المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ضــــد الـمـــــوت

الياس خوري

مادا بعد الادانة؟

من الواجب - السهل ادانة العملية الانتحارية ضد مقر الأمم المتحدة في بغداد. فالعملية تحمل طابعاً عدمياً، عدا طبيعتها الاجرامية التي أودت بحياة الابرياء. انها دعوة الى تدمير احتمالات المستقبل العراقي، عبر اعادة بلاد الرافدين الى مربّع الموت الذي صنعه صدام حسين وجورج بوش. محاولة لاخراج الأمم المتحدة من العراق بالدم، لا هدف لها سوى تعرية العراق من كل أمل، وتحويل بغداد حاضنة للموت والفوضى وترك الشعب العراقي في الحرائق، عارياً ومكشوفاً تحت النار الاميركية، التي لا تملك الرؤية او الارادة من اجل المحافظة على وحدته. انها دعوة الى "طلبنة" العراق وتحطيمه.

تخريب المخرّب وتحطيم المحطّم، هو الهدف الذي يلتقي على تحقيقه اليمين الاميركي المتطرف، والفاشية العربية أكانت قوموية أم اصولية.

ومن الواجب - الصعب ادانة العملية الانتحارية في القدس الغربية. انه واجب لأن الاخلاق لا تتجزأ، ولأن قتل المدنيين يجب ان يُدان في الظروف كلها.

المقاومة فعل اخلاقي اولاً، وهدفها الدفاع عن الحياة. من هنا فإن التورط في مسلسل دموي لا نهاية له، يقود المقاومة الى السقوط في الفخ الذي حفره لها اليمين الاسرائيلي المتطرف، الذي لا يريد السلام، بل يسعى الى تأبيد الاحتلال.

الصعوبة ليست اخلاقية او سياسية، بل ظرفية. انها ناجمة عن الوضع المعقّد في فلسطين، حيث تحاول اسرائيل الشارونية فرض تفسيرها الخاص لخريطة الطريق ووقف اطلاق النار. وهو تفسير قائم على تأكيد حريتها في متابعة سياسة القتل وتهديم البيوت والاستيطان، على ان لا يتمتع الفلسطينيون بحق الرد.

ليس منطقياً ان لا ترد الضحية او ان لا تدافع عن نفسها. غير ان السؤال يتمحور حول الوسيلة. فالعمليات الانتحارية صارت تشبه البديهة في الثقافة العربية والفلسطينية، وهي تستند الى مجموعة من الحجج التي آن وقت مناقشتها، قبل ان يفوت الاوان وينتهي الكلام.

الحجة الاولى سياسية. انها سلاح الضعفاء يقولون. فاذا كان الاسرائيليون يمتلكون احدث انواع الاسلحة، فإن الفلسطينيين لا يمتلكون سوى سلاح موتهم، وهو سلاح لا يمكن صدّه، لأنه السلاح الاخير.

الحجة الثانية فكرية، وتستند الى مقولة عدم وجود مدنيين في اسرائيل. اسرائيل مجتمع عسكري، وكل مدنييها عسكريون، لا يستثنى من ذلك الشيوخ، وهم عسكريون سابقون، او الاطفال، وهم عسكريون لاحقون!

الحجة الثالثة دينية، وتقوم على تقديس الشهادة.

الحجج الثلاث تحكمها تناقضات، داخلية كبيرة، مما يجعلها متهافتة منطقياً وسياسياً. فاذا كان الفلسطينيون ضعفاء عسكرياً، مثلما تقول الحجة، فإن عليهم صوغ سياستهم على هذا الاساس. ماذا لو ساد منطق عدم وجود مدنيين في الشعبين؟ مَن سوف يردع القوة العسكرية الاسرائيلية العمياء؟ كيف يقاوم الضعفاء من دون التمسك بأخلاق الدفاع عن قدسية الحياة؟ ألا يقود عدم احترام الصفة المدنية للناس الى تدمير الشرعية الاخلاقية للمقاومة؟ هل تستطيع مقاومة عادلة ان تتبنى اساليب تفتقر الى العدالة والحكمة؟ ثم، من فرض تأويلاً دينياً وحيداً؟ وإلامَ يستند هذا النوع من الخطاب الاصولي؟ هل صار العقل خارج المعادلة؟ أم هل يستخدم التأويل الاصولي من اجل استعجال حرب اهلية فلسطينية لن تكون سوى الكارثة في عينها.

في مواجهة السياسة العنصرية الاسرائيلية، التي تشكل الوحشية احدى سماتها الاساسية، يجب ان يسود خطاب سياسي اخلاقي وعقلاني في فلسطين، والا فإن القضية معرضة لمحنة كبرى. هذا لا يعني قبول الاملاءات الاسرائيلية ــ الاميركية، بل على العكس، انه شرط رفضها ومقاومتها، عبر استعادة الارض الاخلاقية في وصفها ارض الصراع.

ادانة العمليتين، هي مقدمة لرفض الربط المحتمل بينهما. منذ الحادي عشر من ايلول، واسرائيل تسعى الى ربط الانتفاضة بالعدمية الاصولية التي صنعت جنون الطائرات في سماء نيويورك. الربط يُريح اسرائيل اخلاقياً، لانه ينسي الرأي العام العالمي الاحتلال، محوّلاً الجلاّد العنصري الاسرائيلي ضحية لارهاب دولي أعمى.

غير ان الربط، للاسف، لم يكن اسرائيلياً فقط، بل وجد جذوره الفكرية العربية في الاحباط والفشل والهزائم، وتغذى من ايديولوجيا الوهم التي صنعتها الانظمة الديكتاتورية والاصولية العربية، التي حولت اللغة لغواً، ولم تترك فسحة للحرية او الهواء. ان عقوداً من المال النفطي الاصولي، ومن الارهاب الفكري والسياسي، اوصل المشرق العربي الى ما يشبه الموت السريري. وفي الموت وحده، يستطيع انبياء الظلام الكذبة، ان يستولوا على الشرعية السياسية الغائبة، وان يؤسسوا لمناخ تسود فيه لغة الموت، وتسيطر عليه اشباح قيام الساعة.

اللعبة مزدوجة، لذا تبدو مثل حلقة مفرغة. دولة حديثة تدعى اسرائيل، تطلق جميع الغرائز الدينية والعنصرية، بدعم من العته الاصولي الاميركي، وتستنفر لغة موازية يتبناها المغلوب، حافراً بكلماته القبر الذي يدفعه اليه عدوه.

وهنا تكمن المشكلة الكبرى التي لها اسم واحد هو موت السياسة. اذ ان قوة الدفع التي تمتلكها هذه اللغة المزدوجة المسيطرة، تقود الى ما يشبه الموت العبثي والانفجار العدمي. القتال يتحول قتلاً وينفصل عن مشروعه السياسي، بل ويفقد المشروع برمته، فتصير المنطقة جسداً متلاشياً، وردود فعل لا عقلانية، وعمليات لا هدف لها، مثلما نشهد ذلك في العراق، او عمليات تخطئ هدفها، وتقوّض شرعيتها الاخلاقية.

انه الموت.

المشرق العربي في قلبه الفلسطيني وجسده العراقي، يتعرض لعاصفة موت عاتية، تريد له الخروج من السياسة، وتحاول طرده من التاريخ. وفي أزمنة هذا النوع من التأزم، لا يعود التحليل السياسي ممكناً، بل تستسلم النخب السياسية للغرائز، وتعرّض الشعوب لامتحان التفكك والعبثية والفوضى.

كيف نكون ضد الموت؟

الادانة الاخلاقية لا تكفي وحدها، بل قد تصبح جزءاً من لعبة الموت، لانها تستقيل من واجبها، وتكتفي بالقول وحده، في زمن يحتاج القول الى رؤية جديدة، تنقذ اللغة من موتها.

وهذا لا يتحقق الا بعودة السياسة، اي بعودة القيم الاخلاقية الى مكانتها. مقاومة الغزاة لا تكون الا بمبادئ الحرية والعدالة والاستقلال. اي بالدفاع عن حق الانسان العربي في الوجود، عبر دعوته الى الدفاع عن الحياة، لأنها مصدر كل القيم.

ملحق النهار – 24/8/2003

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات