يزداد يوما بعد يوم الجدل في اسرائيل حول ما يسمى بـ "المشكلة الديمغرافية"، التي تهدد بشكل واضح الحفاظ على "يهودية الدولة" من وجهة نظر اسرائيل، على ضوء تراجع نسبة اليهود أمام العرب في فلسطين التاريخية، حاليا، ولكن أيضا في داخل حدود اسرائيل المعترف بها، ويشكل هذا الجدل محفزا لظهور خطط وبرامج سياسية خطيرة جدا على العرب، وعلى رأسها انتشار فكرة "الترانسفير"، الطرد الجماعي، للعرب من وطنهم.
وينبع القلق الاسرائيلي من مصدرين الأول هو نسبة التكاثر المنخفضة لدى اليهود مقارنة بالنسبة ذاتها عند العرب، والثاني تراجع اعداد المهاجرين اليهود الى اسرائيل بنسبة 80% وأكثر، مقارنة عما كانت عليه في سنوات التسعين من القرن الماضي، وبالامكان اضافة مصدر ثالث وهو ان عدد اليهود في العالم يتراوح ما بين الجمود وحتى التراجع بفعل الاندماج الحاصل في الدول الاوروبية.
في هذه المعالجة نطرح المحاور المركزية لما تسميه اسرائيل "المشكلة الديمغرافية"، من حيث الارقام وكيفية استثمارها في البرامج السياسية.
المشكلة الأولى لإسرائيل
يبدأ القلق الاسرائيلي من معطيات العرب واليهود في داخل حدود اسرائيل المعترف بها، ومن ثم الى كامل فلسطين التاريخية، بمعنى حدود 1967، فقد أظهرت آخر احصائيات رسمية في اسرائيل ان نسبة اليهود في اسرائيل هي 78%، مقابل 18% للعرب، في حين ان هناك 4% لا يعرّفون عن انفسهم، وبالامكان القول ان 98% من الـ 4% هم من المهاجرين غير اليهود (مسيحيين)، الذين هاجروا ضمن عائلات يهودية، خاصة من دول الاتحاد السوفييتي السابق.
وتعني نسبة 78% بداية فشل للهدف الذي وضعته لنفسها الوكالة اليهودية، بأن لا تتراجع نسبة اليهود في داخل اسرائيل عن 80%، فقد وضعت الوكالة مخططات تهدف الى استقدام الحد الادنى من اليهود، الذي بامكانه ان يسد الفجوة في نسبة التكاثر بين اليهود وبين الفلسطينيين العرب في اسرائيل، ولكن هذا المشروع يسجل فشلا سنويا في السنوات الخمس الأخيرة، علما ان اسرائيل باستقدامها حوالي 1,3 مليون مهاجر في السنوات الـ 15 الأخيرة تمكنت من تجميد نسبة الفلسطينيين في اسرائيل من مجمل سكان اسرائيل لعدة سنوات.
وطبعا الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالمستقبل يبشر بتراجع أكبر لليهود، إذا نظرنا الى احصائيات اسرائيلية رسمية حول نسبة الولادات، فقد قال آخر تقرير اسرائيلي رسمي في هذا المجال ان 29,6% من الولادات في اسرائيل في العام 2003، كانت لامهات عربيات، بينما نسبة المواليد اليهود في ذلك العام كان 68%، وكان 3% من المواليد لامهات لم تعلن عن انتمائهن، وغالبا هن امهات هاجرن الى اسرائيل من خلال الهجرة اليهودية او زوجات لعمال اجانب.
تراجع الهجرة
إن ما يزيد الطين بلّة بالنسبة لاسرائيل هو ان الهجرة اليهودية تسجل تراجعا سنويا واضحا، وهي اليوم في حدود 20% فقط مما كانت عليه في سنوات التسعين من القرن الماضي، فقد سجلت الهجرة اليهودية الى اسرائيل (يهودية من حيث المبدأ) في العام الماضي 2004 أقل بقليل من 21 ألف مهاجر، وهذا يشكل تراجعا كبيرا للعام الرابع على التوالي، مقارنة عما كان عليه منذ مطلع سنوات التسعين من القرن الماضي، وحتى العام 2000، وتقول دائرة الاحصاء الاسرائيلية ان هذا العدد هو الأقل منذ العام 1989، وان معدل السنوات الثلاث الاخيرة للهجرة اليهودية الى اسرائيل يشابه اعداد المهاجرين في سنوات الثمانين، حين تراوح معدل المهاجرين سنويا من 9 آلاف الى 20 ألف مهاجر.
