المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في برنامجه التلفزيوني الإخباري، يوم 5 حزيران 2005، استضاف الصحافي والمذيع الإسرائيلي دان مرغليت الجندي ميخائيل شفارتسمان، الذي أصيب في عينه بحجر، كما قال، خلال مظاهرة ضد الجدار في بلعين، مما أدى إلى فقدانه الرؤية فيها.

الجندي تحدث بنفس المفردات وبذات الرواية منذ ساعات الصباح لكل الإذاعات والقنوات. وبدا واضحًا أن هناك جهات عسكرية عُليا تسعى إلى زجّ هذا الجندي الشاب في كل وسيلة إعلام ممكنة لأهداف دعائية محددة. ولكن في مجمل الصورة التي نقلها الجيش على لسان أحد جنوده-الذي هو أحد ضحاياه أيضًا!- لم يجرِ التطرق بالمرة إلى العنف العسكري المعهود بحق متظاهرين عُزّل سلميين احتجوا ضد جدار الاستيطان والنهب (وأتحدث هنا كشاهد عيان شارك في هذه المظاهرة).

فقد انهال الجنود بالهراوات على متظاهرين وأطلقوا قنابل الغاز المسيل للدموع باتجاه بيوت القرية، وأطلقوا الرصاص الفولاذي المغطى بطبقة رقيقة من المطاط (هو ليس بالضبط رصاصًا مطاطيًا!). وبين المصابين البارزين شاب يهودي من تل أبيب أصيب بشكل بالغ في شفته العليا بهراوة أو بأحد أعقاب البنادق ولم يتمكن "الهلال الأحمر الفلسطيني" من معالجته ميدانيًا بشكل تام لخطورة اصابته، إذ أن الجرح احتاج إلى "قُطب". وبالإضافة، فقد استعمل الجيش وسيلة قمع جديدة (جرى منع استعمالها بشكل واسع في الولايات المتحدة مثلا)، وهي تتمثل بإطلاق صفير عالي الوتيرة يصمّ الآذان ويصيب من يسمعه بالدوار والإغماء ("سدّوا آذانكم"، صرخ طاقم الإسعاف نحونا.. ولم أفهم سرّ هذه الضجة البشعة إلا حين اعترف الجيش بالأمر).

ذلك الجندي ظهر من خلال ما لقّنته إياه ماكينة الناطق العسكري كما لو أنه وقع ضحية اعتداء في حديقة عامة، أو في مقهى، وليس كجندي جاء ضمن قوة احتلالية قمعت متظاهرين عُزّل. فقد ادّعى أن المتظاهرين أقاموا صلاة في الموقع (وهذا صحيح)، وفور انتهائهم بدأوا بالصراخ والتحريض والدفع والضرب (وهذا كذب، فالهتافات كانت سياسية 100 % ضد الجدار والاحتلال، وهذا شرعي بل مطلوب)، وزعم أيضًا أن الحجارة بدأت فورًا (وهذا كذب أيضًا، فالحجارة جاءت في وقت متأخر وبزخّات خفيفة متقطّعة، فقط بعد الغاز والضرب القمع).

ولكن دان مرغليت، كصحفي مجرور منجرّ تابع ومسوّق للرواية العسكرية، عرف كيف يكرّر السؤال المغرض: "أصبت فور انتهاء الصلاة؟!". ثم تابع بسلسلة أسئلة تعيد بمجملها صياغة رواية الجيش قائلا: "هل من ضربك هو متظاهر فلسطيني أم إسرائيلي؟"، وأيضًا: "ماذا تفعلون (أي الجنود) حين تتعرضون للحجارة؟"، والجندي يردّ: "نحاول حماية أنفسنا، والعثور على مكان نختبئ فيه، والهرب من الحجارة"..

من يسمع هذه الأكاذيب يتخيل أن جنود الاحتلال الإسرائيلي لم يستعملوا البنادق في حياتهم، ولا يعرفون كيف تُطلق قنابل الغاز، ولا يعرفون معنى الكلمة الأجنبية "قمع"، ولم يسمعوا بما يجري منذ 38 عامًا في الأراضي المحتلة!

إن هؤلاء الجنود استعملوا في بلعين العديد من الوسائل القمعية العنيفة بحق متظاهرين عُزّل. وحتى حين كانوا بعيدين جدًا عن مرمى الحجارة القليلة المتفرقة، واصلوا إطلاق الغاز والرصاص الفولاذي المغطى بطبقة رقيقة من المطاط باتجاه الشبان. (ممرض الهلال الأحمر قال لي قبل انتهاء المظاهرة إن طاقمه عالج أربعة مصابين بذلك الرصاص، أحدهم كانت إصابته في الرأس. وربما ارتفع عدد المصابين لاحقًا).

إن هذه التغطية العسكرية الدعائية المكثـّفة لما حدث ذلك اليوم في بلعين المحتلة تشعل ضوءًا أحمر. فالجيش يريد تسويق رواية يصبح فيها الحجر ولو تم إلقاؤه من بعيد بيد شاب غاضب، بمثابة سلاح قاتل يستحق ردًا عسكريا قاتلا. (أحد مصادر الجيش استنتج في حديث لأحد مواقع الأخبار: "هذا يثبت أن الحجر وسيلة قتل"!).. هناك من يسعى لشرعنة مسبقة لما يخطّط له من قمع في هذه القرى الفلسطينية التي تخرج يوميًا دفاعًا عن أرضها وتصديًا لنهبها!

لقد كانت سياسة الجيش الدعائية عقب تلك المظاهرة بمثابة سرقة للرأي العام عبر إبلاغه بشظايا حقائق، واستدرار عواطفه لصالح "جنود مساكين يختبئون من حجارة متظاهرين". وهذا كذب طبعًا. لأن الحقيقة معاكسة تماما، وكل من شارك في مظاهرات سلمية أشعلها الجيش بقمعه، بإمكانه تخيّل الحقيقة. وهي بسيطة: فهذا الجيش يتصرف بشكل قمعي وعلى قاعدة "تنفيذ الأوامر دون طرح أسئلة"، وهو يرى في الفلسطينيين أقل من بشر، وفي من يتضامن معهم من إسرائيليين أقل من مواطنين (العربي مواطن إسرائيل يقع بين الدرجتين، مع إزاحة جدية نحو الـ"أقل من بشر"..).

وهذه الحملة الدعائية التي تم تنسيقها بكامل الدقة والخبث، تستدعي التحذير مما سيقدم عليه الجيش ضمن قمع النشاطات الكفاحية القادمة ضد جدار ضم المستوطنات، في بلعين وجوارها.

هذا يتطلب حذرًا يتمثّل في اعتماد الحكمة والمسؤولية دون التنازل بالمرة عن الموقف الواضح والحق الكامل في الاحتجاج، ويتطلـّب منّا التواجد إلى جانب الأهل الفلسطينيين بأكبر عدد ممكن، وبأكثر ما يمكن من تجنيد إعلامي، وبحضور عربي- يهودي- أجنبي مكثـّف.. فنحن لسنا، ولا يجب أن نكون مجرّد متضامنين أجانب في هذه النضالات!

أخيرًا، شبه نكتة سوداء: ذلك الصحفي، مرغليت، اختتم مقابلته مع الجندي بلهجة مقيتة تجلت بالسؤال التالي: "موشيه ديان فقد عينه لكنه وصل إلى أعلى المراتب العسكرية، أنت أيضًا يمكنك ذلك، فما هي خططك الآن؟".. لكن الجندي المصاب الذي أرسلوه إلى منطقة محتلة وعرّضوه للخطر (الفعلي والأخلاقي..) والذي استعملوه لبثّ رواية كاذبة، قال مترددًَا: "كلا.. فما كان (في بلعين) مخيف.. مخيف جدًا.. لست موشيه ديّان.. أريد أن أتعافى وبعدها أفكر بمستقبلي".. هذا الجواب الأخير من الجندي كان صادقًا تمامًا. كان جوابًا من شاب في حدود العشرين فقد عينه لأن هناك ساسة دون أخلاق جرّوه لخدمة مشروع ساقط سياسيًا وأخلاقيًا.. ولذلك فهو قد فضح ما سعى إليه موظفو إعلام بقامة مرغليت المهنية الواطئة، وترك رواية الجيش مثقوبة كخرقة بالية.

فهو في النهاية- الجندي، نعم- ضحية شابة أخرى لسياسة الاحتلال، رغم أنه يعيش في الجانب الغربي لحدود 1967، ورغم أنه يخدم في الجيش، ورغم أن تعريفه العام هو: جندي مدجّج بالسلاح!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات