لم تكن العملية التي نفّذها عبد الله بدران ليلة السبت (26/2)، في ملهى في تل أبيب، نسيج وحدها ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة لأسباب ذاتية وموضوعية متعددة، أولها وأساسها، أن إسرائيل لم توقف أعمال القتل والتدمير بحق الفلسطينيين، وأنها مستمرة في مخططاتها لتعزيز الاستيطان ومصادرة الأراضي وبناء جدار الفصل العنصري، لعرقلة وتقييد مقومات الاستقلال الفلسطيني؛ وثانيها، أن بعض الفصائل الفلسطينية المعارضة استمرأت هذا الشكل لبساطته، وكلفته القليلة، ولتوفّر المادة البشرية، من المتظلمين والمتضررين من الاحتلال، والذين يسعون للثأر من تنكيله وعسفه؛ وثالثها، أنه ثمة علاقة تداخل وتفاعل بين الأوضاع في فلسطين المحتلة والأوضاع الإقليمية، ولاشك أن التوتّر في أي منهما ينعكس على الآخر، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وبمعزل عن الحالة "الصوفية" التي يتمثّلها الاستشهادي (المنفّذ)، الذي يروم فعلا بطوليا يضحّي عبره بحياته، للدفاع عن شعبه وتحرير وطنه، فإن الجهات السياسية التي تقف وراء هكذا عمليات تتوخّى، على الأغلب، تعزيز مكانتها في الساحة الفلسطينية، والتعويض عن ضعف مساهمتها بصنع القرار فيها، من خلال فرض نوع من الفيتو على توجهات القيادة والسلطة، عبر هذا الأسلوب تحديدا؛ بمعزل عن الجدوى السياسية، وبتجاهل لردود الفعل القاسية التي تستدعيها تلك العمليات، من قبل إسرائيل، التي تمعن قتلا وتدميرا في الفلسطينيين، بمناسبة هذه العمليات أو بدعوى وضع حد لها.
الأهم من كل ذلك أن بعض الجهات الفلسطينية المعارضة، لا سيما تلك المحسوبة على تيار "الإسلام السياسي" لا تخفي حقيقة وجود أجندة أو رؤية خاصة بها، لا تنسجم تماما مع برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني، المتمثل بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، ما يجعل الصراع ضد إسرائيل مطلقا، بالزمان والمكان وبالوسائل، وكأنه خارج حسابات السياسية وموازين القوى.
برغم ما تقدم من ملاحظات، فإن عملية تل أبيب بدت وكأنها جاءت من خارج السياق ذاته لأجندة المنظمات الفلسطينية المعارضة للتسوية، فهذه المنظمات، ولا سيما حركتي حماس والجهاد الإسلامي، أعربت جهارا نهارا عن تنصلها من المسؤولية عن هذه العملية، وحتى أنها أكدت التزامها بالتفاهمات التي توصلت إليها مع الرئيس الفلسطيني الجديد (أبو مازن) بشأن التهدئة وإعطاء فرصة جديدة للدبلوماسية والمفاوضات؛ استجابة لحاجات الوضع الفلسطيني وللمطالبات الإقليمية والدولية.
ولا شك أن تنصّل المنظمات المذكورة من هذه العملية أفاد في عدة مجالات، إذ حدّ من ردّة الفعل الإسرائيلية، ومن محاولات حكومة إسرائيل التشكيك بالتفاهمات التي توصلت إليها السلطة مع هذه الفصائل، هذا أولاً؛ ثانياً، جنّبت هذه الفصائل نفسها من تبعات الدخول في مواجهات مباشرة مع السلطة، وأكدت سعيها لعقد مقاربة سياسية برغماتية معها، ما يجعلها في موقع المفاوض الشريك لها؛ ثالثاً، أضفى هذا التنصّل نوعاً من المسؤولية والصدقية على هذه المنظمات وعلى السلطة في الشارع الفلسطيني، الذي بات يتوق للتهدئة لالتقاط أنفاسه واستعادة قواه، بعد أكثر من خمسين شهرا من المواجهات الدامية والمدمرة.
مع ذلك كله فمن الواضح أن ثمة إشكالية في هذا الموقف الذي يشكّل سابقة غير معهودة في موقف حركتي حماس والجهاد الإسلامي (خصوصا الأخيرة التي تبيّن أن منفّذ العملية ينتمي إليها)، كونه يتعارض مع منطلقات وأجندة وأسلوب عمل هاتين الحركتين.
في هذا الإطار يمكن القول بأن تنصّل حركتي حماس والجهاد الإسلامي من هذه العملية، بغض النظر عن الذرائع الذي يتغطّى بها الآن، ربما يشرع النقاش مجددا على إمكانية مراجعة هذا الشكل من العمل الذي أضرّ بالساحة الفلسطينية وبالانتفاضة وحتى بشرعية المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال، داخليا وخارجيا.
على أية حال فإن هذه العملية، كما كثير من العمليات السابقة من ذات الطراز، لم تكن مواتية على الإطلاق لمصالح الفلسطينيين، من حيث المكان وطبيعة الهدف والتوقيت السياسي، وأيضا من حيث المعطيات المحلية والإقليمية والدولية.
فهذه العمليات تؤكد افتقار الفلسطينيين لاستراتيجية سياسية واضحة وموحدة، واستشراء حال الفوضى في مقاومتهم لإسرائيل، التي يبدو أنها لا تخضع لحسابات سياسية تخدم الهدف العام، بقدر خضوعها لحسابات فصائلية ضيقة.
ومثلا، فإن عملية تل أبيب لم تحدث ضد المستوطنين والعسكريين في الضفة والقطاع، وإنما حدثت في مجرد ملهى يرتاده المراهقون داخل مدينة في مناطق 48، ما يعزز من الانطباع، الذي تروّجه إسرائيل، من أن هدف الفلسطينيين لا يتعلّق بإنهاء الاستيطان والاحتلال وإقامة دولة لهم، فقط، وإنما يتعلق بقتل الإسرائيليين وتدمير إسرائيل؛ ثانيا، إن هذه العملية جاءت لتضعف من صدقية وأهلية السلطة الوطنية، التي تسعى للتهدئة ولإثبات نجاعة دورها في قيادة المجتمع الفلسطيني، ولكشف محاولة إسرائيل التملص من عملية التسوية، أمام المجتمع الدولي؛ ثالثا، تأتي هذه العملية في وقت يشهد فيه المجتمع الإسرائيلي استقطابات واسعة ضد المستوطنين ولصالح انسحاب إسرائيل من قطاع غزة وتفكيك بعض مستوطنات الضفة، بعد أن ثبت أنها عبء امني وسياسي واقتصادي على إسرائيل، ما يمهد لإنهاء الاحتلال، الذي بات مكلفا لإسرائيل على حد تعبير شارون ذاته؛ رابعا، جاءت هذه العملية في توقتيها السياسي والحكومة الإسرائيلية بصدد سحب قواتها من عدة مدن فلسطينية، كما أنها جاءت قبيل انعقاد مؤتمر لندن الدولي لدعم السلطة الفلسطينية، وقبيل الحوار الفلسطيني المزمع عقده بين الفصائل المعارضة والسلطة الفلسطينية.
وكما قدمنا فإن هذه العملية ليست نسيج وحدها، فمن المعلوم أن بعض المنظمات كرست نفسها، خصوصا منذ بداية الانتفاضة، للعمليات التفجيرية، التي تجلب غطاء إعلاميا كبيرا، وتعوّض عن الحضور الجماهيري لهذه المنظمات، وتخاطب عواطف الشارع الفلسطيني، وتجعل هذه الفصائل شريكا غير مباشر للسلطة، وإن لم تحظ باعتراف شرعي بها على هذا الأساس.
فمنذ انطلاق الانتفاضة شكلت العمليات التفجيرية (الاستشهادية) علامات فارقة في مسيرة المواجهات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، التي دارت خلال الخمسين شهرا الماضية. وقد أسهمت هذه العمليات وبشكل كبير في رفع مستوى الصراع بين الطرفين، من صراع سياسي على شكل الوجود، يعنى باستعادة الحقوق الفلسطينية، إلى صراع غريزي على الوجود ذاته (إما نحن أو هم).
وللأسف فإن إسرائيل، برغم تضررها، استطاعت تجيير هذه العمليات لصالحها، من الناحية السياسية والاستراتيجية، إذ تمكنت عبرها من تشديد الحصار على الفلسطينيين، وتغطية إعادة احتلالها المدن الفلسطينية، وتبرير محاولاتها تقويض الكيان الفلسطيني والتملص من عملية التسوية نهائيا.
كما أن إسرائيل عملت، بذريعة هذه العمليات، على عزل القدس عن فعاليات الانتفاضة، فأغلقت بيت الشرق، ومنعت السلطة من أي نشاط وطني فيها، وحرمت الفلسطينيين حتى من التوجه للصلاة في المسجد الأقصى، كما أنها تمكنت تحت هذه الذريعة بالذات من بناء جدار الفصل العنصري، الذي يقتطع أجزاء واسعة من أراضي الفلسطينيين؛ هذا إضافة إلى أنها استطاعت من تنفيذ عشرات عمليات الاغتيال التي أودت بصف واسع من القياديين والناشطين الفلسطينيين.
وفوق كل ذلك فقد تمكنت إسرائيل على الصعيد الدولي، إلى حد ما، من وصم الفلسطينيين بالإرهاب، وهم ضحايا الاحتلال، محاولة في ذلك نزع الطابع الأخلاقي عن الكفاح الفلسطيني والنيل من شرعيته، وتصوير ذاتها باعتبارها ضحية! ومعروف أن هذه العمليات على الصعيد الإسرائيلي أسهمت في طمس التناقضات الإسرائيلية، وعززت التفاف الإسرائيليين من حول حكومة شارون، وأضعفت قوى السلام في المجتمع الإسرائيلي، لصالح القوى اليمينية المتطرفة.
المعنى من كل ذلك أن المقاومة وإن كانت حقا مشروعا للشعب الذي يخضع للاحتلال، إلا أنها ليست حقا مطلقا، في الزمان والمكان والأشكال ونوع الهدف. فهذه المقاومة حتى تؤتي ثمارها، ينبغي أن تخضع لمعايير محددة، أهمها: أنها تتركز ضد الاحتلال، وترتبط بالهدف السياسي الواضح والمعلن، وتراعي تناسب القوى وقدرة الشعب على التحمّل، وتساهم في تأجيج التناقضات لدى المحتلين، وتكسب تعاطف المجتمع الدولي، وأيضا أنها تمارس الكفاح بوسائل مشروعة وأخلاقية تتناسب مع القضية النبيلة التي يجري التضحية من أجلها؛ برغم من أنها تتحمل في سبيل ذلك الكثير، لإظهار العدو على حقيقته على شكل دولة استعمارية وعنصرية تمارس القوة لإبقاء الاحتلال وللسيطرة على الشعب الآخر.