سمعت أحد الزملاء الصحافيين العرب، مساء الجمعة، في حديث لإذاعة الجيش الاسرائيلي "غالي تساهال"، يشير الى ما اعتبره "موضوعية" القنوات التلفزيونية العربية في تغطية انهيار صحّة اريئيل شارون. دليله على ذلك كان امتناعها عن ذكر تاريخ الجنرال شارون.
المشكلة في حديث الزميل ليس فقط ادعاؤه المبطـّن بخطأ إيراد الفصول القاتمة من تاريخ رئيس الحكومة الاسرائيلي فيما هو تحت مبضع الجراحة، بل مصطلح الموضوعية نفسه. ليس فقط لأن الموضوعية في سياقنا حلمٌ مستحيل، كون الصحافي في اللحظة التي يقرر فيها أن يقول شيئًا فهو، في نفس هذه اللحظة، يكون قد اختار عدم قول أشياء. وليس فقط لأن مجرّد قول "هذا" في البداية و"ذاك" لاحقًا يغيّر "نظام وصف الحقيقة" مما يجعل الرؤية كلـّها شخصية/ ذاتية. وليس فقط لأن الفعل الصحافي هو فعل يتجاوز الوصف الجاف لمجموعة معطيات وإنما يقوم بتقديمها بشكل "ما" وبالتالي يؤسس لمعرفة عينية "ما"، وهو ما يشكّل بالضرورة عين النظرة الذاتية.. المشكلة أنه لا يمكن أن يكون أحد معاني الموضوعية، حتى بصفتها الافتراضية، تقديم صورة منقوصة. لا يمكن إسباغ الموضوعية صفةً لفعل ينتقص ولو واحدة من مجموعة الحقائق التي تؤلـّف سجلاً ما. فهنا لن يكون الأمر نظرة ذاتية للغاية فحسب، بل نظرة مشوَّهة ومشوِّهة أيضًا.
في سياقنا (الذي لا أدعي فيه تلخيصًا لسيرة شارون، بل تقديم ملاحظة أو اثنتين على هامشها فقط) لا يمكن اختزال سنوات شارون الـ 78 الى ما فعله خلال الفترة الأخيرة لا غير والتعامل معه كابن هاتين السنتين فقط. لا يمكن التعامل معه كرضيع. وحتى لو افترض أحدهم أن شارون، الذي يبدو أن حياته السياسية انتهت، قام بكبريات الفضائل – وهي ما تبعد عنه كالثريا عن الثرى – فإن مغامراته الدموية ستظلّ جزءًا من تاريخه وممارساته وسجلـّه وميزان الحكم عليه، كسياسي، ولا يمكن محوها حتى لو كان الدافع هو الرأفة بمن يصارع الموت، والخشوع أمام الرهبة الكامنة في فصول النهاية.
إن معاناة شارون في عمره المتقدّم الحالي تحت عبء الجلطة التي ألمـّت به، لا تلغي المعاناة التي تسبب بها لكثيرين، من فلسطينيين واسرائيليين أيضًا. إقدامه على الانسحاب من طرف واحد من غزة، رغم أهمية سابقة تفكيك المستعمرات، لا يحوّله الى عضو فخري في حركة "تعايش". أصلا فقد اختار انسحابًا أحاديًا منعًا لإجراء تفاوض متكافئ جدّي وسليم. ما نـُسب اليه في الأيام الأخيرة بشأن وضعه خطة بديلة لـ "خارطة الطريق" المنقوصة أصلا، ونيته التفاوض حولها مع واشنطن(!) لإقرار حدود اسرائيل الشرقية من طرف واحد، هو مواصلة لترويج فرية "انعدام الشريك الفلسطيني"، وهذا لا يجعله بالطبع يستحق جائزة نوبل البديلة للسلام ولحقوق الشعوب. بل إن مفردات كـ صبرا وشاتيلا، قبية، حصار بيروت، الاستيطان والضمّ، الاغتيالات كسياسة رسمية، رفض وضع الثقة بالعرب، وضع الثقة بالنهج الرأسمالي المتطرّف، وضع اسرائيل في خدمة الإمبريالية، التهويد، والديمغرافيا العرقية - ستظلّ كلها جزءًا من تاريخه. ستظلّ ثقوبًا في قلوب من عانوا تحت وطأتها.
يجب أن يكون التوجّه واضحًا: إن شارون كشخص مريض يستحق التعامل معه، رغم كل شيء، ككل شخص مريض يستحق العلاج والتمنيات الصادقة بالشفاء. لكن الأمر لا ينطبق على نهجه السياسي العسكرتاري الذي يستحق كل التمنيات الصادقة والعمل الدؤوب لدفنه، كي تقلّ قائمة الفلسطينيين والاسرائيليين الذين لا تزال تبتلعهم المدافن بسبب سياسته المتعجرفة العنيفة.
واضح أنه سيكون من غير الجدّي الادعاء أن توجه شارون السياسي لم يتغيّر في سنواته الأخيرة. ولكن لا يكفي القول "ها هي سياسة الشخص قد تغيّرت" حتى نقذفه بالمدائح. لأن السؤال سيظل: أيّ تغيير قد حصل، الى أي مدى، ما هي دوافعه، وإلى أي اتجاه؟
لقد غيّر شارون (مضطرًا) سياسة "اسرائيل الكبرى"، لكنه أحاط جديده السياسي بالجدران وخنادق الحرب. ربما وصل الى "اسرائيل كاملة لكن أصغر" للضرورات الأمنية والديمغرافية، لكنه لم يصل أبدًا الى الاعتراف بمبدأ "دولتين متكافئتين" اسرائيلية وفلسطينية، ولا دولة للشعبين بالتأكيد. لم يصل بأيّ شكل الى مستوى الاعتراف الصريح بالحق الفلسطيني كحق عادل، وهو الحدّ الأدنى من شروط نيل صفة رجل السلام. في المقابلة الأخيرة التي أدلى بها لصحافيين يابانيين (الثلاثاء الفائت) قبل دخوله الغيبوبة قال: "موقفنا هو أنه لا تفاوض على القدس. القدس هي عاصمة اسرائيل الموحّدة... ستظلّ للأبد عاصمة اليهود". وهذا مثال فقط على لهجة التفاوض العنصرية الاستعلائية إياها التي تقول: اسرائيل ومصالحها أولاً، وما يتبقى بعد ذلك يمكن "التفاوض" عليه. ويا له من عرض "سخيّ" على الفلسطينيين: اقبلوا بما يظلّ على موائدنا من فتات، بعد أن تقرر اسرائيل من طرف واحد ما تريده بقوّة السلاح!
في الوقت نفسه يمكن التوقـّف بإعجاب عند الكلمات التالية:
* سؤال: هل انتهيت من قراءة (رواية) "فونتنيلا" لمئير شاليف؟
- جواب: "بقي أمامي قسم صغير. لقد استصعبت هذا الكتاب في البداية، لكني اكتشفت فيما بعد أنه كتاب متميّز.
*سؤال: لكن شليف ليس من كبار أنصارك!
- جواب: ما العلاقة؟ فقد قرأت أيضًا كتاب محمود درويش وتحاورت مع قصيدته، عن الحصان الذي تـُرك، ("لماذا تركت الحصان وحيدًا؟") وقد حسدته على وصف هذه العلاقة بينهم وبين الأرض.
وكان شارون يرد هنا على اسئلة ضمن مقابلة للصحافيين بن كسبيت وحانوخ داوم (صحيفة معاريف 22 نيسان 2005).
بين هذا وذاك، يظلّ السؤال مطروحًا ومثيرًا عن سرّ هذه العلاقة الملتبسة لدى الجنرال رقم واحد مع أهل البلاد الفلسطينيين: إعجابٌ "ليري" بعلاقتهم بأرضهم من جهة، وحرب عديدة المحطات الدموية ضدهم من جهة أخرى..
ومن يعلم فقد لا تكون في هذا كلـّه مفارقة بالمرة: فخلف المستر جنرال والسيّد المتذوّق لقصيدة يقرأ فيها بإعجاب عن تمسّك الفلسطيني بأرضه، يختبئ خوف كبير. ربما هو الخوف القديم لدى من يظنون أنهم الأقوياء أمام ضعف المستضعَفين المتشبـّثين بوطنهم بفعل قوّة حقهم وعدالة مطلبهم.
قد يكون الناشط السلامي البارز أوري أفنيري أصاب حين لخـّص مسيرة شارون، في حديث تلفزيوني مساء الجمعة، بالقول: "لقد كان على الدوام يبني ثم يهدم".. ربما أنه حاول في آخر حياته تغيير الترتيب كي "يبني بعض ما هدم"، لكن حتى لو اقتنع كثيرون بهذا فسيظلّ شارون عاجزًا عن ازالة ما خلـّفه من ركام وأشلاء في دربه الحربية التي طالت مع أن لقبه الشهير هو "البلدوزر".