ثمة مؤشرات ونوايا جدية، ربما أكثر من أية مرة سابقة، تؤكد بأن الطرفين: الفلسطيني والإسرائيلي، يحاولان وضع حد لصراعهما العنيف، بعد أكثر من أربعة أعوام من المواجهات الدامية والمدمرة، والتحول مرة أخرى، للتصارع على مائدة المفاوضات، حول قضايا التهدئة والحل الانتقالي (المتمثل بخطة خريطة الطريق) تمهيدا، ربما، للانتقال للتفاوض حول قضايا المرحلة الأخيرة، التي تشمل مستقبل القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية.
ما يرجح هذا الاحتمال، أولا، التغير القيادي لدى الطرفين، المتمثل بتشكل حكومة وحدة وطنية (من حزبي الليكود والعمل، وربما شاس لاحقا)، ومحاولة محمود عباس، الرئيس الفلسطيني الجديد، خلق مناخات تتيح إعطاء فرصة للمفاوضات بين الجانبين؛ ثانيا، الضغوط الأمريكية بهذا الاتجاه، على خلفية تعثر الترتيبات الأمريكية في العراق؛ ثالثا، تزايد قناعة الطرفين باستحالة قدرة أي منهما على فرض إملاءاته السياسية على الطرف الأخر، بوسائل القوة والعنف.
وقد بينت التجربة الماضية أن الإسرائيليين، برغم جبروتهم وتفوقهم في المجال العسكري وفي مجال السيطرة، فشلوا في إخضاع الفلسطينيين كما أخفقوا في وقف مقاومتهم، برغم كل أعمال الحصار والتدمير والتقتيل التي انتهجوها ضدهم؛ وبالمقابل فإن الفلسطينيين، وبرغم صبرهم ومعاناتهم وعنادهم ومقاومتهم، لم يستطيعوا فرض ما يريدونه على إسرائيل، بوسائل المقاومة لوحدها، لا سيما في هذه الظروف الدولية والعربية غير المواتية؛ برغم أنهم استطاعوا زعزعة أمن إسرائيل واستقرارها.
المهم أن هذه النتيجة الصفرية، المغلقة والمأساوية، لمشهد الصراع الدامي والمدمر، بين هذين الطرفين، تطرح التساؤلات حول مغزى هذه المواجهات وتأثيراتها ومآلاتها على جانبي الصراع. ولعل التساؤل الأبرز الذي يمكن تداوله، بهذه المناسبة، إنما يتعلق بتحديد الطرف المنتصر أو المنهزم في هذه المواجهات.
الثابت أنه ثمة صعوبة كبيرة في تحديد معنى النصر والهزيمة في صراع ممتد ومعقّد، كالصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبشكل أدق فثمة ما يؤكد استحالة الوصول إلى مثل هذه النتيجة المطلقة، في إطار المعطيات الراهنة.
مثلا، إذا أخذنا المعطى المتعلق بالوضع الأمني والخسائر البشرية، فبرغم من خسائر الفلسطينيين الكبيرة والفادحة (حوالي 75 ألف شهيد وجريح ومعتقل)، إلا أنهم استطاعوا أن يكبّدوا إسرائيل خسائر فادحة، بلغت حوالي 1030 قتيلا (والاف الجرحى) هو يفوق عدد الإسرائيليين الذين لقوا مصرعهم في حروب إسرائيل السابقة: 1956 و 1967 وحرب الاستنزاف (1968 ـ 1969) واجتياح لبنان (1982)؛ كما أنه يزيد عن الخسائر البشرية التي تكبدتها إسرائيل في الانتفاضة الأولى، وجرّاء عمليات المقاومة اللبنانية (1982 ـ 2000)، بل وخلال مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني كلها، خلال الأعوام 1965ـ2000؛ وذلك رغم ظروف الحصار والأوضاع الصعبة التي يتعرضون لها، ورغم التفوق العسكري الإسرائيلي عليهم.
من الناحية السياسية، أيضا، لا شك أن إسرائيل استطاعت أن تضعف الكيان الفلسطيني، وأن تحاصر القيادة الفلسطينية، وأن تتملص من استحقاقات عملية التسوية، ولكنها، رغم كل ما فعلته، لم تستطع فرض املاءاتها السياسية على الفلسطينيين، ولا انتزاع الشرعية للمستوطنات أو للجدار الفاصل، وحتى مجلس الأمن في قراره رقم 1397 (2002) اعترف للفلسطينيين، وللمرة الأولى في تاريخه، بحقهم في إقامة دولة لهم. وفوق ذلك فقد استطاع الفلسطينيون بمعاناتهم وتضحياتهم إظهار إسرائيل على حقيقتها، كدولة استيطانيةـ استعماريةـ عنصرية، تمارس القوة والقهر لفرض سيطرتها على شعب آخر، ما أدى إلى تآكل مكانتها وصورتها على الصعيد الدولي، على صعيد الحكومات والرأي العام.
بالمقابل فإن إخفاق إسرائيل في فرض أجندتها السياسية والأمنية على الفلسطينيين، لا يعني أنها هزمت، وأن الفلسطينيين نجحوا في الانتصار عليها. فقد استطاعت إسرائيل أن تمعن فيهم قتلا وتدميرا، وأعاقت حقهم في تقرير المصير وإقامة دولتهم (بحسب تفاهمات التسوية كان من المفترض أن تعلن في مايو/أيار 1999). كما استطاعت أن تشوه شرعية مقاومتهم، بوصمها بالإرهاب.
خلاصة الأمر أنه في هكذا صراع، متداخل ومعقد وعميق، لا يوجد رابحون بالمعنى الخالص أو المطلق للكلمة، وحتى أنه لا يمكن الحديث عن تعادل، في صراع يستنزف فيه الطرفان قدراتهما وإمكاناتهما، ولكن بالتأكيد فثمة خاسرون هنا. وكما قدمنا، فثمة صعوبة في تحديد الهزيمة والانتصار في هذا الصراع الضاري والمفتوح، على الدم والدمار، وعلى معنى الوجود والهوية والتاريخ، بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
والنتيجة الواضحة تتبدّى اليوم في أن الطرفين المتصارعين هما أبعد ما يكونا عن النصر أو الهزيمة، بالمعنى الناجز أو الخالص، للكلمة، ما يعني أنه ثمة خسارة متحققة للطرفين المعنيين، بغض النظر عن تأثيراتها على كل منهما؛ ولعل هذا ما يفسر معنى العودة إلى وضع ما قبل سبتمبر/أيلول 2000، إي وضع ما قبل الانتفاضة، برغم كل المياه التي سارت في النهر!
وفي مثل هذه المعادلة الصراعية الصفرية فإن إسرائيل هي التي تتحمل المسؤولية عن هذا التدهور الحاصل، فهي الطرف الذي يحتل أرض الفلسطينيين ويغتصب حقوقهم، وهي الطرف الذي يمتلك أوراق القوة والتفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي والعلاقات الدولية، وهي الطرف الذي يدعى الانتماء لمنظومة عالم الحداثة والديمقراطية.
والحقيقة فإن إسرائيل تسخّر كل هذه الامتيازات لتعزيز احتلالها، وللتملص من عملية التسوية، والإمعان في استفراد الفلسطينيين والبطش بهم. وتفسير ذلك يكمن في طبيعة إسرائيل كدولة يهودية استيطانية وعنصرية، تحارب الفلسطينيين بدعاوى قبلية ودينية، تنتمي إلى عهود الحروب الوجودية والإستئصالية وشريعة الغاب.
الراجح الآن أن الطرفين المعنيين يتجهان لإعلان الخروج من هذه الجولة الصراعية المدمرة، ويعدان العدّة لجولة جديدة من العملية السياسية. ولكن الاقتصار على مجرد العودة إلى وضع ما قبل الانتفاضة، على أهميته، لا يكفي لأن الواقع يتطلب معالجة العوامل التي دفعت للانتفاضة، من أساسها، أي أنه يتطلب وضع حد نهائي للاستيطان ومصادرة الأراضي والانتقال جديا إلى مرحلة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع، وإقامة دولة فلسطينية.
ولا شك أن هذه المسارات تتطلب تدخلا فعالا ومنتجا من المجتمع الدولي، وخصوصا من الولايات المتحدة؛ لأن الوصول إلى هذه النتيجة يمكن أن يسهم وبشكل كبير في إنقاذ هذه المنطقة من مناخات الحروب والعنف والتطرف والتخبطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهكذا فإن الكرة الآن هي في الملعب الإسرائيلي والأميركي أكثر من أي أحد آخر.