فقد هاجر الى اسرائيل في سنوات التسعين، اي من العام 1990 وحتى العام 1999 ، حوالي 956 ألف مهاجر، واكبر موجات هذه الهجرة كان في العام 1990، حين وصل الى اسرائيل حوالي 200 ألف مهاجر، وفي العام الذي تلاه 176 ألف مهاجر، ولاحقا كان المعدل في حدود 74 ألف مهاجر، وكانت أولى معالم الانخفاض في الهجرة في العام 2000 حين انخفضت الهجرة الى 60 ألف مهاجر.
ووصل الى اسرائيل في العام 2001، أكثر بقليل من 43 ألف مهاجر وانخفض العدد في العام 2002 الى أكثر من 33 ألفا، وفي العام 2003 انخفض إلى 23 ألفا، والعام الماضي 2004 الى أقل بقليل من 21 ألفا.
وكما ذكر فإن هذه الارقام انما تؤكد فشل مخطط الوكالة اليهودية لسد الفجوة في التكاثر، فهذا المشروع لا يمكن تطبيقه على ارض الواقع وعلى ضوء الارقام المعروضة، فمثلا، في العام 2003 كان عدد الولادات عند العرب 41744 طفلا وهو ما نسبته 29,6% ، بينما عند اليهود 99127 طفلا أي 68,5% (3 آلاف طفل لم تعلن اصولهم)، وهذا يعني انه على الوكالة الصهيونية استقدام مئة ألف يهودي جديد في هذا العام، لكي تبقى نسبة العرب 20%، وهذا نسج من الخيال، إذا أخدنا بعين الاعتبار ما سبق من معطيات حول هجرة اليهود.
وأكثر من ذلك فإن اسرائيل الرسمية باتت تدرك ان استقدام مليون يهودي آخر من العالم الى اسرائيل هو ايضا نسج من الخيال، حتى ولو "بشّر" وزير المالية بنيامين نتنياهو انه سيجعل اسرائيل بعد عشر سنوات واحدة من اغنى عشر دول في العالم، ولم يلق تصريح نتنياهو في الساحة الاسرائيلية سوى تعليقات الاستخفاف والسخرية، على ضوء الأزمة الاقتصادية واستفحال الفقر في الشارع الاسرائيلي.
وتدرك اسرائيل انه لكي يكون بامكانها استقدام "مليون آخر من اليهود"، كما يدعو لذلك رئيس الحكومة اريئيل شارون، يجب ان يكون دافع لهم في اوطانهم، وايضا محفزات لهم في اسرائيل، ولكن عدم الاستقرار الامني والاوضاع الاقتصادية في اسرائيل لا تحفزان الهجرة، أضف الى ذلك مساحة البلاد ومواردها الطبيعية، خاصة المياه على المدى البعيد، وعدم استطاعتها استيعاب اعداد هائلة أكثر من نسب التزايد الطبيعي.
والعامل الأهم لتراجع اعداد المهاجرين اليهود الى اسرائيل هو ان غالبيتهم الساحقة في العالم يعيشون في دول غنية ومتطورة، ومستوى المعيشة فيها أعلى من اسرائيل، ناهيك عن الاستقرار الامني والحياتي هناك، فحسب احصائيات الوكالة الصهيونية الأخيرة، فإن التجمع الاكبر لليهود في العالم، خارج اسرائيل، هو في الولايات المتحدة، أكثر من خمسة ملايين، الذي يتقارب مع عدد اليهود في اسرائيل، والتجمع الثاني حوالي 600 ألف موجودون في فرنسا، وفي دول الاتحاد الاوروبي، و450 ألفا في دول الاتحاد السوفييتي السابق، و400 ألف في اميركا اللاتينية و350 ألفا في كندا.
ولاثبات هذا الأمر فإن احصائيات اسرائيل الرسمية حول الهجرة في العام 2004 افادت انه هاجر الى اسرائيل من جميع الدول الاوروبية، حوالي 11 ألف يهودي، ولم يصل عدد الفرنسيين منهم الى ثلاثة آلاف.
وبالامكان هنا فهم الهجوم الاسرائيلي المكثف على فرنسا في الاشهر الأخيرة بزعم ان مظاهر ما يسمى بـ "اللاسامية" متنامية هناك، وان اليهود يواجهون "اخطارا عنصرية"، ولكن هذا التباكي، خاصة من رئيس الحكومة شارون، لم يلق آذانا صاغية وقلوبا مفتوحة عند الفرنسيين اليهود، الذين لم يسارعوا الى حزم امتعتهم "والهرب الى ارض الميعاد".
