المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 1684

مع أن مؤتمر هرتسليا السادس حول ميزان المناعة والأمن القومي لإسرائيل عقد قبيل الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية التي جرت في 28 آذار 2006 (وتحديدًا عقد في الفترة بين 21 و 24 كانون الثاني 2006) فإن وثيقته التلخيصية انطوت على تلميحات إلى مسارات السياسة الإسرائيلية الراهنة كما إلى جوهر الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية في إسرائيل، مثلما هي حال الدورات السابقة لهذا المؤتمر الذي بات كثيرون يرون فيه بمثابة "التئام العقل الجماعي الإستراتيجي المفكر" للدولة الإسرائيلية.

 

 

فضلاً عن ذلك فإن الوثيقة التلخيصية، التي أنجز المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار ترجمتها إلى العربية أخيرًا (*)، والصادرة عن "مركز هرتسليا المتعدد المجالات" في حزيران 2006، تقرأ مسارات تلك السياسة خصوصًا بوحي ما أفرزته نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية في 25 كانون الثاني 2006، من صعود لقوة حركة "حماس".

 

هناك عدة محاور تتمفصل عليها الوثيقة، ومنها نرى وجوب الإشارة بدايةً إلى المحورين التاليين:

 

* أولاً- على مستوى علاقة إسرائيل مع الفلسطينيين ترى وثيقة "مؤتمر هرتسليا السادس" أن هناك في إسرائيل ثلاثة اتجاهات تفكيرية سياسية رئيسة، يشفّ كل اتجاه منها عن "موقف سياسي" يتقاطع أو يفارق الاتجاهين الآخرين. وهي تلخص هذه الاتجاهات، بعد توكيدها أنها تنبع من مواقف مختلفة إزاء مسألة وجود شريك فلسطيني محتمل، على النحو التالي:

* الذين اعتقدوا أن هناك شريكاً، قد يفي أحياناً بما يَعِدُ به، أيدوا العودة الفورية إلى المفاوضات حول التسوية الدائمة- [جوهر مفهوم "أوسلو"].

* الذين شككوا في قدرة السلطة الفلسطينية أو الرئيس محمود عباس (أبو مازن) على أن يكونا شريكين للسلام، قالوا إنه لا يجوز الدخول في مفاوضات حول الحل الدائم قبل استنفاد الجانب الأمني في المرحلة الأولى من خريطة الطريق، على أساس من التبادلية [جوهر المفهوم الذي يتبناه رئيس الليكود، بنيامين نتنياهو].

* أما الذين قدروا بأن الفرص في إيجاد شريك على المدى المنظور أصبحت معدومة، فقد شددوا على استحالة التوصل إلى تسوية، وأنه لا يمكن الافتراض أن الفلسطينيين سوف ينفذون متطلبات "خريطة الطريق" في المجال الأمني، ولذلك ينبغي انتهاج توجه أحادي الجانب [جوهر مفهوم أريئيل شارون وخليفته إيهود أولمرت].

رغم ذلك فإن ما تؤكده الوثيقة يتمثل في أنه "على محور المواقف الواقعة بين التوجه الذي يتبنى الأحادية الجانب الإسرائيلية وبين التوجه المؤيد للتبادلية، يُلاحظ أن المركز السياسي الإسرائيلي يتحرك في اتجاه التوجه الأحادي الجانب. ويأتي ذلك في ضوء ما يشبه الإجماع الذي يتبلور حول الموقف القائل إنه لا توجد اليوم لدى الفلسطينيين زعامة يمكن أن تشكل شريكاً وأن تكون قادرة على اجتياز سواء اختبار النوايا أو اختبار التنفيذ للاتفاقيات، وإن على إسرائيل العمل من جانب واحد لضمان أمنها وحدودها".

وفي مجرّد ذلك إنباء مجلجل إلى ما يسود في الواقع السياسي الإسرائيلي الحالي حتى بعد تشكيل الحكومة الجديدة.

 

* ثانيًا- الدولة الفلسطينية من وجهة النظر الإسرائيلية: تؤكد الوثيقة أن التأييد الإسرائيلي الرسمي لقيام دولة فلسطينية مستقلة (أو على الأصح التأييد لرؤيا "دولتين لشعبين" التي هجس بها الرئيس الأميركي جورج بوش) هو تأييد مدفوع بعوامل إسرائيلية مخصوصة.

وتذكر من هذه العوامل ما يلي:

- يعمل عامل الزمن في غير صالح الهدف المركزي الثاني لإسرائيل في الوقت الراهن، وهو الهدف المتلخص في الرغبة في إقامة دولة يهودية وديمقراطية، والتي تنبع منها ضرورة توفر أغلبية يهودية والتنازل عن أجزاء من "أرض إسرائيل" وإقامة دولة قومية للفلسطينيين، وذلك في ضوء السيرورات الديمغرافية، وكذلك نظراً لأن صيغة إسرائيل كدولة قومية يهودية أخذت تفقد بالتدريج دعم وتأييد العالم، فيما راحت فكرة "الدولتين" [دولتين لشعبين...] تخلي مكانها لفكرة الدولة الثنائية القومية. ولذلك فإن "إنشاء دولة قومية فلسطينية في أسرع وقت بات مصلحة لمن يعنيه بقاء إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية تتمتع بشرعية دولية واسعة"، وفقما تؤكد الوثيقة.

 

- إقامة الدولة القومية الفلسطينية ستزيل عن كاهل إسرائيل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وفي مسألة اللاجئين هناك إجماع واسع بين صانعي السياسة الإسرائيلية مؤداه أن قيام دولة فلسطينية ينطوي على حل للمشكلة، وأنه لا مكان لحل آخر يستند إلى "عودة" ولو جزئية إلى إسرائيل.

 

يمكن الإشارة فيما يتعلق بموضوع العلاقة مع الفلسطينيين إلى محور ثالث لا يقل أهمية عن المارّ ذكره، يتصل باعتبارات رسم الحدود والتسوية الخاصة بالقدس ومستقبل منطقة الجليل. وتشير الوثيقة في هذا الشأن إلى أنه على الرغم من أن المفاوضات حول التسوية الدائمة ليست مطروحة الآن على جدول الأعمال، إلاّ أنه يدور نقاش عام حثيث فيما يتعلق بالاعتبارات والمبادئ التي يجب إتباعها في تعيين الحدود الدائمة المستقبلية. وإحدى الأفكار التي تخضع لنقاش متقدم هي فكرة تبادل مناطق مأهولة بالسكان بين إسرائيل والدولة الفلسطينية العتيدة، وبالأخص نقل منطقتي أم الفحم والمثلث إلى سيادة فلسطينية. "لكن المتحدثين باسم عرب إسرائيل يرفضون هذه الفكرة"، تشدّد الوثيقة.

 

وهناك فكرة أخرى هي تبادل مناطق (أراضٍ) في إطار متعدد الأطراف وذلك في نطاق تسوية إسرائيلية- عربية شاملة، تضم أو تشمل أيضاً مصر والأردن وسوريا. وتنبع هذه الفكرة من التقدير بأنه حتى إذا أمكن التوصل إلى تسوية دائمة على أساس دولتين بين النهر والبحر فإن ضائقة الأراضي في مواجهة الكثافة السكانية في هذا المجال (الحيِّز) ستجعل التسوية غير مستقرة، وستكون هناك حاجة إلى مناطق أو أراضٍ إضافية.

 

أما البحث في مستقبل القدس والجليل فإنه، برأي الوثيقة، يقحم اعتبارات التطوير إلى جانب نواحٍ تتصل بعلاقات الإسرائيليين والفلسطينيين. فعلى هذين الصعيدين (القدس والجليل) هناك حاجة "إلى إستراتيجية وطنية ينبثق عنها تخطيط مفصل في مجالات الاقتصاد والتعليم والتطوير إضافة إلى تمويل ملائم". وتتابع: التطوير الاقتصادي والاجتماعي لمنطقة الجليل يشكل فكرة يتطلع الجميع إلى تحقيقها، لكن الفجوة بين هذه الفكرة وبين الواقع ما زالت كبيرة، لا سيما بالمقارنة مع منطقة النقب التي حظيت باستثمار حثيث على صعيد الجهود والميزانيات. هناك من يقول إن إهمال الجليل يمكن أن يُفضي عملياً إلى تطبيق "مشروع التقسيم" من العام 1947، بينما سيخدم تطوير المنطقة أهداف سكانها العرب واليهود على حد سواء.

كذلك فإن الدولة مطالبة أيضاً ببلورة إستراتيجية لتطوير القدس، تنبثق عن رؤيتها (الدولة) إزاء الطابع المرغوب لعاصمتها. وتشدّد الوثيقة بوجه خاص على أن ضرورة التحرك والعمل ملحة في ضوء أنه لم تعد هناك اليوم في القدس أغلبية صهيونية، كما أن الجمهور اليهودي مستمر في الهجرة من المدينة جراء النقص في أماكن العمل، وتدني مستوى الحياة وغلاء المعيشة. في المقابل فإن الجمهور العربي- الفلسطيني، الذي يلاحظ الامتيازات والأفضليات النسبية للمدينة، يستمر في التدفق عليها.

*****

 

ثمة محاور أخرى في الوثيقة، ناهيك عن المحور المتصل بالعلاقة مع الفلسطينيين، تستحق الالتفات أيضًا.

 

- من هذه المحاور الموضوع الإيراني. فإن الوثيقة تكرّر رأيًا راسخًا بأن إسرائيل لن تستطيع التسليم بوضع تمتلك فيه إيران، بنظامها الحالي، سلاحًا نوويًا ووسائل لإطلاق مثل هذا السلاح، وأنه من الصعب الاعتماد على منطقية أو عقلانية نظام يتأثر تفكيره بأسس وعناصر دينية، خاصة وأن هذا النظام يجاهر بنيته في محو إسرائيل عن الوجود. وعلاوة على ذلك تؤكد الوثيقة مرة أخرى أنه كما هي الحال في العراق فإنه لا يمكن القضاء نهائيًا على القدرة الإيرانية على تطوير سلاح نووي دون احتلال إيران، مع أنه من الصعب رؤية هذا البديل يتحقق عمليًا.

لكن الجديد الذي تأتي به الوثيقة يندرج تحت العنوان "من الردع إلى الاستباق" ويتمثل في الإلحاح على إسرائيل، في ضوء شيوع مناخ دولي مؤات، أن تبادر إلى بلورة نظرية قانونية تعنى بعمليات "الإحباط الموضعية" أو "المحددة الأهداف" وبالعمليات الوقائية، وذلك عن طريق إيجاد آليات وهيئات قضائية لإنجاز مهمة واحدة، من قبيل محكمة يشغل عضويتها قانونيون ورجالات فكر وثقافة، بحيث تبت هيئة هذه المحكمة الخاصة في كل حالة وفي ملموسيتها إذا ما كان هناك مبرر لشن هجوم استباقي.

ومن السهل بمكان ملاحظة أن الهدف المستتر من هذا الإلحاح، أيضًا، هو تحقيق شرعنة دولية لعمليات التصفية التي ترتكبها إسرائيل ضد ناشطين فلسطينيين والتي تخلع عليها تسمية "الإحباط الموضعي".

 

- أما المحور الآخر الذي لا يجوز القفز عنه فهو المتصل بعلاقات إسرائيل والولايات المتحدة.

 

في هذا الصدد جاء في الوثيقة أن هناك من يقدّر أن دعم الولايات المتحدة واليهود الأميركيين لإسرائيل عرضة للخطر والتهديد نتيجة لعمليتين - سيرورتين- بعيدتي المدى هما:

- اتجاه مناهضة الصهيونية الذي يقوده اليسار المتشدد، والذي يعمل في الجامعات الأميركية على ترويج آراء سلبية تجاه إسرائيل بين القادة المستقبليين للولايات المتحدة.

- وعلى الطرف الآخر للطيف السياسي، تشتد في أوساط اليمين المتطرف والتيار المسيحي الأصولي (المحافظون الجدد) المتمسك بعقيدة "أرض إسرائيل الكبرى"، الانتقادات والحملات الموجهة ضد إسرائيل كلما تحركت في اتجاه السلام مع العرب. فالتيار المسيحي اليميني المؤمن بفكرة "الخلاص" وبأن المجتمع في إسرائيل مجتمع ديني، سيكف عن تأييد إسرائيل حالما يتأكد لأتباعه أن الواقع في الدولة اليهودية مغاير لما تصوروه.

وينبثق عن ذلك استنتاجان عمليان رئيسيان: أولاً، يتعين على إسرائيل أن تحاول كسب تأييد الأميركيين العلمانيين أيضاً، وأن تعمل ثانياً على الحد من تبعيتها واعتمادها على دعم الإدارة الأميركية ودعم يهود الولايات المتحدة.

 

أخيرًا، عرضت في "مؤتمر هرتسليا السادس" نتائج استطلاع هو الأول من نوعه لمسح الرابطة الوطنية الإسرائيلية على اختلاف أبعادها ومستوياتها (الاستعداد للتضحية، الأصالة، الاعتزاز والرمزية). وأشارت هذه النتائج إلى تراجع الوطنية في صفوف أبناء الجيل الشاب، وإلى اغتراب في صفوف ذوي المداخيل المتدنية. وعلى الرغم من أن "استعداد الإسرائيليين للقتال والمحاربة دفاعاً عن دولتهم" أعلى مما هو عليه في سائر الدول التي شملها الاستطلاع المماثل، إلاّ أن اعتزازهم بدولتهم منخفض نسبياً، خاصة في كل ما يتعلق بأداء وفاعلية الديمقراطية ودولة الرفاه في إسرائيل.

 

ويرى معدو الوثيقة أن معطيات هذا الاستطلاع مثيرة للقلق في قسم منها، وبالتالي فهي تستوجب التحرك والعمل من جانب جهات السلطة ومحافل التربية والتعليم. أما القرار بالنسبة لاتجاهات السياسة التي تمليها تلك المعطيات فيقع اتخاذه على عاتق القيادة السياسية للدولة.

 

ومع إحالة هذه المعطيات إلى نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة قد يؤدي الأمر إلى قليل من التفاؤل الحرج بشأن ما تواضعنا على تسميته بـ"التصويت الاجتماعي" في تلك الانتخابات. ومع موقف كهذا من المنطقي الانتظار بأن يكون المستقبل مفتوحًا على أفق سياسي ما، باعتبار أن المفتاح للتغيير الاقتصادي- الاجتماعي كان ولا يزال سياسيا بامتياز...

 

_______________________________

 

(*) صدرت حديثًا عن "مدار" ضمن سلسلة "أوراق إسرائيلية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات