشعوب العربيّة التي رضيت "بالهمّ" لا يمكنها القبول بأن تبقى مطالَبة بالدفع من دمها وحياتها وكرامتها وحاضرها ومستقبلها لأن "الهمّ" يرفض القبول بها! كفى، فللقرف، كما للصبر أيضًا، حدود.
لم ينقلع الاحتلال من غزة لأنه استوعب الدرس بل لأنه تألّم. وهو كذلك في لبنان 2000. كان يمكن لهذا الاحتلال أن يوفّر على الشعوب الوقت الدامي الطويل، من أجل سلامة جميع البشر دون تفرقة بينهم على أية خلفيّة. لكن الحقيقة هي أن قباطنة إسرائيل لم يغيّروا إستراتيجية الهرب من السّلم بل استبدلوا الأساليب فقط. فبعد نهج الهرب من التسوية الى الحرب، جاءت طريقة الهرب من ثمن الحرب الذي بات مجتمعهم يستصعب دفعه اضطراديًّا، نحو "الحلول من طرف واحد". وهي لا حلول ولا يحزنون. بل تكريس أشدّ خطورة لمفعول جمر انفجار الحروب القادمة من تحت رماد وهم التفوّق المحصّن خلف الترسانات والجدران. بين هذا وذاك، عندما جاء ايهود باراك لينجز "نهاية الصراع" في سبعة أيّام وكأنه الخالق الجديد، ظلّ يفعل ذلك ببنادق الإملاء ومدافع الفرض وإعلان من يرفض أوامره كـ"غير شريك"؛ نفس النّهج المنغلق على ذاته الصدئة وإن اختلفت تكتيكاته.
للأسف، لم يحدث حتى اليوم أن نزل هؤلاء المتعجرفون عن بغال استعلائهم. وسلوكهم يدلّ على أنهم لن يهبطوا عنها إلا اضطراريًا. لطالما أمعن قباطنة إسرائيل في الصّراخ أن "العرب لا يفهمون سوى لغة القوة"، حتى بات جليًا اليوم أن تلك المقولة هي مقولة تصلح للاستهلاك الذاتي لديهم، وعنهم. هي أدقّ وصف لحالتهم. إسرائيل أثبتت أنها هي من لا يفهم سوى لغة القوة. وهناك من ساعدها على تعميق ذلك الفهم في الخنادق المواجِهة.
بعد العدوان الثاني على لبنان، يبدو واضحًا أن خيارات الحلول العنيفة من طرف واحد بدأت تسقط داخل المؤسسة والرأي العام الإسرائيليين كحجارة الدومينو. لكن ذلك يجري، يجب التأكيد، ليس بفعل قرار سياسي وأخلاقي واعٍ بل بفعل إفشال تلك الخيارات بالبنادق والصواريخ الفلسطينية واللبنانية. حاليًا، رغم بالونات الدعوة إلى تسوية سياسية مع سوريا، لا يزال من غير الواضح إن كانت ستتفاعل تحوّلات سياسية وأخلاقية في العمق الإسرائيلي نتيجة للفشل العسكري. إن تمّ هذا فلا بأس (وقياسًا بالانحطاط الذي وصلته السياسة الإسرائيلية سيكون أقرب إلى "الإنجاز"). لكن حتى هذا القليل ليس مؤكدًا بعد. فها هو الحديث عن "جولة أخرى للحرب" لا يزال يخيّم كالضباب الملوّث على الفضاء السياسي الإسرائيلي. يبدو أننا لا نزال بعيدين عن ذلك التحوّل، حتى بمفرداته الواقعية، ولا أقول الأخلاقية.
لا يوجد أي سبب يجعل الواحد يؤمن بقرب حدوث طفرة في السياسة الإسرائيلية. فقد استشرى مرض الغطرسة وتورّم وبات عضالا لا يكفيه الأسبرين، بل ألم الجراحة. وكم يصحّ التمنّي للمهددة حياته بأن يشعر ببعض الألم على الأقلّ لينجو بنفسه وبغيره! فبعد مرور قرابة الستين عامًا على قيام هذه الدولة انزرعت لغة وممارسة العنف في كافة مفاصلها. لم تنجُ منها أيّ من النّخب. يكفي استعادة منظر الكاتبين الكبيرين عاموس عوز وأ. ب. يهوشواع وهما يمجّدان شرعية الحرب الأخيرة مع اندلاعها، حتى تتضح قتامة الصورة. يبدو أن السّلم يجب أن يتحوّل إلى المفرّ الأخير أمام المتعجرفين حتى يتعلقوا به كقشة هشّة أخيرة تنقذهم من أنفسهم المريضة.
حاليًا، يواصل التقدميون طرح مشاريع السّلم والسّلام كمنظومات أخلاقية مُحكمة النصّ والسّياق. لكنها تتلاشى ميدانيًا عند جنزير أول دبابة وتحت سقوط ظلّ أولى المقاتلات التي تحمل القنابل الذكيّة المستوردة. فلا يوجد نصّ يهزم دبابة ولو جرى خطّه بحبر الضمير. كفانا وهمًا. البشر إجمالا لا يتعلمون بالطرق السّهلة، فكم بالحريّ إذا كانوا ممن سقطوا عميقًا في مستنقع وهم التفوّق على ربّ الأرض والسماء؟.
لا حاجة للأوهام. فلا يمكن للسّلم أن يحلّ بالتمني ولا بالتنظير الذي يعيش أصحابه على أمل استفاقة مفاجئة كالطفرة لمن غيّبت القوة وعيهم ورشدهم السياسي والأخلاقي. يجب أن يصبح السّلم "صخرة نجاة المتعجرفين الأخيرة" حتى يلجأوا إليه، قبل سقوطهم في غياهب النهاية التي يحيكونها بأيديهم لأنفسهم وسواهم. لو لم تكن الأنظمة العربية بهذا الانحطاط لقُلنا إنه لا مفرّ من شنّ "هجمة سلام" على إسرائيل المتعجرفة كي تتوقّف عن غيّها وعن صنع المآسي في كل زرعٍ وبور، في موارسها هي وفي ما بعد حدودها، تلك المعترف بها وتلك المغتصبة. لكن المصيبة مزدوجة، فمن طرف لدينا عدوانيّة حكّام إسرائيل ومن الطرف الآخر هناك انهزاميّة أنظمة العرب. وبما أن تحقيق الأهداف بشكل سليم يحتاج إلى وضع فرضيات صحيحة، فلا بدّ من النظر بجرأة إلى هذه الفرضيّة: إن السّلام لا يلوح بالمرّة في الأفق. أيضًا وبالأساس لأن المخالب الأميركية الرسمية تسيطر على الأرض والبحر والسماء. طبعًا هذا لن يقتل الأمل ولا الحُلم النبيل بالسلام العادل. لكن دربنا طويلٌ طويل. وحتى ذلك الحين، فليتغمّد خطاب اليساريين والتقدّميين بالقطران. ولنتنازل عن حلم السّلم بلونه الوردي. فالسّلم أيضًا دربه، كرايات اليسار، حمراء.
______________________________
(*) هشام نفاع صحافي وكاتب فلسطيني- حيفا.