ونذكر هنا أن آخر استطلاع أجرته احدى الجمعيات الصهيونية الفاعلة في اوروبا، التي تسمى نفسها "عصبة مقاومة التحريض"، ونشرت معطياته في الايام القليلة الماضية، أظهر أن أقل نسبة افكار "معادية لليهود" في اوروبا موجودة في فرنسا، وبفارق كبير عن باقي الدول.
عدا عن ذلك فإن اعداد اليهود في العالم، وفق آخر احصائيات ظهرت في العام الماضي، قد تراجعت الى 13 مليون نسمة، ويقول خبراء ان هذا بسبب الاختلاط في الزواج، خاصة في الولايات المتحدة الاميركية وايضا في دول اوروبية.
استفحال "المشكلة" في فلسطين التاريخية
إذا كنا تحدثنا عن المشكلة الديمغرافية من ناحية اسرائيل داخل حدودها المعترف بها (منذ العام 1948)، فإن الجدل بين السياسيين و"الخبراء" يدور بالاساس حول نسبة اليهود في فلسطين التاريخية، من البحر الى النهر، وهناك تقارير رسمية وغير رسمية متناقضة، ويقول أكثرها تفاؤلا من حيث النظرة اليهودية، ان نسبة اليهود في كامل فلسطين 60%، وأكثرها تشاؤما من ناحيتهم 53%، وفي حين تقدر المجموعة الاولى ان اليهود سيتحولون الى أقلية في العام 2050، فإن المجموعة الثانية تقول ان هذا سيتحقق في العام 2020. وهناك من يحاول الظهور برأي ثالث وسطي.
وموطن الجدل بين المجموعتين هو في عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا الجدل عاد من جديد بقوة في الاسبوعين الماضيين، بعد ان صدر تقرير عن دائرة الاحصاء المركزية الاسرائيلية يؤكد صحة الاحصائيات الفلسطينية، التي تفيد ان عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع هو في حدود 3,6 مليون نسمة، وفي المقابل ظهر تقرير آخر اعده من تم وصفهم بـ "خبراء اسرائيليين واميركان"، يزعمون ان الاحصائيات الفلسطينية مزوّرة وليست علمية، وان عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع هو 2,4 مليون نسمة.
وهناك في الواقع اربع احصائيات في هذا المجال، ثلاثة منها شبه متقاربة، فدائرة الاحصائيات الفلسطينية تقول ان عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع اليوم هو 3,6 مليون، ويقول تقرير للبروفيسور اليهودي اليميني ديلا فيرجولا ان عددهم 3,3 مليون وان نسبة اليهود في فلسطين التاريخية هي 51% والفلسطينيين 45% والمهاجرين من غير اليهود والعمال الاجانب يشكلون 4%، وحسب تقديرات جيش الاحتلال فإن عددهم ثلاثة ملايين، أما التقرير الرابع فهو تقرير "الخبراء الاسرائيليين والاميركان" السابق ذكره الذي يدعي ان عددهم 2,4 مليون، ويدعون ايضا ان نسبة اليهود في فلسطين التاريخية هي 60%.
وتقول دائرة الاحصاء المركزية الاسرائيلية في تقريرها الجديد انها أخطأت في تقريرها السابق حين شككت في معطيات دائرة الاحصاء الفلسطينية، وتؤكد الآن صحة الاحصائيات الفلسطينية، وتقول ان عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع حاليا يتراوح ما بين ثلاثة ملايين الى ثلاثة ملايين ونصف المليون، كما يثبت التقرير نفسه ما تقوله دائرة الاحصاء الفلسطينية بشأن نسبة التكاثر السكاني من حيث المواليد، وانه في السنوات العشر الأخيرة ازداد عدد الفلسطينيين بنسبة 109%، وهي تضاعف نسبة التكاثر السكاني في غالبية دول العالم، في حين شككت الدائرة الاسرائيلية بشأن معطيات الهجرة الى الضفة والقطاع، وقالت انه مبالغ فيها.
أما تقرير "الخبراء" النقيض، فيدعي وجود انخفاض حاد في نسبة التكاثر السكاني في الضفة والقطاع، من 3,8% في العام 1997، الى 2,4% اليوم، وهذا ما يرفضه خبراء دائرة الاحصاء المركزية الاسرائيلية، على ضوء ان نسبة التكاثر في اسرائيل هي 2,1%، بينما في الضفة والقطاع فإن عدد الولادات للمرأة الواحدة هو أكثر من المرأة الاسرائيلية.
الانعكاسات السياسية والحلول الخطيرة
إن هذه الارقام تؤكد انه حتى في حالة انسحاب اسرائيل الكامل من كافة المناطق المحتلة منذ العام 1967 فإن ذلك لن "ينقذها" من مشكلتها الديمغرافية على المدى البعيد.
إن كثرة النقاش الاسرائيلي حول العامل الديمغرافي، و"مشكلة اليهود" الى جانب الدعاية الصهيونية المركّزة، وهو "أن اليهود دائما في خطر"، فتحت الباب على مصراعيه امام الدعوات العنصرية الخطيرة، وعلى رأسها فكرة الطرد الجماعي للعرب "الترانسفير"، ولكن إذا قلنا ان هذه طروحات يمينية لا تجرؤ اسرائيل على طرحها، على الاقل حاليا، فإن اسرائيل الرسمية تضع مخططات واضحة لتضييق الخناق على العرب، خاصة الفلسطينيين في اسرائيل، وعلى رأسها سياسة التمييز العنصري، وظهرت في السنوات الماضية سلسلة من التقارير شبه الرسمية صادرة عن موظفين كبار او قادة أجهزة امنية، يطرحون فيها اساليب لتحفيز العرب على الهجرة الى الخارج بمحض اراداتهم بعد ان تضيق الحياة عليهم، ولهذا ليس غريبا حينما نرى ان الفلسطينيين في اسرائيل هم على رأس قائمتي البطالة والفقر في اسرائيل، وفي ادنى سلم التحصيل العلمي، ونسبهم في الجامعات الاسرائيلية بالكاد تتجاوز ثلث نسبتهم من جيل الدراسة في الجامعات المعاهد العليا.
وقد دل اخر استطلاع ظهر في اواخر الشهر الماضي في اسرائيل أن أكثر من 20% من اليهود في اسرائيل يرون ان الحل الأمثل لانهاء الصراع الاسرائيلي الفلسطيني هو طرد العرب من وطنهم، فيما رأى حوالي 4,5% من اليهود المستطلعين ان الحل الأمثل هو ابادة العرب، لأن "الطرد غير مجد"، حسب ما جاء في الاستطلاع.
وشمل الاستطلاع 400 شخص، يشكلون شريحة نموذجية لليهود في اسرائيل، ودلّ استطلاع سابق على أن نسبة اليهود الذين يتقبلون فكرة "الترانسفير" للعرب هي 30%، وعلى الرغم من ان هناك فجوة 5% بين الاستطلاعين، إلا ان كليهما يؤكدان وجود قاعدة اصبحت متينة لهذا الفكر.
في المقابل من الضروري التأكيد أن هذه النسب لا تنعكس في الانتخابات البرلمانية الاسرائيلية، والحزب الذي يلوح صراحة ببرنامج الطرد له ثلاثة مقاعد فقط من أصل 120 مقعدا في البرلمان الاسرائيلي (الكنيست).
والى جانب هذا تكثر في الاشهر الاخيرة فكرة التبادل السكاني، وابرزها ضم البلدات الفلسطينية في منطقة المثلث المحاذية لشمال غرب الضفة الغربية الى الدولة الفلسطينية العتيدة، مقابل ان تضم اسرائيل لها جميع المستوطنات في الضفة الغربية، وهو ما يتصدى له الفلسطينيون في اسرائيل.
وتحاول بعض قطاعات اليسار الصهيوني استخدام العامل الديمغرافي لتسويق برامجها الداعية الى اقامة دولة فلسطينية، ولكن انخراطها في هذا الجدل واظهار ان ضرورة اقامة دولة فلسطينية نابع من الخوف على الاكثرية اليهودية لاسرائيل أوقعها في مطب لم تستفد منه، لأن الشارع الاسرائيلي اعتاد عند اعلامه "بالمخاطر" ان يلجأ الى رمز القوة الموجود في اليمين، بمعنى ان هناك قطاعات في اليسار الصهيوني لم تتعامل مع القضية الفلسطينية كحق شعب في اقامة دولته، بل ايضا من منطلقات الفكر الصهيوني لاقامة دولة اسرائيل ذات الغالبية اليهودية.
إن تعامل اسرائيل المتزايد بما يسمى بـ المشكلة الديمغرافية، وما يفرزه من تنامي الافكار العنصرية، يطرح الكثير من علامات السؤال حول المستقبل، والسؤال الأكبر الذي نطرحه على ضوء ما تقدم، ما هو الشكل الذي ستختاره اسرائيل في نهاية الأمر لهذه القضية، سلام مقبول أم انفجار وحرب إبادة.
المصطلحات المستخدمة:
اريئيل, الصهيونية, المثلث, الوكالة اليهودية, دولة اسرائيل, اللاسامية, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو